حيدر عاشور - زمن كورونا.. قصة قصيرة

لم أكن محظوظاً، فمازلت – حتى الآن- أندهش، استغرب من تصرفاتها. موقف أتفق معها، فالحياة غالية وكورونا قاتلة في التلامس والتنفس. ازددت اقتناعاً، من خلال اصابتي بالفايروس، بفكرةِ أن كل من ما حولي في حالة خوف من الاصابةِ. كافحت طويلاً ضد الشعور بالاشمئزاز، واقتنعت أنني جرثومة خطرة على الجميع. وها أنا أبدأ الآن بالتعود على جميع المصائب التي تشكل شرط حياتي بالتخلي عن الجميع بما فيهم حبيبتي التي قضت معي ثلاثين سنة بحلوها ومرّها لم تتركني لحظة. اتذكر لحظات حياتي الأولى معها، وأذرف دموع الحنان. كان هذا الحنين والشوق اليها يمدني بالتعقل أحياناً، لكن فعل صدمة الخوف مني بعد شفائي، جعلت التعقل يتطاير مثل الشظايا. لم أعد أمسك نفسي، أنظر اليها بخجل لا يهمني من ينتظرني قدر أهتمامي بحبي الازلي زوجتي وأم اولادي. كنت أنتظرها تقبل عليّ. كان أحدنا ينظر الى الآخر، وكأنها تنظر اليّ عبر الموت، أو كأنني الموت نفسه قادم اليها فتتجمد في مكانها. حولت نظري الى بناتي وأولادي وأحفادي كلهم يشبهون خوف الأم من الموت. لقد رأيت بفزعٍ هذا الواقع المؤلم العديم الغيرة، الخالي من التضحية. وقد بدت لي زوجتي غريبة وكأنني لا أعرفها على الاطلاق. بدأ كل شيء يضجرني لا أشعر بشيء، حتى نحو شخصي أنا المشافى بنتيجة الفحص الطبي ومروري بفترة الانقاهة التي تجاوزت الخمسة عشر يوماً وأصبحت بقدرة من الله وحكمته علاجاً للمصابين. لقد شافت بلازمة دمي كل من كان معي بغرفة العزل. كنت أعطي دمي في حدود قوتي الباقية كي ترجع الحياة لكثير من الحالات المشرفة على الموت. قلت مع نفسي: كن ودوداً بما يكفي لمساعدتهم في الخروج من هذا الوضع الصعب. فمن الطبيعي بعد الاصابة بهذا الوباء القاسي، وبعد هزيمتي له بهذا الصبر على فراقها أن تخاف مني.. إنه لأمر محزن أن تخاف زوجتي من معانقتي بعد شفائي التام، فقد أحببتها، وكنت غبي في حضرتها طيلة حياتي. أشعر في أعمق أعماقي بالحزن بسببها، ثم ثبطت عزيمتي كلياً. لقد جاء زمن الفراق، فالافكار من حولي تغلي، فما هو نافع للانسان مضر لزوجتي. إن اصابتي تضطرني الى إعادة التفكير في كل من حولي. لقد خرجت الى حياة جديدة، كبرت فيها فجأة وفهمت أن الندم يأتي مرة وحده على قرار حضرني على حين غرة، وألف مرة على قرار لم أتخذ. تزايد تفاقمي على المواجه الصعبة التي كنت اعتمد بها على زوجتي اولاً واولادي ثانياً ليردوا عليّ تذوق الحياة. هنا تغلغل الاحباط في روحي، وراح شبحا أمي وأبي الميتين يلاحقانني. شعرت أن السن قد تقدمت بي وأنا في مواجة بين ذكريات حنان والولدين وموقف زوجتي وابنائي. رغم أنني أشم الهواء المنعش من جديد، والشمس تدفئ جسدي النحيل. وجمهرة من الناس المنتظرين خروج ارحامهم من غرف العزل تثير عاطفة وغريزة لم يستطع أحد تفكيك عمقها واسرار التراحم بها. أفلتْ فرحتي وماتت سعادتي وأنطفئ شوقي وحبي وقررت الرجوع الى غرفة العزل أعلن نفس صيدلية شفاء متنقلة وممتلئ -بلازمة الدم- في خدمة المصابين اينما يكونو. كانت اللحظات تجري بسرعة والجميع متسّمر بمكانهِ لا أنا لي رغبة في الاقبال عليها ولا هي بادرت بالإقبالِ عليّ لتحتضنني. لكن شق هذا التردد المرير صوت أخي وهو يطير كالفراشة نحوي ليعانقني بقوة، وهرعت أختي على صوت جلبة أخي. هنا ردت روحي خفيفة جداً الى حدّ شعوري بالخجل. من أين يمنح البشر الحب وإنكار الذات عندما لا يكون في نفسه غير الانسانية البعيدة عن التكبر؟ شعور واقعي فقد عشت خمساً وخمسين سنة دون أعرف أن في وسع الأخ والأخت أن يحبون بهذا القدر الذي يفوق حب الزوجة لزوجها، وأن يكونا بهذه الدرجة من السعادة باسم الاخوة. لماذا اتعب تفكيري في مواجهة اللغز الالهي بعد أن بكيت بحرقة ومرارة وأنا أحتضن بين ذراعي أخي وأختي وعيني على زوجتي التي لم تحرك ساكناً قلت مع نفسي: انها طيبة ولكن حبي لها توقف.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى