محمد الصالح الغريسي - "براكاج"1.. قصة قصيرة

ناجي شابّ هادئ، ممتلئ نشاطا و حيويّة ، مواظب على ممارسة رياضته المفضّلة، ألا و هي كرة السلّة.لو سألت عنه من يعرفونه عن قرب، أو أولائك الّذين تربطه بهم مجرّ د معرفة سطحيّة لا تتعدّى تبادل التّحيّة، لو سألت عنه أولئك أو هؤلاء لقالوا لك بأنّه شاب مثاليّ ، فضلا عن كونه ناجحا في دراسته. فهو يحترم الجميع، و الجميع يحترمونه.
وقف ناجي ذات يوم، في محطّة المترو ، ينتظر المترو رقم أربعة، بعد أن أنهى تمارينه الرياضيّة . السّاعة تشير إلى ما بعد الثّامنة مساء. المحطّة ضوءها خافت، و قد خلت من المسافرين. تقدّم إليه شابّان.اقترب أحدهما من جهة اليمين و الثّاني من اليسار.سأله الأول إن كان مترو الثّامنة و الرّبع المتّجه إلى" منّوبة "قد مرّـ و لم يمهله حتّى يجيب، بل أضاف يسأله إن كانت لديه ولاّعة. و تظاهر بالبحث عن علبة السّجائر ليخرج من جيب سترته خنجرا آليا و وجّهه إلى جنبه، بينما طلب منه الشّاب الآخر بلهجة هادئة و جافة،أن يسلّمه هاتفه الجوّال، و حذّره من المقاومةـ و إلاّ عرّض نفسه لمكروه.
لم يكن يوما يتصوّر، أن يتعرّض لمثل هذا المشهد. كانت المفاجأة ثقيلة عليه، و رغم ما يتمتّع به من لياقة بدنيّة، لم يفكّر في المقاومة. كلّ ما فكّر فيه أنّ هاتفه الجوّال رغم غلاء ثمنه، لا يستحقّ، أن يعرّض نفسه من أجله إلى خطر محقّق، في مكان خال لن ينجده فيه أحد.ما كان منه إلاّ أن أذعن، و سلّم الهاتف للشابّ الّذي يمسك بالخنجر، الّذي تكاد ذؤابته تخترق ثيابه إلى اللّحم.كان بعض الركّاب حينها يتجمّعون في انتظار قدوم المترو، لكنّ أحدا منهم لم يلتفت إليه و لم يتدخّل لإنقاذه.
منذ ذلك الحادث أصبح ناجي شخصا آخر .. أصبح ناقما على نفسه.. على عجزه .. على النّاس .. على جبنهم و سكوتهم على الشرّ.
بعد ذلك الحادث،حوّل تمارينه الرّياضيّة من كرة السلّة إلى الملاكمة، و ظلت عبوة الغاز الشالّ للحركة لا تفارقه.
لقد قرّر أن يعاقب النّاس على جبنهم ، و أن يستردّ عنوة حقّا سلب منه، أو هكذا تهيّأ له.و لكنّه رغم كلّ ذلك، حافظ على هدوئه و على صورته في عيون من يعرفونه.فلا ينفع أن يخسر كلّ شيء.
لم يكن ذلك الموقف القاسي الّذي عاشه ، آخر مشهد عاشه من هذا النّوع. فقد تعرّض له أكثر من مرّة ، و ترك ذلك ثقبا أسود في قلبه، حوّل ذلك الحمل الوديع إلى ذئب مفترس.
لقد استقرّ في نفسه و وجدانه، أنّه ينبغي على الآخرين أن يشربوا من نفس الكأس الّتي شرب منها هو. ينبغي أن يعرفوا طعم الخوف و العجز و هو ينهبون في وضح النّهار على مرأى و مسمع من تلك النّفوس الجبانة المحكوم عليها بالشّلل، ليصبح السّكوت و الجبن لديهم اختيارا و وجهة نظر.
في مكان معزول من أحد شوارع العاصمة، وقف ناجي قرب ضوء باهت لمصباح كهربائي عموميّ متهالك، ما انفك يرفّ من حين إلى آخر كما لو أنّه يتهيأ للانطفاء نهائيّا.
كان الطّقس باردا و الشارع شبه خال من المارّة ..وقف ناجي محتميا من المطر المتهاطل بغزارة ، بواجهة محلّ ميكانيكيّ مغلق، و كأنّه ينتظر المطر أن يكفّ عن النّزول. كان في الواقع يترصّد فريسته، ليراها تذوق مرارة الخوف و العجز و الانكسار، تماما كما ذاقه هو، أكثر من مرّة. لم ينفعه في ذلك إبلاغ السّلط الأمنيّة ، و لا هو استردّ ما قد سلب منه . كأنّ قطّاع الطّرق هؤلاء، قد أمسوا قدرا مسلّطا على النّاس، تحرسهم الملائكة، و لا تطالهم يد العدالة.لذلك قّرر ناجي أن ينزع عنه جلد الخروف و يلبس جلد الذّئب ، مادام المجتمع قد أصبح غابة ترتع فيها فيها الوحوش !.
بينما كان ناجي كذلك، تقدّم منه كهل حسن الهيأة ، و سأله إن كان يعرف محلّ ميكانيكي في مكان قريب غير هذا المغلق. أجاب ناجي بالسّلب، ثمّ انبرى بدوره يسأله:
  • ما الأمر
  • أجاب الكهل:
  • تركت سيارتي في المرآب و ذهبت إلى مكتبي و تأخّرت قليلا في الشّغل. و لمّا أتيت لآخذ سيارتي ، أبى المحرك أن يشتغل.
  • و أشار إلى المرآب في الجهة المقابلة من الشّارع، و هو يقول:
  • أرأيت تلك السيّارة السّوداء من نوع مرسيدس ، بجانب السيّارة الحمراء.. تلك هي سيّارتي.
قال ناجي للرّجل الكهل:
  • في الحقيقة .. أنا لا أعرف هذا المكان جيّدا كي أدلّك على محلّ ميكانيكيّ، و لكنّي أفهم في الميكانيك ، ربّما استطعت مساعدتك.
تهلّلت أسارير الرّجل و ارتاحت نفسه لناجي.. شكره على استعداده للمساعدة و طلب منه أن يعاين السيّارة.
انتقل الاثنان إلى مكان السيّارة .. كان هطول المطر قد خفّ قليلا ليصبح رذاذا خفيفا. طلب منه أن يناوله مفكّا و مفتاحا رقم عشرة ، و يفتح له غطاء المحرّك.
لم يكد الرّجل يفعل ما طلب منه، حتّى وجد نفسه أمام ناجي و هو يشهر في وجهه مسدّسا ، و يطلب منه هاتفه الجوّال و ما في جيبه من أموال.
انزعج الرّجل .. تملّكه خوف شديد، و سقط من يده المفكّ و المفتاح رقم عشرة. لم يعد قادرا حتّى على طلب النّجدة. لقد كانت المفاجأة ثقيلة عليه. ما كان منه إلاّ أن قدّم له هاتفه الجوّال، و همّ بتقديم ما في جيب سترته من المال، و لكنّ ناجي عاجله بالقول:
  • أعد مالك إلى جيبك .. يكفيني الهاتف الجوال
  • ثمّ أمره تحت تهديد المسدس أن يدخل سيّارته ، و أقفل عليه من الخارج.ثمّ صاح :
-ستجد المفتاح في الصندوق الخلفي للسيّارة.
انطلق ناجي يسابق الرّيح و هو يضحك في قرارة نفسه من جبن هؤلاء النّاس، ثمّ اختفى بين الأنهج و الأزقّة الضيّقة، و هو يسير بخطى عاديّة حتّى لا يلفت الانتباه.
ما كان يضحكه، هو أنّ المسدس الّذي كان معه، لم يكن سوى مسدس صوتيّ كتلك المسدّسات الّتي تستعمل في المسرح و السينما. ما جعله يضحك فعلا، هو شهامته الّتي جعلته يترفّع عن أخذ المال.أيمكن للشّهامة و السّلب أن يجتمعا في شخص واحد؟
لأول مرّة، أحسّ ناجي و هو يعود إلى البيت، بأنّه هدم جدار الخوف و أدرك معنى أن يكون الإنسان قويّا.. أن يسيطر على إرادة الآخرين.. أن لا يكون خروفا بل ذئبا و لو بجلد خروف.
فتح الهاتف الجوّال.. كان آخر ما صدر في عالم الإلكترونيات. لم يكن ذلك ما صدمه. ما صدمه فعلا ، هو ما وجده داخل الهاتف من مكالمات مسجلة، فيها تهديد لأشخاص بفضح أمرهم إن لم يدفعوا مبلغ كذا. و فيه لقطات فيديو فاضحة يبدو أنّها التقطت لهم لغاية ابتزازهم بها. عندها أدرك ناجي أنّ ضحيّته كان مجرما كبيرا و متحيّلا خطيرا. و عرف فيما بعد أنّه المجرم الّذي كتبت عنه الصحف مؤخّرا، و تحدّثت عنه القنوات التّلفزيّة، و أنّه الشّخص المطلوب رقم واحد لدى الشّرطة.
في لحظة بينه و بين نفسه، أدرك ناجي أنّ الخوف إحساس إنسانيّ لا ينقص شيئا من إنسانيّة الإنسان .ما ينقص أو يضيف هو نزعة الشرّ أو الخير الّتي تطبع وجدانه و سلوكه.
أخيرا أدرك ناجي أنّه لم يتغيّر في جوهره.كان سعيدا أنّه استرجع نفسه الطيّبة، و بقي كما كان، ذلك الشّاب الطيّب الّذي يحبّه كلّ من كان يعرفه. و حمد الله أنّ صورته ما تزال ناصعة أمام نفسه و أمام الآخرين.
دوّن ناجي ما حدث له بالتّفصيل و أرفقه في ظرف مع الهاتف الجوال ، ثمّ أودعه في صندوق بريد إحدى الصّحف اليوميّة الأكثر انتشارا في البلاد، لتأخذ العدالة بعد ذلك مجراها.

محمد الصالح الغريسي

----------------------------------------------------------------------------------------------
[1] - براكاج : braquage هي لفظة فرنسيّة تعني السّلب . السّرقة مع التّهديد بالعنف. أصبحت هذه اللّفظة مصطلحا متداولا في الخطاب اليومي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى