جاسم خلف الياس - قراءة في قصيدة " أتبعك كالغزالة وأتناثر كالفراشة"

" أتبعك كالغزالة وأتناثر كالفراشة"
بهذه العتبة النصية الشعرية تدعو الشاعرة لودي شمس الدين القارئ للدخول إلى عالمها النصي بوصف العنوان مفتاحا أو بؤرة تحيل إلى الداخل النصي.. العنوان يتكون من جملتين مترادفتين ومتوازييتين في الدلالة من أجل إغراء القارئ في ايحاء دلالي مبثوث في بنية العنوان اللغوية .. فالفعل (اتبعك) يمثل الخضوع الإيجابي للاخر الذي شكل غيابه جدلية الحضور/ الغياب .. وهذا الاتباع ما هو ألا تعبير استعاري يحمل طاقة ايحائية بالغة التأثير في القارئ. ويحمل الفعل الثاني (أتناثر) سيميائية التحول كما في الفعل الأول من السياق المعجمي إلى السياق الشعري ، لتلتبس بابعاد جديدة، وقد ساعد هذان الفعلان كل من (الغزالة) و (الفراشة) على تمظهر المكنون الدلالي والحالة النفسية للذات الشاعرة وإذا كان العنوان يتراوح بين بنيتين: تواصلية وانفصالية فإننا بعد فحص النص والتوغل في مظانه سنحدد تلك البنية حسب التوصيفةالذي يفرضه الداخل على الخارج وبالعكس .
تقول الشاعرة في مفتتحها النصي
(( لم ينضج الألم بعد..))
تخبرنا الشاعرة بعدم وصول (الالم) إلى مرحلة (النضوج) وهاتان العلامتان في سياقهما اللغوي يحيلان إلى بدء التجربة التي ما زالت في الفضاء المنفي عبر أداة النفي (لم) . ثم تستمر الذات الشاعرة في المراوغة الترميزية العالية وهي تقول:
(ملعقة من الشمسِ بين شفتي...)
وهنا نكون إمام ثلاث علامات (ملعقة، شمس، شفتان) وكل علامة تحيلنا إلى محمول دلالي يتعلق أولهم بالثاني والثاني بالثالث من أجل رسم صورة شعرية تعد معادلا موضوعيا لما تعانية من الحرمان والقسوة وهي تعيش مرارة الغياب. فهذا المتخيل الشعري لن يدعها تستسلم لتقف عند هذا الحد ، بل سيدفعها لأن تقول:
(أوقِظ بُلبُلا غافيا فوقَ شامتك...) لم تحدد الذات الشاعرة موقع الشامة، وظل مكانها مجهولا ، لكنها اخبرتنا بأنها ايقظت البلبل الذي كان غافيا فوقها . وهذا الايقاظ المتعمد سوف يقودها إلى فضاء حبوري يجعلها
تضحَك وتتمدَّد على رُخامٍ بارد، لحظتها سوف
تفوح رائحة الأنوثة من شَعرها، فالذات الشاعرة في هذا الفضاء التصويري الآسر ستعمل على وفرة المفاتن الجسدية وتسعى إلى إيجاد جاذبية أكثر نحو البراعة في الدهاء الأنثوي ببوح وجداني يكشف لنا ما هو مطمور في تلك الذات.
