أصبح اسمُ " نغم صبيح" حديثَ الساعة . احتلتْ قضيتُها جميعَ وسائلِ الإعلام على اختلاف توجهاتها . كانوا قد عثروا على جثة " نغم" بالصدفة وقد تم طعنُها إحدى عشرة طعنة في أماكن متفرقة من جسدها ثم لُفَّتْ بغطاء أزرق كالح وأُلْقِىَ بها في أحدِ الشَّوارعِ الجانبيةِ المظلمةِ . شَغَلَتْ القضيةُ الرأيَ العامَّ ، وأثارتْ ملابساتُها تَكَهُّنَاتٍ عِدَّةٍ..! فقد فشلتْ التحرياتُ في فكِّ طلاسمِ القضيةِ فكلُّ المشتبهِ بهمْ أبرياءٌ والباعثُ عليها مبهمٌ ولم تكن هناك أداةٌ للجريمةِ . حينها قُيِّدَتْ القضيةُ ضدَّ مجهولٍ . وجاء تقريرُ الطِّبِّ الشَرْعِيّ كاشفاً لبعضِ الدِّلالاتِ الحياديةِ تماماً متمثِّلاً في أنًّ القتيلةَ - وقتُ حدوثِ الجريمةِ – لمْ تقاومْ عُنْفَاً ، ولم تُفَضْ بكارتُها ، ولم يُسرَقْ من أعضائِها شيئاً . ازداد لغَطُ الناسِ وارتباكُهم وعمَّتهم الحيرةُ .. أمَّا الشبابُ المتحمِّسون كثيراً و الذين هم في مثل عمرِها فقد أنشأوا صفحةً خاصةً لها على " فيس بوك " وأسمَوْهَا " قَتْل " كانت الصفحة تُظهر صورتَها ضاحكةً ، اسمَهَا كاملاً، شعرَها مسترسلاً ، عمرَها الذي لم يتجاوز السادسةَ عشر ، لون عينيها التبغيّ ، لونها المفضَّل ، وأيضاً ما كانت تحلم به وتتمناه لنفسها ولأهلها ولبلدها . تبادل الناس فيما بينهم صورتها عبر رسائل ال " اس ام اس " مقترنا بسؤال ملح من قتل الفتاة البريئة..؟؟؟
وانبثقت بؤرةُ تكهُّناتٍ واحتمالاتٍ شتَّى راحت تتسع شيئا فشيئا.. كان متابعو "انستجرام" يتجادلون فيما بينهم عن احتمال كون الفتاة داعرة ، فاجرة وأن عذريتها ليست دليلا مؤكدا على حسن سلوكها . أما بعض المتابعين لصفحة " قتل" فقد عبَّروا عن الكثير من الشكوك التي ساورتهم عن كون الفتاة لصة تنتمي لإحدى العصابات المتخصصة في سرقة الآثار وأنها ربما تكون قد احتفظت بقطعة من "الرأس الفرعوني" المقسم لثلاث لتساوم على حصتها في الصفقة . كما حلَّق الخيالُ بأحدهم فعبَّر عن إحساس جارف يرقى لليقين كما تقويه الأدلة والبراهين من شكل الفتاة ، ضحكتُها ، ملابسُها بأن الفتاة كانت قوَّادة ،تهيِّئ الزمان والمكان نظير المال فتشاجرت مع أحدهم وقد كان متعاطيا للمخدرات فطعنها وهو يهذي غير مبال ثم ولَّى هاربا... ؟؟ لكنَّ آخرين هبُّوا للدفاع عنها وتبرئتها مؤكدين على طهارتها ومشككين في كونها قد تعرضت لمحاولة اغتصاب من أحدهم فقتلها حين قاومته وبلَغتِ الافتراضاتُ مداها حين ذهب أحدُهُم إلى افتراض أنها سحاقية تشاجرت مع قرينتها فطعنتها -انتقاما- عند الفراق . ولّما لم يعد هناك ما يُقال ، صمتت كلُّ الاحتمالات . وتوقفت أيدي المتابعين عن نشر علامات الإعجاب ، النكزات والتعليقات . حتى ظهرت تغريدة صغيرة كتبها أحدهم على تويتر " القتيلة شاهدة على جريمة كبرى "" عندها اتفق البشرُ جميعا دون جدالٍ ، رامين بعرض الحائط كلَّ احتمالاتهم وفرضياتِهم الأخرى..!!
وبزغ فجرٌ جديدٌ من الأسئلة المغايرة حيث استقرَّ في قلوبهم جميعا وعلى اختلاف أعمارهم ،دياناتهم ، ميولهم براءة نغم فاتجهوا بعقولهم نحو منحى آخر أكثر خطورة كادت تنزلق أقدامُهم فيه . تساءلوا- بثبات - عن نوع الجريمة التي كانت " نغم" شاهدةً عليها والتي تخص واحدا من كبراء البلد وسادتها !! أهي قتل أم سرقة أم زنى .... أم تجارة بالأعضاء ؟؟؟ ازداد عدد المتابعين لصفحة " قتل " حتى وصل عددهم لأكثر من عشرة ملايين، ووُلِدَ يقين جماعي أخذ يكبر قويَّاً بأن" نغم صبيح" ما كانت إلا " الشاهد الوحيد " على جريمة بشعة قد حدثت لذا كان لابد من التخلص منها . تحركت وزارة الداخلية ردا على هذا الطوفان الهادر فأصدرت بيانها الذي فاجأ الجميع : " نغم صبيح " فتاة عمياء فقدت بصرها وهى طفلة صغيرة !!" ولازم البيانَ قرارٌ من النائب العام بحظر النشر في القضية . خَفَتَ وهَجُ الصفحة ، وأهملها القائمون عليها حين خَفت لهيبُ الحديث عن القتيلة على كافة الأصعدة. ولم تمض سوى أيامٍ قليلةٍ ، ظهرت بعدها صفحة جديدة مختلفة تماما عن صفحة" قتل" وسميت الصفحة باسم "ذاكرة بصرية " واستطاعت الصفحة أن تحظى بإعجاب الملايين فقد كانت الصفحة تتسم بالفكاهة والنكات البذيئة ،الوقحة فيما كان المتابعون يناوشُ بعضهم بعضا وكأنهم يعرفون بعضهم جيداً ، وراحوا يتساءلون فيما بينهم عن قدرة الذاكرة البصرية على الاحتفاظ بالتفاصيل الدقيقة..؟؟؟
وراحوا يضربون لأنفسهم مثلا عن قصة " رجلٍ ما " كان يقود عربته الفارهةَ ذات " ماركة ما " وقد أفقده السُّكرُ وعيَهُ فصدم " أحدا ما " فأرداه قتيلا وقبل أن يفر راح يتلفت يمينا ويسارا ليتأكد من أن أحدا لم يره فإذا به أمام "فتاة ما" تعبر الطريق ببطء ممسكةً بحبل يجره أمامها " كلبٌ ما" . راح المغردون يسألون بعضهم : هل كانت عينا القاتل في التفاتته السريعة المرتبكة قد استوعبت أن الكلب المقيد يجر فتاة كفيفة ؟؟! في الصباح كتب أحدهم على (انستجرام) مطالبا الناس بثورة عارمة والنزول إلى الميادين احتجاجا رافعين مطالبَهم بحتمية القبض على الكلب ، والتحقيق معه وتعذيبه إن اقتضى الأمر في أحد مراكز الشرطة حتى يُقِرَّ بالحقيقة ؟؟ مؤكدين على إصرارهم بعدم إعطائه فرصةً للهرب أو الادعاء كذبا بنسيان ما حدث ، ثم تقديمه كأقرانه للمحاكمة العادلة . وفي محاولة أخيرة للتهدئة ظهر بيانٌ صغير في إحدى الجرائد الرسمية عن قرب إعادة " فتح القضية " فانتابت الجميع فرحة غامرة وازداد حديثهم وعمقت تأملاتهم الفلسفية والعلمية عن كل أنواع الذاكرة ! فراحوا يتحدثون عن " ذاكرة الزمن "و" ذاكرة السمك " و" ذاكرة الحجر " و" ذاكرة التراب " و" ذاكرة الدم " و"ذاكرة التاريخ "و" الذاكرة العطنة " و" ذاكرة الماء" و"ذاكرة الطين " وبعضهم تحدث أيضا عن " ذاكرة العنكبوت " و"ذاكرة الفيلة " ووصف أحدهم الذاكرة بالأنثوية فرد عليه الأكثر علما متحدثا عن " نكاح الذاكرة " و" الذاكرة المثلية ". وسقطت " نغم صبيح " من ذاكرتهم المتَّقدة بالجدل فاختفت تماما من أحاديثهم ، تعليقاتهم ، تغريداتهم وكأنها لم تكن احتذاءً منهم جميعا " لذاكرة الخوف " وذاكرة " الامتثال المتوارثة " والتي تجعل أصحابها بعيدين تماما عن وطأة العقاب أو الإحساس المفرط بالذنب فالأمر وراثي بحت ليس لهم حيلة فيه ، أو ربما لهم بعض حيلة لكنهم آثروا الهدوء والسلامة ... فمن يدرى عنهم...؟؟
د وفاء الحكيم
طبيبة اطفال \ قاصة \ عضو اتحاد كتاب مصر
وانبثقت بؤرةُ تكهُّناتٍ واحتمالاتٍ شتَّى راحت تتسع شيئا فشيئا.. كان متابعو "انستجرام" يتجادلون فيما بينهم عن احتمال كون الفتاة داعرة ، فاجرة وأن عذريتها ليست دليلا مؤكدا على حسن سلوكها . أما بعض المتابعين لصفحة " قتل" فقد عبَّروا عن الكثير من الشكوك التي ساورتهم عن كون الفتاة لصة تنتمي لإحدى العصابات المتخصصة في سرقة الآثار وأنها ربما تكون قد احتفظت بقطعة من "الرأس الفرعوني" المقسم لثلاث لتساوم على حصتها في الصفقة . كما حلَّق الخيالُ بأحدهم فعبَّر عن إحساس جارف يرقى لليقين كما تقويه الأدلة والبراهين من شكل الفتاة ، ضحكتُها ، ملابسُها بأن الفتاة كانت قوَّادة ،تهيِّئ الزمان والمكان نظير المال فتشاجرت مع أحدهم وقد كان متعاطيا للمخدرات فطعنها وهو يهذي غير مبال ثم ولَّى هاربا... ؟؟ لكنَّ آخرين هبُّوا للدفاع عنها وتبرئتها مؤكدين على طهارتها ومشككين في كونها قد تعرضت لمحاولة اغتصاب من أحدهم فقتلها حين قاومته وبلَغتِ الافتراضاتُ مداها حين ذهب أحدُهُم إلى افتراض أنها سحاقية تشاجرت مع قرينتها فطعنتها -انتقاما- عند الفراق . ولّما لم يعد هناك ما يُقال ، صمتت كلُّ الاحتمالات . وتوقفت أيدي المتابعين عن نشر علامات الإعجاب ، النكزات والتعليقات . حتى ظهرت تغريدة صغيرة كتبها أحدهم على تويتر " القتيلة شاهدة على جريمة كبرى "" عندها اتفق البشرُ جميعا دون جدالٍ ، رامين بعرض الحائط كلَّ احتمالاتهم وفرضياتِهم الأخرى..!!
وبزغ فجرٌ جديدٌ من الأسئلة المغايرة حيث استقرَّ في قلوبهم جميعا وعلى اختلاف أعمارهم ،دياناتهم ، ميولهم براءة نغم فاتجهوا بعقولهم نحو منحى آخر أكثر خطورة كادت تنزلق أقدامُهم فيه . تساءلوا- بثبات - عن نوع الجريمة التي كانت " نغم" شاهدةً عليها والتي تخص واحدا من كبراء البلد وسادتها !! أهي قتل أم سرقة أم زنى .... أم تجارة بالأعضاء ؟؟؟ ازداد عدد المتابعين لصفحة " قتل " حتى وصل عددهم لأكثر من عشرة ملايين، ووُلِدَ يقين جماعي أخذ يكبر قويَّاً بأن" نغم صبيح" ما كانت إلا " الشاهد الوحيد " على جريمة بشعة قد حدثت لذا كان لابد من التخلص منها . تحركت وزارة الداخلية ردا على هذا الطوفان الهادر فأصدرت بيانها الذي فاجأ الجميع : " نغم صبيح " فتاة عمياء فقدت بصرها وهى طفلة صغيرة !!" ولازم البيانَ قرارٌ من النائب العام بحظر النشر في القضية . خَفَتَ وهَجُ الصفحة ، وأهملها القائمون عليها حين خَفت لهيبُ الحديث عن القتيلة على كافة الأصعدة. ولم تمض سوى أيامٍ قليلةٍ ، ظهرت بعدها صفحة جديدة مختلفة تماما عن صفحة" قتل" وسميت الصفحة باسم "ذاكرة بصرية " واستطاعت الصفحة أن تحظى بإعجاب الملايين فقد كانت الصفحة تتسم بالفكاهة والنكات البذيئة ،الوقحة فيما كان المتابعون يناوشُ بعضهم بعضا وكأنهم يعرفون بعضهم جيداً ، وراحوا يتساءلون فيما بينهم عن قدرة الذاكرة البصرية على الاحتفاظ بالتفاصيل الدقيقة..؟؟؟
وراحوا يضربون لأنفسهم مثلا عن قصة " رجلٍ ما " كان يقود عربته الفارهةَ ذات " ماركة ما " وقد أفقده السُّكرُ وعيَهُ فصدم " أحدا ما " فأرداه قتيلا وقبل أن يفر راح يتلفت يمينا ويسارا ليتأكد من أن أحدا لم يره فإذا به أمام "فتاة ما" تعبر الطريق ببطء ممسكةً بحبل يجره أمامها " كلبٌ ما" . راح المغردون يسألون بعضهم : هل كانت عينا القاتل في التفاتته السريعة المرتبكة قد استوعبت أن الكلب المقيد يجر فتاة كفيفة ؟؟! في الصباح كتب أحدهم على (انستجرام) مطالبا الناس بثورة عارمة والنزول إلى الميادين احتجاجا رافعين مطالبَهم بحتمية القبض على الكلب ، والتحقيق معه وتعذيبه إن اقتضى الأمر في أحد مراكز الشرطة حتى يُقِرَّ بالحقيقة ؟؟ مؤكدين على إصرارهم بعدم إعطائه فرصةً للهرب أو الادعاء كذبا بنسيان ما حدث ، ثم تقديمه كأقرانه للمحاكمة العادلة . وفي محاولة أخيرة للتهدئة ظهر بيانٌ صغير في إحدى الجرائد الرسمية عن قرب إعادة " فتح القضية " فانتابت الجميع فرحة غامرة وازداد حديثهم وعمقت تأملاتهم الفلسفية والعلمية عن كل أنواع الذاكرة ! فراحوا يتحدثون عن " ذاكرة الزمن "و" ذاكرة السمك " و" ذاكرة الحجر " و" ذاكرة التراب " و" ذاكرة الدم " و"ذاكرة التاريخ "و" الذاكرة العطنة " و" ذاكرة الماء" و"ذاكرة الطين " وبعضهم تحدث أيضا عن " ذاكرة العنكبوت " و"ذاكرة الفيلة " ووصف أحدهم الذاكرة بالأنثوية فرد عليه الأكثر علما متحدثا عن " نكاح الذاكرة " و" الذاكرة المثلية ". وسقطت " نغم صبيح " من ذاكرتهم المتَّقدة بالجدل فاختفت تماما من أحاديثهم ، تعليقاتهم ، تغريداتهم وكأنها لم تكن احتذاءً منهم جميعا " لذاكرة الخوف " وذاكرة " الامتثال المتوارثة " والتي تجعل أصحابها بعيدين تماما عن وطأة العقاب أو الإحساس المفرط بالذنب فالأمر وراثي بحت ليس لهم حيلة فيه ، أو ربما لهم بعض حيلة لكنهم آثروا الهدوء والسلامة ... فمن يدرى عنهم...؟؟
د وفاء الحكيم
طبيبة اطفال \ قاصة \ عضو اتحاد كتاب مصر