يكون السارد دائماً مراقباً، ناظراً ومشاهداً، بعيداً عن النص، والرواة والقصاصون يحبون السرد لأنه يمنحهم مساحة أكبر للحركة، فيستخدمون الراوي كشخصية مفهومية، تستقل عنهم وتأتلف بهم.
ويبدو أنني سأخالف هذه النزعة لأكون جزءً من شخصيات هذه القصة، إذ أنني متأكد بأنها لن تصل لمسامع الناس إلا بمعجزة، فأمامنا ينبسط الزمن بلا نهاية محتملة..سأدون القصة باختصار شديد وأضعها داخل زجاجة وأغلق الزجاجة بغطاء المطاط، وهكذا سيكون من المحتمل أن تطفو الزجاجة يوماً ما ويلتقطها طفل يبني قصراً من الرمال في شاطئ يطل على المحيط.
نعم إنني يائس جداً، محبط، ومع ذلك فلا زلت محتفظاً بتماسكي، أحاول دفع الخوف بالكتابة. إنني أكتب وأكتب وأكتب، محاولاً تخليد ذكراي كسمكة ناطقة، ضمن قرابة سبعين سمكة أخرى في سفينة.
سأعود إلى الوراء، لا أعرف قليلاً كان ذلك أم كثيراً، لكنني سأتجاهل الزمن، معتمداً على الموضوع.
لقد كانت لحظة تعيسة من لحظات وجودي في هذا العالم، تلك اللحظة التي ليس بإمكان إمرء أن يعرف ما بعدها أبداً، حيث تتسع ابتسامات الجميع، وهم يخطون -دون وعي- إلى قدرهم المرعب. تماماً كما حدث لأحد أجدادنا من الذين اعتزلوا الناس، ومضى بأغنامه إلى الصحراء، منتبذاً بكل شيء موقعاً خارج العالم. لقد ظن أنه انقطع عن العالم هو وأغنامه، لكنه لم يدرك أن العالم لم ينقطع عنه، ظل لسنوات لا يعرف شيئاً، ولا يريد أن يعرف شيئاً، لا الأزمات الإقتصادية، ولا الإنقلابات العسكرية، ولا الحروب الأهلية، حتى وجد نفسه يوماً محاطا بكتيبة من الجنود المتمردين الذين ضاعوا في الصحراء، فقتلوه وذبحوا أغنامه ونجوا من الموت على حسابه.
وهذا كان ذات موقفنا جميعاً عندما دلفنا بأقدامنا إلى مدخل السفينة الصغيرة هذي، كانت رحلة سريعة من أجل المتعة، اشتريت تذكرتي، ورأيت فتيات ضاحكات وثلاث أسر بأبنائهم وبناتهم، وزوجين عجوزين بالإضافة إلى جوقة كبيرة من الشباب من الجنسين يرتدون قمصاناً قرمزية مشتركة الشكل، علمت أنهم من أحد الأحزاب التقدمية، هذا بالإضافة إلى قبطان ومساعده ومهندس قصير نحيف.
لقد بدأت القصة بعد تحركنا من الميناء، وخروجنا من المياه الإقليمية حتى بلوغنا مشارف أعالي البحار، وكان ذلك إيذاناً بالعودة، لكن شيئاً ما قد حدث. شيئاً لم يكن في الحسبان، لقد وجدوا قائد شباب الحزب التقدمي مقتولاً في غرفته.
استيقظت صباح ذلك اليوم على جلبة ضخمة، صراخ وهرج ومرج، وحين خرجت وجدت جميع الركاب متجمهرين حول غرفة القتيل. أصر شباب الحزب على أن قائدهم قد قتل من أحد المندسين معهم من ضمن الجوقة، ورفعوا شعار القصاص. وكاد ان يحدث اضطراب عام، حين تبادل جميعهم الإتهامات لولا تدخل القبطان، الذي دعاهم إلى الهدوء:
- وفقاً للقانون فأنا المسؤول عن هذه السفينة الآن..هنا أتمتع بسلطات الضبط الجنائي، والتحقيق، سأجري بناءً على ذلك التحقيقات اللازمة، وسأقبض على المجرم وأودعه السجن وهو غرفة تحت السطح، مجهزة في الأصل لأقفاص الحيوانات الأليفة، وسوف أعين حارسا على زنزانته.
صاح احد الشباب القرمزيين معترضاً، وطالب بأن يترك شأن التحقيق لهم، غير أن القبطان، رفض إذ أن القانون لا يخول شخصاً غيره هذه السلطات، لكنه وعد بجعل أحدهم ضمن لجنة التحقيق. فصاحت فتاة من القرمزيين:
- ..نوح..نوح....
فتجاوب معها الباقون..
- نوح نوح..
فانفردت أسارير الشاب قليلاً بعد تجهمها، ومن نظرات الفتاة له أدركت أنهما يتبادلان الغرام..
تشكلت لجنة من القبطان رئيساً ومساعده والمهندس والشاب القرمزي نوح، وشخصي كأعضاء. ليكون للقبطان صوت مرجح. وهكذا كلفنا القبطان بعمليات التحري مع الركاب، وجمع الأدلة من مسرح الجريمة، وتحريزها وفقاً لضوابط السلامة التي حددها لنا. كما قمنا بتصوير الجثة وقام هو بكتابة تقرير توصيفي بالنظر عنها، قبل أن يتم قذفها في عرض البحر في مشهد مهيب، إذ بكى الشباب القرمزي والأسر وحتى القبطان، وهم يرون اختفاء الجثمان تحت الأمواج.
قمت بتصوير مسرح الجريمة، وحاول المهندس والقائد القرمزي إيجاد أي أدلة تشير إلى القاتل الحقيقي، غير أن المكان كان قد تم تنظيفه تنظيفاً جيداً من قبل القاتل.
كان الشباب القرمزي متوتراً، وازداد التوتر حين لم تخرج اللجنة ولو بنتائج أولية تدل على القاتل، وهكذا تعرض ممثلهم المدعو نوح للهجوم، فصعد في مكان مرتفع قليلاً وخطب فيهم:
- نحن جميعنا نعلم من القاتل..إنه أحد الخونة من المندسين معنا من شباب الحزب..
صاح قرمزي آخر:
- كل هذا بسبب سياسات الإنفتاح الأخيرة التي اتبعها الحزب..
فرد نوح:
- ليس هذا هو الوقت المناسب لنقد سياسات حزبنا..فالمهم أن هناك مندسين بيننا..
غير أن الآخر أصر:
- أنت والشهيد كنتما تمثلاننا كشباب للحزب عندما اتخذتم ذلك القرار مع اللجنة المركزية..أنت والشهيد مسؤولان عما حدث..
وبدا أن القرمزي الآخر يعمل على تحريض الباقين على نوح، فانبرت عشيقته تدافع عنه، غير أن دفاعها زادهم غلياناً إذ اتهمت الشاب بأن محاولاته لشق الصف في هذه المرحلة الحرجة تدليل على أنه هو المندس القاتل.
وبحصافة، قام نوح بتشكيل لجنة فرعية من المساعدين وجعل الشاب المعترض أحدهم. ولتأكيد جديته، قاد نوح لجنته واقتحم غرف الركاب لتفتيشها. فأثار ذلك رعباً من الأسر والزوجين العجوزين، فلجأوا إلى القبطان الذي حضر ووبخ نوح على ما فعله:
- إن تفتيش غرف الركاب وممتلكاتهم واجسادهم يخضع للقانون وليس بهذا الشكل الفوضوي.
فصاح الشباب القرمزي معترضين.
- القصاص القصاص.. لا يتم بقوانين تضيع الحقوق..
صاح القائد:
- إذا لم تتبعوا القانون فسوف لن يعترف القضاء بأي دليل تعثرون عليه .الأمر ليس فوضى..
قال الشاب القرمزي المعترض:
- ومن قال بأننا سننتظر القضاء لأخذ حق الشهيد؟
فصاح القرمزيون بابتهاج، وأمنوا على كلامه. فاعترض القبطان:
- ماذا ستفعلون لو وجدتم القاتل؟ هل ستقومون بقتله، لو فعلتم ذلك فستعاقبون بالإعدام جميعكم.
قال الشاب القرمزي:
- لن يعدموا قرابة خمسين من شبابنا، لو فكروا حتى في ذلك فسنحرك قواعدنا فوراً لقلب نظام الحكم بثورة شعبية عارمة. نحن الشعب والشعب نحن..
صاح القرمزيون مبتهجين، وصمت القبطان قليلاً ثم طلب من نوح والشاب القرمزي أن يتبعاه..
اجتمعنا كأعضاء في لجنة التحقيق وتم ضم الشاب القرمزي والذي يدعى ميراز إلى عضوية اللجنة، ثم طلب القاضي منه ومن نوح تهدئة باقي القرمزيين منعاً لأي اضطراب في السفينة. ثم اضاف:
- يجب أن يتم سؤال جميع من بالسفينة عن أماكن تواجدهم منذ الثانية عشر مساء وحتى صباح اكتشاف الجريمة..وعن أي معلومات أخرى، بعدها تتكون اشتباهات قوية تجاه البعض يمكن ان تؤسس عليها عمليات التفتيش.
قلت:
- يمكننا أن نفعل شيئاً إضافياً وهو أن نطلب من الجميع التبرع بقبول تفتيش غرفهم، طبعا سيوافق من لم يقترف الجريمة، وأما مقترف الجريمة ففي الغالب سيرفض الموافقة. وهكذا نكون قد حصرنا حدود الاشتباه قليلاً..
وافق الجميع على الإقتراح، وتم إعلانه، غير أن النتيجة كانت مخيبة للآمال، إذ وافق جميع الركاب على تفتيشهم.
وبالفعل مضت اللجنة بكامل هيئتها في عمليات تفتيش متتابعة أفضت إلى اللا شيء. وهكذا إزداد توتر القرمزيين، وبدأوا في اتهام اللجنة بالتواطوء لإخفاء الجريمة. لقد صاحت إحدى الفتيات في جماهير القرمزيين:
- اللجنة متواطئة وهي في أحسن الأحوال غير فعالة.. لماذا لم يفتشوا غرفهم هم أنفسهم...
وقال آخر وقد أخذ به الهياج:
- علينا أن نشنق أعضاء هذه اللجنة..
حينها أصابني الفزع، فوقفت وأعلنت لهم إنسحابي من عضوية اللجنة التي بدت لي غير مهنية وغير محترفة..
وهكذا حملني القرمزيون على الأكتاف وهم يصيحون:
- تسقط اللجنة..تسقط اللجنة...
وقاموا بمحاصرة قمرة القيادة...
خرج نوح وميراز وأعلنا انسحابهما من اللجنة ثم تبعهما المهندس خوفاً على أنفسهم.
وهكذا اقتحم القرمزيون القمرة واقتادوا القبطان ومساعده للخارج.
صاح القبطان معترضاً على ما يحدث، غير أن ميراز هتف:
- يا شباب...نحن ضمير هذه الأمة..ضميرها الذي يؤمن بالحرية والديموقراطية.. من أجل هذا ثرنا على الظلم ..أليس كذلك..وبما أننا ديموقراطيون فيجب أن نختار قيادة جديدة لهذه اللجنة..إنني أرشح نفسي لها.. وعليكم أن تصوتوا الآن وفوراً على هذا المقترح بالقبول أو الرفض..
اعترض القبطان قائلاً:
- القانون لا يعط أحداً سوى القبطان هذا الحق..
فأجابه الأول:
- الشعب هو الذي وضع القانون ونحن الشعب..
فقال القبطان:
- هذا قانون دولي وضعته حكومات الدول..
فصاح ميراز:
- لو كنت تعرف ما هي الديموقراطية لعرفت أن تلك الحكومات جاءت بها شعوبها...
ثم التفت إلى جماهير القرمزيين وقال:
- هيا.. فلنمارس الديموقراطية لكي يتعلم هذا القبطان كيف تمارس الشعوب حقها في حكم نفسها...المقترح الأول: حل اللجنة الحالية..من منكم موافق؟
صاحوا جميعاً (موافقون موافقون)
أضاف هو:
- تشكيل لجنة جديدة تحت قيادتي..من منكم موافق؟
فصاحوا جميعاً:
موافقون موافقون..
صاحت فتاة أخرى بغضب:
- ألقوا بالقبطان ومساعده إلى البحر..إنهم خونة مندسون...
فقال ميراز:
- من منكم موافق على اقتراح الرفيقة؟
فصاحوا بابتهاج: موافقون موافقون..
تصبب وجه القبطان ومساعده عرقاً حين هجم عليهما القرمزيون وكبلاهما، ثم ألقوا بهما إلى البحر..
كان ذلك مرعبا جداً، لكنه خيار الغالبية، وهكذا أضحت السفينة بلا قبطان.
اكتشف القرمزيون ذلك بعد فوات الأوان، لقد فشلت اللجنة في إيجاد القاتل، لكن الأهم أنهم فشلوا أيضا في معرفة قيادة السفينة. فهامت على وجهها في عرض البحار..
نحن الآن في السنة الثانية على ما أعتقد منذ تلك الحادثة، ولا شيء من حولنا سوى البحر..نعتمد على جمع مياه الأمطار وأكل بعض الأسماك، لقد فكرت كثيراً فيما فعلته، كم كان وجه ذلك الشاب النائم كالطفل بريئاً، حين أغمدت فيه سكينتي وطعنت قلبه ثلاث طعنات قاتلة، هل كنت أتصور أن تكون عقوبتي السجن مدى الحياة في سجن عائم؟ لا.. لم أتوقع أبداً كل ما حدث..ولكن ما ذنب الباقين..ولماذا هم مسجونون معي؟ فكرت قليلاً ووجدت أنهم لا يقلون ذنباً عني...
(تمت)
ويبدو أنني سأخالف هذه النزعة لأكون جزءً من شخصيات هذه القصة، إذ أنني متأكد بأنها لن تصل لمسامع الناس إلا بمعجزة، فأمامنا ينبسط الزمن بلا نهاية محتملة..سأدون القصة باختصار شديد وأضعها داخل زجاجة وأغلق الزجاجة بغطاء المطاط، وهكذا سيكون من المحتمل أن تطفو الزجاجة يوماً ما ويلتقطها طفل يبني قصراً من الرمال في شاطئ يطل على المحيط.
نعم إنني يائس جداً، محبط، ومع ذلك فلا زلت محتفظاً بتماسكي، أحاول دفع الخوف بالكتابة. إنني أكتب وأكتب وأكتب، محاولاً تخليد ذكراي كسمكة ناطقة، ضمن قرابة سبعين سمكة أخرى في سفينة.
سأعود إلى الوراء، لا أعرف قليلاً كان ذلك أم كثيراً، لكنني سأتجاهل الزمن، معتمداً على الموضوع.
لقد كانت لحظة تعيسة من لحظات وجودي في هذا العالم، تلك اللحظة التي ليس بإمكان إمرء أن يعرف ما بعدها أبداً، حيث تتسع ابتسامات الجميع، وهم يخطون -دون وعي- إلى قدرهم المرعب. تماماً كما حدث لأحد أجدادنا من الذين اعتزلوا الناس، ومضى بأغنامه إلى الصحراء، منتبذاً بكل شيء موقعاً خارج العالم. لقد ظن أنه انقطع عن العالم هو وأغنامه، لكنه لم يدرك أن العالم لم ينقطع عنه، ظل لسنوات لا يعرف شيئاً، ولا يريد أن يعرف شيئاً، لا الأزمات الإقتصادية، ولا الإنقلابات العسكرية، ولا الحروب الأهلية، حتى وجد نفسه يوماً محاطا بكتيبة من الجنود المتمردين الذين ضاعوا في الصحراء، فقتلوه وذبحوا أغنامه ونجوا من الموت على حسابه.
وهذا كان ذات موقفنا جميعاً عندما دلفنا بأقدامنا إلى مدخل السفينة الصغيرة هذي، كانت رحلة سريعة من أجل المتعة، اشتريت تذكرتي، ورأيت فتيات ضاحكات وثلاث أسر بأبنائهم وبناتهم، وزوجين عجوزين بالإضافة إلى جوقة كبيرة من الشباب من الجنسين يرتدون قمصاناً قرمزية مشتركة الشكل، علمت أنهم من أحد الأحزاب التقدمية، هذا بالإضافة إلى قبطان ومساعده ومهندس قصير نحيف.
لقد بدأت القصة بعد تحركنا من الميناء، وخروجنا من المياه الإقليمية حتى بلوغنا مشارف أعالي البحار، وكان ذلك إيذاناً بالعودة، لكن شيئاً ما قد حدث. شيئاً لم يكن في الحسبان، لقد وجدوا قائد شباب الحزب التقدمي مقتولاً في غرفته.
استيقظت صباح ذلك اليوم على جلبة ضخمة، صراخ وهرج ومرج، وحين خرجت وجدت جميع الركاب متجمهرين حول غرفة القتيل. أصر شباب الحزب على أن قائدهم قد قتل من أحد المندسين معهم من ضمن الجوقة، ورفعوا شعار القصاص. وكاد ان يحدث اضطراب عام، حين تبادل جميعهم الإتهامات لولا تدخل القبطان، الذي دعاهم إلى الهدوء:
- وفقاً للقانون فأنا المسؤول عن هذه السفينة الآن..هنا أتمتع بسلطات الضبط الجنائي، والتحقيق، سأجري بناءً على ذلك التحقيقات اللازمة، وسأقبض على المجرم وأودعه السجن وهو غرفة تحت السطح، مجهزة في الأصل لأقفاص الحيوانات الأليفة، وسوف أعين حارسا على زنزانته.
صاح احد الشباب القرمزيين معترضاً، وطالب بأن يترك شأن التحقيق لهم، غير أن القبطان، رفض إذ أن القانون لا يخول شخصاً غيره هذه السلطات، لكنه وعد بجعل أحدهم ضمن لجنة التحقيق. فصاحت فتاة من القرمزيين:
- ..نوح..نوح....
فتجاوب معها الباقون..
- نوح نوح..
فانفردت أسارير الشاب قليلاً بعد تجهمها، ومن نظرات الفتاة له أدركت أنهما يتبادلان الغرام..
تشكلت لجنة من القبطان رئيساً ومساعده والمهندس والشاب القرمزي نوح، وشخصي كأعضاء. ليكون للقبطان صوت مرجح. وهكذا كلفنا القبطان بعمليات التحري مع الركاب، وجمع الأدلة من مسرح الجريمة، وتحريزها وفقاً لضوابط السلامة التي حددها لنا. كما قمنا بتصوير الجثة وقام هو بكتابة تقرير توصيفي بالنظر عنها، قبل أن يتم قذفها في عرض البحر في مشهد مهيب، إذ بكى الشباب القرمزي والأسر وحتى القبطان، وهم يرون اختفاء الجثمان تحت الأمواج.
قمت بتصوير مسرح الجريمة، وحاول المهندس والقائد القرمزي إيجاد أي أدلة تشير إلى القاتل الحقيقي، غير أن المكان كان قد تم تنظيفه تنظيفاً جيداً من قبل القاتل.
كان الشباب القرمزي متوتراً، وازداد التوتر حين لم تخرج اللجنة ولو بنتائج أولية تدل على القاتل، وهكذا تعرض ممثلهم المدعو نوح للهجوم، فصعد في مكان مرتفع قليلاً وخطب فيهم:
- نحن جميعنا نعلم من القاتل..إنه أحد الخونة من المندسين معنا من شباب الحزب..
صاح قرمزي آخر:
- كل هذا بسبب سياسات الإنفتاح الأخيرة التي اتبعها الحزب..
فرد نوح:
- ليس هذا هو الوقت المناسب لنقد سياسات حزبنا..فالمهم أن هناك مندسين بيننا..
غير أن الآخر أصر:
- أنت والشهيد كنتما تمثلاننا كشباب للحزب عندما اتخذتم ذلك القرار مع اللجنة المركزية..أنت والشهيد مسؤولان عما حدث..
وبدا أن القرمزي الآخر يعمل على تحريض الباقين على نوح، فانبرت عشيقته تدافع عنه، غير أن دفاعها زادهم غلياناً إذ اتهمت الشاب بأن محاولاته لشق الصف في هذه المرحلة الحرجة تدليل على أنه هو المندس القاتل.
وبحصافة، قام نوح بتشكيل لجنة فرعية من المساعدين وجعل الشاب المعترض أحدهم. ولتأكيد جديته، قاد نوح لجنته واقتحم غرف الركاب لتفتيشها. فأثار ذلك رعباً من الأسر والزوجين العجوزين، فلجأوا إلى القبطان الذي حضر ووبخ نوح على ما فعله:
- إن تفتيش غرف الركاب وممتلكاتهم واجسادهم يخضع للقانون وليس بهذا الشكل الفوضوي.
فصاح الشباب القرمزي معترضين.
- القصاص القصاص.. لا يتم بقوانين تضيع الحقوق..
صاح القائد:
- إذا لم تتبعوا القانون فسوف لن يعترف القضاء بأي دليل تعثرون عليه .الأمر ليس فوضى..
قال الشاب القرمزي المعترض:
- ومن قال بأننا سننتظر القضاء لأخذ حق الشهيد؟
فصاح القرمزيون بابتهاج، وأمنوا على كلامه. فاعترض القبطان:
- ماذا ستفعلون لو وجدتم القاتل؟ هل ستقومون بقتله، لو فعلتم ذلك فستعاقبون بالإعدام جميعكم.
قال الشاب القرمزي:
- لن يعدموا قرابة خمسين من شبابنا، لو فكروا حتى في ذلك فسنحرك قواعدنا فوراً لقلب نظام الحكم بثورة شعبية عارمة. نحن الشعب والشعب نحن..
صاح القرمزيون مبتهجين، وصمت القبطان قليلاً ثم طلب من نوح والشاب القرمزي أن يتبعاه..
اجتمعنا كأعضاء في لجنة التحقيق وتم ضم الشاب القرمزي والذي يدعى ميراز إلى عضوية اللجنة، ثم طلب القاضي منه ومن نوح تهدئة باقي القرمزيين منعاً لأي اضطراب في السفينة. ثم اضاف:
- يجب أن يتم سؤال جميع من بالسفينة عن أماكن تواجدهم منذ الثانية عشر مساء وحتى صباح اكتشاف الجريمة..وعن أي معلومات أخرى، بعدها تتكون اشتباهات قوية تجاه البعض يمكن ان تؤسس عليها عمليات التفتيش.
قلت:
- يمكننا أن نفعل شيئاً إضافياً وهو أن نطلب من الجميع التبرع بقبول تفتيش غرفهم، طبعا سيوافق من لم يقترف الجريمة، وأما مقترف الجريمة ففي الغالب سيرفض الموافقة. وهكذا نكون قد حصرنا حدود الاشتباه قليلاً..
وافق الجميع على الإقتراح، وتم إعلانه، غير أن النتيجة كانت مخيبة للآمال، إذ وافق جميع الركاب على تفتيشهم.
وبالفعل مضت اللجنة بكامل هيئتها في عمليات تفتيش متتابعة أفضت إلى اللا شيء. وهكذا إزداد توتر القرمزيين، وبدأوا في اتهام اللجنة بالتواطوء لإخفاء الجريمة. لقد صاحت إحدى الفتيات في جماهير القرمزيين:
- اللجنة متواطئة وهي في أحسن الأحوال غير فعالة.. لماذا لم يفتشوا غرفهم هم أنفسهم...
وقال آخر وقد أخذ به الهياج:
- علينا أن نشنق أعضاء هذه اللجنة..
حينها أصابني الفزع، فوقفت وأعلنت لهم إنسحابي من عضوية اللجنة التي بدت لي غير مهنية وغير محترفة..
وهكذا حملني القرمزيون على الأكتاف وهم يصيحون:
- تسقط اللجنة..تسقط اللجنة...
وقاموا بمحاصرة قمرة القيادة...
خرج نوح وميراز وأعلنا انسحابهما من اللجنة ثم تبعهما المهندس خوفاً على أنفسهم.
وهكذا اقتحم القرمزيون القمرة واقتادوا القبطان ومساعده للخارج.
صاح القبطان معترضاً على ما يحدث، غير أن ميراز هتف:
- يا شباب...نحن ضمير هذه الأمة..ضميرها الذي يؤمن بالحرية والديموقراطية.. من أجل هذا ثرنا على الظلم ..أليس كذلك..وبما أننا ديموقراطيون فيجب أن نختار قيادة جديدة لهذه اللجنة..إنني أرشح نفسي لها.. وعليكم أن تصوتوا الآن وفوراً على هذا المقترح بالقبول أو الرفض..
اعترض القبطان قائلاً:
- القانون لا يعط أحداً سوى القبطان هذا الحق..
فأجابه الأول:
- الشعب هو الذي وضع القانون ونحن الشعب..
فقال القبطان:
- هذا قانون دولي وضعته حكومات الدول..
فصاح ميراز:
- لو كنت تعرف ما هي الديموقراطية لعرفت أن تلك الحكومات جاءت بها شعوبها...
ثم التفت إلى جماهير القرمزيين وقال:
- هيا.. فلنمارس الديموقراطية لكي يتعلم هذا القبطان كيف تمارس الشعوب حقها في حكم نفسها...المقترح الأول: حل اللجنة الحالية..من منكم موافق؟
صاحوا جميعاً (موافقون موافقون)
أضاف هو:
- تشكيل لجنة جديدة تحت قيادتي..من منكم موافق؟
فصاحوا جميعاً:
موافقون موافقون..
صاحت فتاة أخرى بغضب:
- ألقوا بالقبطان ومساعده إلى البحر..إنهم خونة مندسون...
فقال ميراز:
- من منكم موافق على اقتراح الرفيقة؟
فصاحوا بابتهاج: موافقون موافقون..
تصبب وجه القبطان ومساعده عرقاً حين هجم عليهما القرمزيون وكبلاهما، ثم ألقوا بهما إلى البحر..
كان ذلك مرعبا جداً، لكنه خيار الغالبية، وهكذا أضحت السفينة بلا قبطان.
اكتشف القرمزيون ذلك بعد فوات الأوان، لقد فشلت اللجنة في إيجاد القاتل، لكن الأهم أنهم فشلوا أيضا في معرفة قيادة السفينة. فهامت على وجهها في عرض البحار..
نحن الآن في السنة الثانية على ما أعتقد منذ تلك الحادثة، ولا شيء من حولنا سوى البحر..نعتمد على جمع مياه الأمطار وأكل بعض الأسماك، لقد فكرت كثيراً فيما فعلته، كم كان وجه ذلك الشاب النائم كالطفل بريئاً، حين أغمدت فيه سكينتي وطعنت قلبه ثلاث طعنات قاتلة، هل كنت أتصور أن تكون عقوبتي السجن مدى الحياة في سجن عائم؟ لا.. لم أتوقع أبداً كل ما حدث..ولكن ما ذنب الباقين..ولماذا هم مسجونون معي؟ فكرت قليلاً ووجدت أنهم لا يقلون ذنباً عني...
(تمت)