(وأُمرِّر أنفاسي فوقها على مهلٍ...) وهنا نكتشف موقع الشامة التي على الصدر . ونكتشف أن فضاء العري هو الذي جعلها تقبض على الغيم المُستدير حولَ صدره، وجعلها تستدير بجسدها الوردي نحو السماء. وكل هذا الفعل الأنثوي المراوغ لم يكن إلا طاقة تتوهج كي يحطُّ الفجر كاليمامةِ قوق بطنها
وترتعِش أردافها الفضِّية من إحتكاكها بأخمصِ قدميه.. في هذا التصوير الايروتيكي استطاعت الذات الشاعرة أن تحوّل الواقع الجسدي إلى متخيل ترميزي يفيض جمالية ويرتقي بالدلالة في كتابة شعرية مغايرة وجريئة تسعى عبرها إلى تقويض الكتابة الإباحية والانحياز الى الجمالي في تلك الصور الباذخة.. وكل ذلك لم يحصل لولا أن هذا الحبيب الغائب هو في القلب. فجملة
(أنتَ في قلبي...) تسوّغ هذا الفعل الايروتيكي الناتج عن حب تغلغل في القلب ومنحها تمردها على الثابت المزيف والمحايد المصنع؛ لذا ستتحول إلى فضاء أكثر اتساعا وسوف تمارس فعلا أكثر بهجة، سيعلو إيقاع الموسيقى من أعماق البحر
وترقص الاشجار رقصة لتانغو في غابة"دينتري"
وترمي الكواكب تلك النجوم في حقول اللافندر.. ويقبل الضباب في قرية"وينجن" فرو الماعِز... ويستريح العُشب الأخضر تحتَ قدميه ، وتبتلع الأرض قرصاً من القمر ... في كل هذه الأفعال التي تتعلق بالموسيقى والأشجار والكواكب والضباب والعشب الأخضر والأرض تتعالى الفاعلية الدلالية وتكشف عن أغوار النفس ويتجلى المخفي وتقارب اللحظات الانفعالية تلك الممكنات السرية فتعلنها دون تصنع أو رياء، كما أن هذه الأفعال لم تأت من أجل الجاذبية الشبقية، بل لأنها تحبُّه في كُلِّ غابات الأرض وورود الكوكب والقرى البعيدة...
ولأنها تحبه بقوة هذه الأفعال وفي كل المواقف التي تقودها إليه؛ ولأنها تعده من ضمن فضائها ومحتوياته ستناديه:
(فإقترِب منِّي حتى آخر العمر.)
وهنا تسعى تلك الذات إلى امتلاك ذلك الغائب امتلاكا ابديا (إلى آخر العمر) عبر العلاقة التجاذبية التي شكلتها مع الطبيعة لتكون رافدا آخر من روافد احساساتها بلذة هذا الحب .
ثم تستمر الذات الشاعرة في وصف الجسد عبر تداول اجزاء منه مثل (الأصابع والظهر والخصر والعنق لتُشكِّل فضاء بلونٍ أرجواني وبنفسجي، وهو يمزُج بخفَّةٍ لَونيّ الشمس والقمر معاً:
(أُحبُّك،سأتبعك كالغزالة حتى آخر نفس...)
وهنا تعود بنا الذاكرة القرائية إلى العنوان وكيفية اختيار (اتبعك كالغزالة) في بنية تواصلية مع العنوان . وحين تغامر الذات الشاعرة في هذا الحب واتباع حبيبها فإنها ترجو من هذه المغامرة
النوم على ذراعِه بدفءٍ كُلَّما تألَّمت من الحياة، وهنا يشكل الحبيب المخلص والمنقذ والملاذ الامن من قسوة الحياة واشكالياتها المتشظية في حدود المتخفي والمتجلي، المعلن والمسكوت عنه . ثم تستمر تلك الذات المعذبة في صراخها:
(أُحبُّك)
ولأنها تحبه فمن حقها أن تخبئ رأسها تحتَ قميصه
ويضُمَّ شفتيها بقُبلاته. من حقها أن تأكل الفراولة من حول كرمِ ذكرتُك.. كما من حقها أن تطُلّ على العالم كالفراشةِ من تحت جلده. ثم تعود إلى تكرار الجملةالفعلية (احبك) لكي تزيد من الفاعلية الدلالية اولا .. وأحداث إيقاع داخلي ثانيا.
(أحبُّك) ولكن على الرغم من كل هذا الحب الذي سوّغ لها أفعالا كثيرة ما زال:
لم ينضج الألم بعد...
أنتَ في قلبي...
هذا النص الدائري يتعين علينا قراءته وتقصي أثر دلالاته المتشظية مرة ثانية بوعي منهجي يتوغل في سياقه النفسي في ممارسة قرائية حرة .




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى