قُرب حديقة خضراء تحفُّها أزهار الصَيف كانت جلستي على "الكافيه" المفتوح الملحق بها، لمحتُه على مسافة غير بَعيدة بشَعره الأشيَبْ الذي نَكشَهُ هواء تلك الليلية الصيفية، الأستاذ كمال، كان رئيسي في العَمل، تَعجَّبتُ لهيئته، ما بال النَحافة قد ضربَت جَسده إلى هذا الحد، وما بال مَلابسه تبدو أقل من العادية وقد كنا نحسده على أناقته. جلس القُرفصاء يَضع كفيه على عينيه ثم يرفعهما ويَبتسم، ثم يُعيدهما ثانية، ثم يعود ويرفعهما ويبتسم، وهكذا عدة مرات. مِلتُ بجسدي يُمنة ويُسرة ألتفتُ، لم أجد أحدًا من حوله ولا في مواجهته، تساءلتُ: هل جُنَّ الرجل ولم يَمض على بلوغه سن المعاش بضع سنوات وكان في قمة العقل والحكمة؟ وإذا كان قد مسَّهُ مرضٌ، ألا يرافقه أحد من أهله لا سيما في مثل هذا المكان المفتوح من قرية سياحية؟ لحظاتٌ وإذا به يَمشى على أربع إلى جهة اليسار ويُنادى: "كيمو، كيمو" ثم لمسافة مثلها يَمينًا، ثم يعود ليُغيِّر اتجاهه وكأنه يدور حول نفسه، عِدة مرات يفعلها ولا يُجيبه أحد، قطعْتُ بأنَّ جُنونًا قد مسَّه لا محالة. أشفقتُ عليه، توجهتُ ناحيته لأُثنيه عما يفعل أو لأُعيده إلى مَسكنه، فقد صارت الأنظار تُتابعه باستغراب شديد. لم يَشعر باقترابي منه، اعتدل من وضع المشي على أربع ونهضَ جريًا قاصدًا بيت جُحا الذي يَختبئ فيه الأطفال، توقفتُ مكاني، لابد أنه سيفعل مثلهم، لأنتظر هنا حتى يخرج. لم يَطُل في هذه المرة تعجُّبي ولم يدخل بيت جُحا، خرج طفل في نحو الرابعة يجرى نحوه فرحًا مُتهللا، تلقفه بين أحضانه، يرفعه في الهواء ويُمطره بالقُبَل، ثم يعود ليَعتصره في حِضنه وهو يُقهقه، أسرعتُ إليه، سلَّم علىَّ بحفاوة، عرَّفني بالطفل " كيمو" حفيدي.
بهاء المري - مصر.
بهاء المري - مصر.