إدريس على بابكر - الحلم المفقود.. قصة قصيرة

تزوج ابي من أمي و هي في عتبة الخروج من بوابة الطفولة إحتواءها خوفآ من الفضائح لا سمح الله أو التزامآ بالمثل الشاع في ذاك الوقت (غطى قدحك).
لم تنجب أمي مبكرآ تجول بها أبي بين الأطباء و خبروه لا توجد عثرة للانجاب.
سلك طريق قرآءة الكف و التنجيم و كل الدروب المجهولة و زيارات إلى بركات الشيوخ و التبرك بالقبب و لم يحصل الحمل.
سافر مع أمي إلى مايرنو عند الشيخ بيلو استعملت على إثرها كافة أنواع الأعشاب و العروق و فشلت المحاولات.
غادر بها صوب مدينة كادوقلي للالتقاء بالكجورية في ضواحيها و لكن ضاع عنوانها بسبب فزع الحرب الملعونة.
الإنجاب صداع مزمن في راس أبي أضاع من وقته و ماله من لهفة الشوق و الإنتظار متعطش للابوة و الحلم الجميل.
سمع بعض الأقاويل عن الفكي إسحاق في مدينة الفاشر ابو زكريا لديه قوة خارقة إذا ضرب بعصاته الأرض أسقط أوراق الشجر و إذا رفعها إلى السماء رفع صفقها فوق الفروع من كرماته يبلغك بنوع المولود يعالج السحر و الجن و العقم و الوسواس القهار ذاع صيته خارج الحدود أصبح قبلة للامرآء و الأثرياء لم يكن الوصول إليه سهلآ.
لصلة القرابة مع صديق أبى تم اللقاء بعد جهد جبار دفع البياض من عصارة اجتهاده قرآء الفكي إسحاق كتابه بلغة أشبه باللغة اليونانية القديمة وضع يده على رأس أمي أخبرها أنها مسحورة سوف يفك طلاسم ذاك السحر الغامض أعطاها أوراق و محاياة للتحصين و بخارات تستعملها قبل النوم و بعد النوم ثم أمر بحفر حفرة ما يقارب المتر و دفن ديك أسود بعد ذبحه على الجهة الجنوبية من المنزل و شدد على أن تلتزم بالعلاج حسب الوصف.
رجعت أمي و في جناحيها آمال عريضة بوجها المبتسم أكثر تفاؤلآ.
لم تهبط المعجزة في رحم أمي و لا طال أبي درب المستحيل كل المحاولات باتت بالفشل.
أبي حط به الأقدار بسبب ظروفه العملية في مدينة واو حيث جمال الطبيعة الخلابة الشمس تحتجب خلف الغيوم و أمطار لا تعرف السكوت مدينة أقل ما توصف إنها جميلة اناسها الطيبين البسطاء بوجوهم النيرة الابتسامات العابرة بالسلام و الضحكات المجلجلة الحياة عندهم هي الرقص و الغناء على إيقاع الطبول حتى في وداع الميت تولد أغاني الرثاء
جاءت أمي إلى هنا راجفة برغبة أبي لا برغبتها سمعت عن الحرب و الموت و رعب الادغال شابها الحذر ثم الحذر رويداً رويداً انداحت و ذابت مع جارتها حبآ و سلامآ تعلمت لغة المدينة و الطقوس و التقاليد الجميلة صارت هي و اشول ثنائية عرفتهما كل المدينة.
كآن الإنجاب لديها علاقة بالأرض الخصبة اشول امرأة ولادة تلد كل عام تقريباً و أمي من الولادة لا شيء هل لا إنها قادمة من أرض قاحلة؟
تعاطفت الأرض البكرة مع أمي استجابت السماء إلى الدعاء تكورت بطن أمي شئيآ فشيئاً حان موعد ميلادي بعد عشرة أعوام من الانتظار وجعت أمي ساعة الولادة حتى رأت الموت بعينيها.
أبي سعيدآ يهدهد مرقدي سماني أيوب في نفس اليوم وضعت فيه اشول إبنها وليم بكل سهولة و يسر.
قالت العجوز المشرفة على الولادتين أن ولادة المرآة الغلفاء أسهل من التى تعرضت إلى ختان فرعوني.
ثدي أمي فقير من اللبن فارغ من جوفه إلا من بعض القطرات ابكي و أنا جائع و هي تعلم ذلك تهدهدنى طول الليل تنفد منها الصبر فتغضب مني أحياناً.
اضطريت أن ازاحم وليم في لبن أمه الدسم لذيذآ دافئآ يمنحني الشبع و السكينة و الهدوء و الابتسامة البريئة لا أبالي أن اتبول و أقضي حاجتي في ملابسها النظيفة تدلعني تحتويني بحب و حنان تلامسني في رأسي تداعب سبايب شعري الناعم تلقبني (بمندكورو) تشبه لوني بفاكهة المانجو المتساقطة على الأرصفة.
بعد عام و نصف اندلعت نزاعات بيني و بين اخي وليم على ثدي آمنا اشول هو مسالم جدآ أحاول أن أبعده بشقاوتي لكي ارضع أطول فترة ممكنة النزاع سجال بينا فنرجع نلعب و نلهو معآ و هي تضحك لا تفرق بينا الاثنين حتى بلغنا الفطام.
اشول امرأة عالية الخصوبة مثل أرض اجدادها بعد وليم أنجبت ثلاثة أطفال في خمسة سنوات و أمي اكتفت باختي أحلام.
أنتهت فترة ابي العملية و رجعنا إلى دار الصباح أعزاء فرقتنا بهم الظروف أيام سعيدة لا تمحوها الذاكرة.
دارت السنين و انقطعت أمي من الولادة اكتفت بولدها (أيوب) و بنتها (أحلام).
بفضل لبن أمي اشول إشتدي عودى و شقيت طريق الصعاب أمي أنجبتني وسيمآ جاذبآ لكن لبن أمي اشول منحني القوة و البنية المتينة و الذكاء.
كنت جنوبي الهوى اختزل في الثنايا عشق لا ينتهي في أول عتبة الجامعة صادفت شباب كثر و لكن مال قلبي إلى شاب طويل القامة أنيق المظهر متناسق الجسد بشكل رهيب جذبني إليه شيء ما تعارفنا بالصدفة قال لي أسمه عبدالرحمن من مدينة واو يجيد الإنجليزية بطلاقة تعددت اللقاءات العابرة كل يوم اتعطش إلى لقائه تعمقنا في الحكاوي و القضايا العامة اشفقنا على وطن كسيح مفطوم على الانفصام وطن جريح جرح لا يندمل.
حكي لي صديقي عن تجربته الشخصية أن والده مسيحي التدين و هو كان مسيحيآ في طفولته و تحول إلى مسلم في شبابه لم يكلفه حياته أو تعرض إلى المضايقات لم ينتقص شيء من حب عائلته له.
عندما نطق أسمه الحقيقي وليم و بدأ يسترسل عن ذكريات طفولته و عن امه اشول ارتعش جسمي خفق قلبي نفض غبار السنين أنه أخي فارقته و أنا في الخامسة من العمر إلتقينا و جمعنا خيط الذكريات سألته عن أبي و أمي الوديعة اشول الفاجعة أنها رحلت إلى الضفة الأخرى.
انهمرت الماقي بالدموع ممزوجة بكافة أشكال الشعور لوحة بديعة بكل الجمال كقوس قزح.
عاد معي إلى البيت ألفرح كان عظيمآ بعودة الابن الغائب فتحت أمي زراعيها و احضتنه بالحب و الدموع زغردت زغاريد شقت عنان السماء.
عدت السنين سريعآ و تخرجنا سويآ من الجامعة فرقتنا الظروف مرة أخرى و سوق العمل رغم التباعد الزمني وجدانيآ كنا على اتصال مستمر.
بعد سنوات عاد و طلب إيد أختي أحلام كنت على علم بالحب الصادق بينهما كانت فرحتي كبيرآ صدمني ابي برفضه الارتباط أصبح يتلكا لم أكن اعرف انه مراواغ لهذه الدرجة لشئ في نفسه خرج اخي من الديار مكسورآ بعد ما طال الانتظار و لم يعود مرة أخرى و احلام صارت عانسة إلى بقية حياتها.
مضى الزمن مسرعاً كبرت بعض الشئ و اشتعل الرأس شيبا أثناء طريقي إلى العمرة من حسن حظي وجدت اخي عبدالرحمن(وليم) في بوح المطار قادمآ من نيروبي تعانقنا لحظة مفعمة بالحب و لكن زمن إقلاع الطائرة قطعت لنا أجمل اللحظات لإعادة الذكريات الجميلة دخل كاجنبي إلى بلاده كنا اخوين بجواز سفر من دولتين مختلفتين.

(تمت)
إدريس على بابكر


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى