سعيد فرحاوي - دلالة النفي والمحو بعمق التجلي في صناعة العالم من خلال متاهة محمود درويش ودوامات مصطفى الشليح داخل الشعر... الجزء الأول

مصطفى الشليح يكلم الموت لتتشظى الحياة في حوارية خارج المعنى لإنتاج كتابة تتسرب من ملامح يوسف وهو يحدث الوجود ويوقف نبض الارض والسماء. يوسف يكتب الرفض لتنتعش الرؤيا وشاعر ببدين فارغتين يحدد وجع الَنوارس وهي تشق تعب الموج سعيا عن بحث في أبدية متشظية. إن يوسف محمود درويش ظاهر َمعلن عنه؛ اما يوسف مصطفى الشليح مبطن تحيل عليه عبارات دلالية بنوع من الحذر الواعي الذي تلتقطه بعض المؤشرات البنائية والسياقية من جهة أخرى. محمود دريش يكشف عنها بجلاء تام(انا يوسف ياابي...) ؛ مع مصطفى الشليح ينقرها بمؤشرات عدة ( هل قلت لك...) '؛ثم إحالات اخرى لفظية؛ منها اسلوب (ياابي..) التي تكررت لفظيا؛ لتفيد صياغة (ماذا فعلت عندما قلت ياابي...) ؛ هو اسلوب يربط بين شاعرين في توظيفهما قصة يوسف للدلالة عن عوالم تعني لهما مسار تحققهما معا من زاوية كل واحد كيف يحدد موقعه الطبقي داخل مجتمع الشعر؛ كرؤيا وتصور الى العالم؛ وكنسق معرفي يجعل منه الشاعر كتابة يفجر بها ما يلائم تصوره للحياة في الكتابة الشعرية.
مرافقة حميمية تفتت ألغاز المعاني وهي تحبو في بحر متاهة الرحيل. لأن للشعر اطراف متعددة؛ متناحرة احيانا ؛ متداخلة احيانا اخرى؛ بل متصارعة في مجالات متعددة بأبعاد بنائية هادفة؛ لان اساس الحمق في تجليه هو عندما يحاول الشاعر اخراجه من ذاته ليجعل منه عمق متاهته . ربما كان ذلك سرا قويا جعل مصطفى الشيح يقذفنا بهذا البعض من شعره؛ فكان مرا يحاور الموت؛ ويجعل منها حياة في صناعة تجليه. ما جعلني استحضر يوسف في دوامة الرجل هو اعتماد عدة إحالات نصية تفيد لغز الترابط بين يوسف مصطفى الشليح ويوسف محمود درويش؛ فهما معا انتاج تحولات عميقة في تمفصلات الكتابة بأبعاد مرجعية متنوعة. هنا يوسف يتمظهر بغلاف مختلف؛ لأن استحضار يوسف وتوظيفه؛ ليس من اجل الاجترار والنسخ؛ بل كل شاعر جعل منه عمقا في اختياراته ومحور كونه بتلاعبات عدة. ساكون مجبرا للكتابة عن اليوسفين حسب التوظفين المتمايزين .
يستهل مصطفى الشليح خطابه بسطر شعري دال: (هل قلت لك.
1f642.png
:) ؛ هنا تثيرني دوامة يوسف محمود درويش؛ (هل جنيت على احد عندما قلت إني...) ؛ ماببن العالمين تتحقق تجليات مثيرة تفصح عنها التلفظات المتفاوتة الرؤى والتصورات. هي احالة قوية في المرجعية على الغياب والموت؛ اللذان اراد الشاعر جعل منهما موضوعا لتفاهة حياة تبزغ بسمة القتل المجازي الذي يفكك بنيات عمقيقة في تفكير شاعر يعيد التاويل من زاوية تهم تفكيك أفق انتظارنا البسيط.؛ لكن كل يوسف ذهب في منحى خاص به. تختلف الابعاد وتعدد الدلالات ؛ لان مصطفى الشليح ذهب بالخطاب من الذات الانية(ديكارت) الى الذات /الاخر/الهو (هايدغر) ؛ ليصبح الكون عنده ارض صغيرة تتلولب في تيهه؛ وهي تغرد حمقه الشعري بصبغة ان حدد مساحتها في متاهته فجعل منها كوكبا صغيرا يجتر تجاعيد بحر جامد؛ لان ارضه ثابثة لاتدور؛ هي كذلك لان عالمه صغير جدا؛ فماذا فعل هو عندما راى الارض بمحددات جد مضبوطة؛ هل في ذلك خطأ عتدنا جعل منها حمقا غير مقبول كما فعل اخوة يوسف في قصتهم مع يعقوب الاب؛ ماذا فعل الشاعر عندما اجتر سرب النوارس وهي تمطط أمواج سرابه في أرض محكوم عليها بالموت؛ مادامت ثابثة. كما النوارس ثابثة هي الاخرى؛ محكوم عليها بلاطيران فوق ارض جامدة لاتتحرك؛ في فضاء مكاني صغير؛ دائما في خطاب موجه لاب غير محدد؛ يعاتب وينتفض؛ رافضا ماراى ؛ واصفا المحتويات التي تحيط به؛ يتساءل حول الموج باحثا عن من علمه السباحة؛ في كل حركة يستحضر الموت كنتيجة.
الارض الثابثة التي لاتدور هي موت مجازي مشفر ؛ والنوارس التي لاتطير هي إحالة على حياة راكدة والامواج التي تسبح خارج المعنى هي بلا ذات متعفنة جامدة محكوم عليها بالفناء والغياب؛ فيعود نافيا طرحه لمقولة القول؛ ناكرا ومستنكرا؛ لايريد ربط عوالمه بفن الكلام؛ لانه يعرف انه مسعى فارغ يقود نحو الموت والنهاية ؛ يقول؛: (انا ماقلت لك؛)؛ هي إحالة على هروب من واقع القول الذي سيقود لامحالة نحو الموت الى واقع اللاكلام الذي بكل؛ تاكيد؛ سينتج بعضا من الشعر. .
شيءٌ من الشعر:
هلْ قلتُ لكْ:
لمَ هذه الأرضُ الصغيرةُ
لا تدورُ ؟ ولمْ تجاعيدٌ يدا للبحر
تبدو يا أبي ؟
سربُ النوارس موجة
ليستْ تطيرُ. تكسَّرتُ، والرملُ
يجبرُ أَوْ يشيرُ، وجثة / زبدٌ قتيلٌ
يا أبي ؟
منْ علَّمَ الموجَ السباحة
خارجَ المعنى، فقامرَ باليدين
وضجَّ، منْ تعبٍ، وعاجَ على اليدين
وكان موتا يا أبي ؟
منْ كلَّمَ الأبديَّةَ البيضاءَ
فجرا كلٌَما نسيَ النعاسَ بشرفة
وأطلَّ، مبتهجا، على الأبديَّة البيضاء
تنعسُ يا أبي ؟
منْ ناولَ المعنى كلامَ البحر
فارتهجَ الكلامُ، وهاجَ، منه، الموجُ
ساقا كلَّما زبدٌ لها خفَّان يختلفان صوتا ؟
أنا ما قلتُ لكْ
عندما نبحث في تجليات المعنى واليات انتاج الخطاب في قصيدة انا يوسف ياابي لمحمود درويش.؛ فإننا سنمر من منحى مغاير عن ذاك الذي سبح فيه مصطفى الشليح وهو يحبو في متاهة القول الذي يقود نحو موت مجازي محقق؛ كلها مؤشرات جعلت منه يرفض الكلام ويبتعد عن حرارة الخروج من ضجيج الصمت مرتعشا؛ صامتا بكلام لا يفهم تعبه سوى شاعر يرى مايريد.
هنا يقول محمود درويش:
انا يوسف ياابي
ياابي اخوتي لاَ يُحِبُّونَني , لاَ يُرِدُونَني بَيْنَهُم ..
يَا أَبِي يَعْتَدُونَ عَلَيَّ وَيَرْمُونَني بالحَصَى وَالكَلاَمِ .
يُرِدُونَني أَنْ أَمُوت لِكَيْ يمْدَحُونِي .
وَهُمْ أَوْصَدُوا بَاب َبَيْتِكَ دُونِي .
وَهُمْ طَرَدُونِي مِنَ الَحَقْلِ.
هُمْ سَمَّمُوا عِنَبِي يَا أَبِي .
وَهُمْ حَطَّمُوا لُعَبِي يَا أَبِي .
حَينَ مَرَّ النَّسيِمُ وَلاَعَبَ شَعْرِيَ غَارُوا وَثَارُوا عَلَيَّ وَثَارُوا عَلَيْكَ .
فَمَاذَا صَنَعْتُ لَهُمْ يَا أَبِي .
الفَرَاشَاتُ حَطَّتْ عَلَى كَتْفَيَّ , وَمَالَتْ عَلَيَّ السَّنَابِلُ , وَ الطَّيْرُ حَطَّتْ على راحتيَّ .
فَمَاذَا فَعَلْتُ أَنَا يَا أَبِي .
وَلِمَاذَا أَنَا ؟
أَنْتْ سَمَّيْتَِني يُوسُفاً , وَهُوُ أَوْقَعُونِيَ فِي الجُبِّ , وَاتَّهَمُوا الذِّئْبَ ؛ وَ الذِّئْبُ أَرْحَمُ مِنْ إِخْوَتِي ...
أَبَتِ !
هَلْ جَنَيْتُ عَلَى أَحَدٍ عِنْدَمَا قُلْتُ إِنِّي :
رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً , والشَّمْس والقَمَرَ ,
رَأّيْتُهُم لِي سَاجِدِينْ ؟؟
(من ديوان "ورد أقل" 1986).
عندما وقع اختياري على قصيدة انا يوسف ياابي ، لم اكن اعرف الاسرار الخفية التي جعلتني اتيه في شعر احترم كاتبه كثيرا، مازاد من اندهاشي هو القصيدة نفسها عكس باقي القصائد الاخرى. بعد الصدمة الاولى، اخرجتني من ضيقي ، اهلتني ان اقول مع نفسي: قد اطلع على بعض الكتابات حول القصيدة عينها، فرحت اتجول في رحبة فضاء غوغل الذي اسعفني ببعض المقاربات، طبعا سأحترمها لانها خرجت من المجهول نحو المكتوب، فأصبح لها موقعا في بوابة التاريخ، الا انه من عادتي لابد ان اختلف واتمير ببصمتي الخاصة، عليه وجدت نفسي امام اول سؤال وجب التركيز عليه : ما سر علاقة الشاعر بيوسف في قصيدة استنجد فيها الباث بالاب لينتقد الاخوة، ؟ ثم لماذا الشاعر مثله مثل يوسف خرج من واقع الحياة العادية ليعتنقا دوامة عالم النجوم والكواكب واحدى عشر كوكبا، عبر بوابة الحلم او الرؤية ليخرجا معا من العادي ويصبحان موضوعا في تصور الاخوة ، مما جعل الشاعر يجد نفسه في مأزق لايحسد عليه؟ واخيرا ماذا يعني يوسف في مساءلة البوح الشعري من زاوية نظر اختراق الوجود العادي والعلو في تجليات حياة اخرى تعني الكثير لشاعر قلق من واقع معيشي اوجعه كثيرا؟ ...تلك اول عتبات ولوجي وقاحة حياة تتأسس في مساحة ضيقة عمقها التأكيد والنفي بين صورتين احيانا متقاربتين، ومرات اخرى ممزقتين ، في متاهة البعد بين الحقلين عطاء ونفيا، او موتا وحياة، ربما بصبغة ادق، تجلي بقيمة التحقق وابتعاد بصيغة الرفض، في ساحة التلاعبات تبنى لعب كتابة مستفزة بحركية جد متشاكلة عمقها يحكمه التعمق والتطور .
يستهل الشاعر بوحه كاشفا عن صفة الذات ، محددا ماهياتها، بقوله (انا يوسف ياابي)، هو تأكيد بتجلي جد محدد عمقه هوية جد واضحة،هي صورة يحضر فيها ثلاث عناصر محورية، لايمكن تغييب احدهما عن الاخر:
الاول _____ الشاعر. / المتكلم.
الثاني_____ الاب / المخاطب.
الثالث _______الموضوع / يوسف.
فتصبح الصورة بتلازم تحكمه مستوبات بنيوية جد قوية، لان الباث يحدد صفته بتأكيد (الانا )في الذات، مبرزا ضمير الانية منعزلا / مبتدأ، ثم يزيد من تأكيد الذات بتحديد موضوعها (يوسف)، كما ان المخاطب يكون ملزما ان يصبح جزءا يخدم الذات لانه اساس ارسال الخطاب، فيأتي اخيرا ليخبر عن اسباب ارسال الخطاب بتجليات انماطه باشكال متنوعة ، لان المهم من كل محتويات الارسالية هو الموضوع الذي يعني الذات في خطاب البنية .
كلها عوامل ستجعلنا امام اشكال محوري يعني: ماذا يعني الشاعر عندما يخاطب الاب بأنه يوسف في رسالة توكيدية بامتياز،؟ هو عامل سيجعله خطابا مواليا للاول ، جاء نافيا:
ياابي اخوتي لا يحبونني...
فنصبح امام جملة النفي؛ تشرح جملة التوكيد الاولى، فتتأسس الحركية بلازمة يحكمها التوكيد الذي اجاب عنه النفي. هي مرفقات تحكمنا ان نطرح السؤال التالي:
لماذا الاب مخاطبا اولا ، في جملة التوكيد والاخوة سرا من اسرار لعبة النفي في تلقي اولي يعني الاب بالدرجة الاولى؟ ..فنصبح امام لعبة تيماتيكية يحكمها الاقتراب الذي يتحكم فيه الابتعاد والجزم، الذي يشغل الاخراج والابعاد الكلي ، سنراه في الخطاطة التالية:
العلاقة التيماتيكية بين مستويات الخطاب يحكمها التقاطع في تيمة العائلة على اساس ان الباث والاب والاخوة تجمعهم صلة القرابة العائلية، لكن رغم ذلك نجد الحياة في مسار تطورها عبارة عن صراع تفرقها بنية النفي اللغوية الجلية على مستوى سطح الخطاب اولا/ لا النافية ، ثم تؤكدها علاقات متضاربة في محتوى الجملة المعجمية ( لايحبونني)، فنصبح امام مفارقة تنفي تيمة التنامي العائلي، مما يؤهلنا ان نبحث في صلة العمق بين يوسف الشاعر ويوسف النبي ، فيوسف النبي ، في بنية اللعبة الدينية والتاريخية ، تفرقه بالاخوة اسرار التقارب من الاب والحسد النفسي الذي دفع بالانتقام اسلوبا لانهاء المهزلة ، ثم تحكمها عمق البنية الدينية، لان تصور انجاز الحياة من خلال صورة يوسف هي محكمة ربانيا لتنتج يوسف النبي ، ليصبح قصة من قصص حياة الانبياء والرسل كعبر ووعض منها يرى الاخرون الدنيا عموديا ، اما يوسف الثانيز فحقيقة علاقته بالاب والاخوة هي علاقة متخيلة، لان الشاعر سينزاح عن الوجود بالبحث عن قرائن منها يرى الحياة وبها يراه الاخرون ، في العمق ليس نبيا ولا رسولا ، بل اختار قصة نبي ليذهب بها في منحى لاعلاقة له بتطور الحياة وفق الصيغة التاريخية التي تكلم فيها التاريخ عن نبي الله يوسف. الا ان التلازم والتلاقي يحكمه خيانة الاخوة اولا، سواء اخوة في العائلة/ يوسف النبي؛ او الاخوة في النسب والمذهب والمرجعية القبيلية كما ذهب الى ذلك ابن خلدون ، هي كلها دوامات تؤسس طبيعة السلطة في هرم مجتمعي مرتبك.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى