الوقت يشير إلى منتصف الليل , والجو شتاء , والقطار ممتلئ عن آخره بالركاب .. وقفت .. مددت بصري إلى آخر العربة .. انتظرت أحد البائعين حتى يمر من أمامي أوصيت صديقي أن يحافظ على المكان....
أحاول أن أتفادى الزحام , أرفع قدمي .. وبحذر شديد , أضع الأخرى , حتى لا أؤذي أحد النائمين في ردهة العربة , والقاعدين في الممر .. منهم من ينظر , والبعض يغط في سبات عميق .. والباقي منشغل بحاله .. وأنا كنت في طريقي إلى الحمام ....
القطار مزدحم عن آخره .. ولا تكاد تجد فيه موضع قدم .. والعربة تشبه علبة السردين .. وأنا محتقن , ومتعب , ولا أقوى علي الصبر .....
أخيراً استطعت أن أصل إلى دورة المياه التي في آخر العربة , كانت مغلقة من الداخل .. حاولت أن أفتحها , حتى أدخل لأقضي حاجتي .. فأنا لم أستطع الانتظار أكثر من هذا , ومن بالداخل أغلقوا عليهم الباب جيداً .. أخذت أطرق عليهم الباب حتى يفتحوا لي , فلم يرد علي منهم أحد .. فاشتد غضبي , وغيظي , وحنقي عليهم وأخذت أضرب عليهم الباب بقوة .. وأنا أكيل لهم ولآبائهم السباب والشتائم حتى يفتحوا لى الباب .. فأنا لم أستطع أن أتحمل أكثر من هذا .. بعض الركاب يرفع رأسه .. والنائمون لم ينتبهوا .. واكتشفت في النهاية , بأنني لست الوحيد الذي ينتظر من بالداخل كي يخرج ليقضي حاجته .....
أخذت الأصوات تتعالى .. ونحن نتبادل الألفاظ النابية .. ما يربوا علي ربع ساعة تقريباً .. وضحكات من بالداخل تستفزني , والتعليقات السخيفة تبعث على الغضب واحداً من الركاب تطوع وأستدعى مفتش القطار .. فطرق عليهم الباب بقوة .. وراح يهددهم , ويتوعدهم , إن لم يخرجوا بالأدب , من دورة المياه فوراً , فسيوقف القطار في المحطة القادمة , ويسلمهم للشرطة , ويحمّلهم المسؤولية كاملة , وربما حبسهم أيضاً .. وهنا بدأ الباب يُفتح شيئاً فشيئاً .. وما أن رآهم , حتى تفل عليهم .. ولطم أحدهم علي خده بالقلم .. وهو يسألهم :
ما الذي جعلهم يفعلون هذا..؟.. وعن التذاكر ..؟. " ....
صمت الجميع ولم يبدوا جواباً .. أخرج الدفتر الصغير من جيبه .. فرَّ أوراقه من جديد .. حدّج أحدهم بنظارته المقعرة .. وهو يضع القلم فوق أذنه .. والدفتر قد أسنده إلي صدره .. وهو يسأله بصوت قوي .....
ــــ راكب من أين .. ونازل أين ...........؟
ـــ .....................
أخذ النقود منه .. وضعها في جيبه .. وأعاد القلم إلي يده .. وراح يخط بالقلم فوق الورق .. وهو يهمس نحوي .. ببسمة خبيثة كَسَت وجهه ..
ـــ وانت فين التذكرة يا دفعة ...
ـــ .................
أخرجت له استمارة السفر.. هز رأسه , ولم يمسكها مني .. فقط , اكتفى بهز الرأس , وتلك البسمة الصفراء التي أمُجّها .. يبدو أنه حفظ وجهي جيداً ..
مع السترة الميري .. وضعتها ثانية في جيبي .. ووقفت مكاني .. أنتظر دوري في الدخول .. وأنا أكاد أنفجر.. يتجاوزنا مفتش القطار.. وهو يكيل لهم السباب .. ويتوعدهم إن عادوا لمثلها ..........
البرد شديد , وقارص , والهواء يضرب وجهي من نافذة القطار .. وأنا محتقن ...
تحسست التصريح الذي أدخلته في جيبي تواً.. رميت ببصري من النافذة المكسورة خارج القطار , كل شيء يبدو هادئا وجميلا , البيوت النائمة وسط الحقول تنبعث منها الأضواء الخافتة .. وأعمدة النور المصطفة على جانبيّ الجسر الحربي .. والترعة الموازية لشريط القطار .. والجسر الذي لا يخلو من بعض العربات التي تظهر فجأة , ثم تختفي , والحقول التي نامت بعيداً في المدى في سكون جميل ..
نظرت في ساعة معصمي .. لأتعرف علي الوقت ...............
باقي من الزمن سويعات قلائل .. وأكون في بلدي الحبيبة " طهطا " لا بأس ..
" أجمل لحظات عمري هي التي أكون فيها عائداً من السفر , فأنا أكره الغربة .. ولحظات الفراق .. وأيضاً لحظات الانتظار , لا أحبها أبداً .. كثيراً ما عرض عليَّ بعض الأصدقاء في مركز التدريب بالجيش .. أن اذهب لأقضي وقتاً لطيفاً معهم .. يوماً أو بعض يومٍ في بلادهم فهناك الجو جميل جداً وساحر .. والطقس أكثر من رائع .. هكذا كانوا يقولون لى , فأهليهم من شدة الحديث عني .. يتمنون رؤيتي ــ على حد زعمهم ــ ويشتاقون .. لكني كنت أرفض , وبشدة .. فأنا لولا التجنيد ما خرجت من بلدي أصلاً .. فأنا ما أصدق أن أخذ التصريح من " الكتيبة" وأقول يا :
" أبو فكيك" علي بلدي طوالي , بلدي الطيبة الحبيبة " طهطا" التي أعشق ثراها , وأعشق أرضها , وسماها , ونيلها , ونخيلها , وجوهها , وهواها , ومبانيها وأهلها الطيبين .. وكل شيء فيها .. لقد أمضيت جُلَّ عمري فيها .. فمنذُ وعيتُ على الدنيا .. وفتحت عيني على أرضها الخضراء .. التي كانت تمتد بامتداد البصر , قبل أن تغزوها المباني الخراسانية , والأبراج التي تشق عنان السماء , وتحجب الرؤية , والانفجار السكاني الذي حدث فيها , والزحام الذي لا يطاق , وأنا أعشقها".....
أنتبه .. أسمع من يقول لي:
ــ أتفضل دورك يا أستاذ ..؟!
ــ انا ..؟!..
ــ تفضل ..؟!..
ــ شكراً ..!
الباعة الجائلون في القطار .. ما زالت أصواتهم مرتفعة , لم تكل ولم تمل من النداء وهم يقطعون العربة ذهاباً , وإياباً , بائع الشاي , والترمس , و" الكولا والهدايا "الانتيكات".. والسندوتشات .. الخ .. وكأن القطار انقلب , وصار بقدرة قادر إلي " سوبر ماركت " أو سوق كبير متحرك .. أو" مول كبير" .. وكلٍ ينادي على سلعته , وبضاعته , بطريقته الخاصة ... وأنا أحاول أن أعود ألي مكاني ..
أشق الصفوف بصعوبة بالغة , فالإضاءة خافته , بل تكاد أن تكون شبه معدومة وبمهمة قتالية .. أرفع قدم , وأحط أخرى .. حتى لا تأتي علي أحدٍ نائم , في ردهة القطار, أو جالس لم يصبه النوم بعد .. وهم ينظرون إليّ نظرات حذرة.. وأنا ممسك بالحديدة التي فوق الكراسي ......
يقترب القطار من احد المحطات , يهدئ من سرعته يقوم بعض الركاب يتهيؤون للنزول , يستيقظ النائمون في ردهة القطار , ومن هم خلف الباب.....
أخيراً وصلت مكاني بسلام .. وقفت قليلاً أعدّل من هندامي .. ريثما يقوم الرجل الجالس مكاني .. وأنا أرفع عيني علي حقيبتي التي فوق الرف .. حتى أطمئن بأنها لم تزل في مكانها.. وقد وقف القطار على الرصيف , هنيهة .. نزل أناس كثير ون, وصعد أكثر .. والصقيع يصفع الوجوه .. والقطار يزمجر , يريد الإذن بالإنطلاق ..
فقط تغيرت بعض الوجوه , وبقي الزحام كما هو , والباعة الجائلون مازالوا يدفعون الناس , وينادون على من يشتري منهم .. وعاد كل الي ما كان عليه ...
جلستُ مكاني , أنظر إلي الفتاة .. والحوار مازال متصلاً بين صديقي , وأم الفتاة .. ولكن خبأت جذوته بعض الشيء.. أما الفتاة فكانت منهمكة في صحيفتي التي تركتها تتطلع فيها .. أغلَقَتْ الصحيفة .. ومدّتها نحوي , وهي تبتسم ...
ــ خليها معاكي .. أنا خلاص قرأتها...
ـــ لا لا , شكراً , قرأتها خلاص ...
ــ بتدرسى ...؟
ــ في الجامعة ...!
ــ في سنة كام .....؟
ــ سنة ثانية أداب ..
ــ ..................!
وأخذ الحوار يطول , ويمتد بيننا بطريقه عفوية .. وتطرَّق إلي كثير من المواضيع حكت لي عن حياتها .. وعن أبيها ــ مدير المدرسة ــ الذي مات .. وهي صغيرة ولم تره .. وعن أخيها الذي رباها.. ويريد أن يزوجها من صديقه الثري .. كي يضمن لها حياة كريمة .. بالرغم من أنها لا تحبه .. وكذا يكبرها بكثير .. وكيف كان يحضره معه في كل مرة ليراها , ويحادثها .. وهي لا تريده .. وتريد أن تكمل تعليمها الجامعي .. وعن أمها التي لا حول لها ولا قوة .. ثم همست لي بصوت رقيق ناعم :
ــ كنت أتمنى ان ألاقي إنسانا مثلك.. لينقذني من هذا الشقاء.. والعناء الذي أعيشه.
ابتسمت في نفسي .. وشعرت بالسعادة والفخر , والفرح .. فهذه أول مرة .. أسمع فيها هذا الكلام .. وأنا أيضاً لا أدري لماذا حكيت لها حكايتي .. مع تلك الفتاة الريفية التي جاءت الي مدينتنا.. وسكنت في البيت المتاخم لنا .. وعن علاقة الحب التي ربطت قلبينا .. وكيف جمعتنا الحياة .. وكيف فرقتنا .. وكيف كانت قصتي معها .. وكيف .. وكيف .. وكيف .....
قصصت عليها قصتي وأنا لا أدري لماذا ..؟ .. ربما لأنها كانت تشبهها كثيراً..
أو ربما لأني دائماً أحب أن أحكي عنها .. أو ربما شيئاً آخر لا أدري ما هو.....
وضحكت في نفسي , من حكمة الأقدار .. وكيف هي تشبها إلي درجة رهيبة لا تصدق .. ونسيت الوقت , أو تناسيته .. وبدأ الهدوء يلف المكان .. والنوم يسري ويتسرب في أرجاء العربة .. حتي أني تثاءبت فجأة .. فضحكت واتهمتني بأني كتكوت صغير .. ولما سألتها عما تقصد .. قالت وهي لم تزل تضحك ..
ــ بتنام بدري مثل الكتكوت ..
نظرت في ساعة يدي كانت تشير الي منتصف الليل .. قلت لها:
ــ على فكرة انا بعشق الليل والسهر
ــ ما هو باين عليك
فرددت عليها وانا أتثاءب .. محاولاً طرد النوم الذي هجم عليَّ فجأة ..
ــ انا بس مرهق شويه عشان ما نمتش بقالي يومين
ـــ يومين...؟
قالتها باستغراب , وشيء من الاندهاش .. والدهشة تملأ عينيها .. وبقايا الضحك عالق فوق وجنتيها .. وواصلت قولي :
ـــ في الجيش مفيش نوم ...
ــ تعرف أنا كان نفسي أكون ولد وأدخل الجيش , ممكن أتطَّوع , ينفع...؟
ــ اه ينفع .. بس ازاي , وليه ..؟!..
ــ مش عارفه بس نفسي أدخل الجيش وخلاص .. يمكن عشان بحب بلدي..؟!
ــ ومين فينا لا يحب بلده ولا جيش بلده
قلت لها ذلك.. وأنا أرجع بجسدي للوراء على المقعد .. وقد حضر في رأسي بقوة الشويش " فراج".. ومركز التدريب .. والجبل الاحمر.. والكتيبة التي انا بها .. وأول يوم دخلت فيه الجيش .. كان يوماً لا ينسى .. يوم محفور في الذاكرة .. لن أنساه أبداً ما حييت .. أذكره جيداً ......
" كنت دفعة يناير .. في عز طوبى .. ذهبت الى مركز التجنيد .. لإجراء الكشف الطبي علينا .. وهناك جردونا من الثياب .. إلا ما يستر العورة .. وأخذنا نتنقل من مكان لمكان .. ومن مكتب الى مكتب .. وأجروا علينا كل الفحوصات , والكشوفات الطبية .. وفي الأخير نادوا علينا .. ليسمع كل منا سلاحه .. استلمت الكرنيه ....
" شؤن معنوية ".. هذا كان سلاحي .. لا بأس .. ثم ذهبنا الي محطة القطار .. ومن أراد أن يذهب بمفرده ذهب , بعدما أعلموه بالمكان الذي سيلتقي بهم هناك ...
وعند غروب الشمس ذهبنا .. وكنا في شهر رمضان .. ونحن صيام .. القطار يسير ببطء .. يركن في كل محطة .. والساعة تقترب من الواحدة صباحاً .. نزلنا مع مندوب التجنيد .. الذي أجلسنا في مكان واحد .. تحت محطة مصر .. وطلب منا عدم الذهاب في أي مكان .. وهو يقول لنا :
ــ من النهاردة بقيتوا عساكر .. الذي يهرب منكم سيحاكم محكمة عسكرية.."..
واخذ يقول لنا أشياء أخرى .. لم أتبين منها إلا أنني أصبحت عسكريا .. ومن الأن فصاعداً محاسب عن كل تصرفاتي .. ومن يهرب يتحمل نتيجة هروبه .. نصف ساعة وجاءت الأتوبيسات الفاخرة .. والتي تشبه الأتوبيسات السياحية .. تدافعنا ليحصل كل واحد منا علي مقعد في الأتوبيس .. ثم انطلقت بنا العربات إلى وجهتها وكان أغلبنا ينظر من الشباك .. وقد أخذته الأنوار .. وأبهرته أضواء المدينة , بشوارعها المكتظة بالمشاة .. والعربات الفارهة .. والأبراج الضخمة , الفخمة , واليفط العريضة للممثلين .. والإعلانات للسلع والمنتجات التي لا يرونها الا عبر الفضائيات .. حتي خرجت الأتوبيسات من المدينة , ودلفت بنا في الصحراء .. حيث الظلام الدامس .. والمجهول الذي ينتظرنا .. والحياة التي سنعيشها هناك في قلب الصحراء .. حياة الميري التى تصنع الرجال .. وتنتج الأبطال"......
ما زلت أذكر تفاصيل هذا اليوم البعيد .. وذكرياته الجميلة .. مستحيل أن أنساها..
لا أدري لماذا يحضرني الأن الشويش " فراج" وهو واقف أمامنا في أرض الطابور .. وهو يقول لنا .. بصوته القوي , الأجش ..
ــ الجيش قال لك أتصرف .. سامع يا عسكري يا بعكوك ..
الساعة الآن بعد منتصف الليل .. والقطار يطوي الحقول طياً .....
بعد ساعتان من الآن سأكون في بيتنا .. ترى هل سأجد أبي مازال مستيقظا حتي الان .. ــ " لقد اشتقت إليك كثيراً يا أبي.."...
الفتاة تكلمني , فيأتيني صوتها العذب , لينتشلني من ركام الذكريات .. والتداعيات المزدحمة في رأسي .. وبصوتها الجميل , تقول لي:
ــ انا نازلة المحطة الجايه .. اتفضل معنا ..
ــ ياه حالاً كده .. مر الوقت سريعاً ..
ــ الأوقات الحلوة بتمر بسرعة .....
ــ كنت أتمنى أن ألقاكِ في وقت آخر مختلف..!!
تقف .. تتهيأ للنزول .. تطلب من أمها وامراة أخيها أن يستعدا .. نظرت أمها لي نظرات غامضة .. لا أعرف مغزاها , ولا معناها .. وامرأة أخيها تبدأ في جمع أشيائهم .. وهى تطلب مني أن أساعدهم في إنزال جاجياتهم من فوق الرف .. يتطوع معي صديقي بالمساعدة .. فأطلب منهم أن يهدأوا قليلاً .. فالوقت لم يزل فيه متسع .. والقطار باقي على وصوله لرصيف المحطة ربع ساعة .. قلت لها ذلك .. وأنا أنظر في عينيها السوداوين الكحيلتين الحزينتين في نفس الوقت .. وفجأة ودون سابق إنذار .. وأنا أنزل لهم أشياءهم التي فوق الرَّف , رأسها تقترب من رأسي فأشتم رائحة رأسها , وفمها ذو النكهة اللذيذة .. وهي تقول لي:
ــ ممكن تبعتلي جواب بعد ما توصل
ــ حاضر بس العنوان
ــ ..........
كتبت لي العنوان , أحفظه في جيبي , وذاكرتي , ورحت أهز لها رأسي بالإيجاب .. ألتفت إلي صديقي الذي لم ينته بعد من الحديث مع أم الفتاة .. وقد القتْ إليه السمع .. وأمراة أخيها التي قد اندمجت مع الشباب في المقعد المجاور في لعبة الكتشينة .. وكان صوت مسجل ينبعث منه الغناء " أم كلثوم" وهي تشدو بصوتها الكروان ...... " الليل ودقة الساعة تصحي الليل.. وتفيد بايه يا ندم يا ندم .. وتعمل ايه ياعتاب .. طالت ليالي السهر .. وتفرقوا الاحباب .. اتفرقوا الاحباب .. وبقينا بعاد , بعاد , والنار بقت دخان ورماد..".....
يُخرج صديقي علبة سجائره .. يعطيني واحده بعد ما أشعلها لي .. أضعها في فمي سحبت منها نفساً عميقاً .. أُخرجه في الهواء .. يصل الدخان الي وجه الفتاة .. تكح .. تسعل حتى دمعت عيناها .. وهي تهوِّي بالصحيفة الورقية .. وتقول لي :
ــ انت بتستفيد إيه من الزفته دى
ــ ولا حاجة
ــ طاب ما تبطلها يا أخي
ــ فكرك كده
ــ ..............
يقترب القطار من المحطة .. المباني النائمة في الظلام تبتعد .. وتظهر المباني النائمة وسط الأنوار الكاشفة .. يُهدِّئ القطار من سرعته .. يُصفِّر ليعلن عن نفسه , ووصوله .. يتهيأ النازلون .. يستعدون للهبوط , بجوار الباب يقفون .. تنهض أم الفتاة .. تنادي على زوجة إبنها الحامل .. وتطلب من بنتها بأن تمسك بالحاجة جيداً .. تنبهها ثانية .. وتحذرها , وهي نازلة من القطار .. حتي لا تنزلق قدمها .. الفتاة تنهض تُمسك بإمرأة أخيها.. تمتد الأيدي بالسلام .. أقف اسلم عليهم .. وانا أشكرها على هذا اللقاء الجميل , الذي رتبه لنا القدر سلفاً .. يقف القطار علي المحطة .. يقفز بعض الركاب على الرصيف .. ولا ينتظرون , أذهب معهم الى باب القطار .. أساعدهم في النزول .. وأنا أتمنى لو أن تطول الدقائق المتبقية , وتمتدُ بيننا إلى ما لا نهاية , وتمنيتُ أيضاً لو كانتْ تلك الفتاة من بلدي .. أو أكون أنا من بلدها .. حتى أراها كل يوم .. وربما تطورت العلاقة بيننا إلى درجة الإرتباط بها.....
بضع دقائق مرت عليَّ بعمر الكون , وعيناي في عينيها .. حتى أتشبع من هذا البريق الأخاذ , والجمال الرباني الساحر الذي يطلُّ من عينيها الكحيلة .. حتى غبتُ عن الوجود .. ورحت اسرح بخيالي .. تخيلتها .. وهي زوجتي ..
" وهي معي في البيت .. وقد نهضنا على التو من أمام التلفاز بعد مشاهدة فلم السهرة.......
يآآه حلم جميل .. تمنيت أن يكون حقيقة .. حُلم أظنه مستحيلا ..لأننا سنفترق الآن .. ومن يدري , لعلنا لا نلتقي مرة آخرى .. ولا يرى أحدنا الآخر مرة ثانية.. لكن ما أجمل الحُلم .. وما أجمل أن تحُلم .. والأجمل منه محاولة تحقيق الأحلام ....
يقف القطار على رصيف المحطة .. أنزل معهم علي الرصيف أنا وصديقي .. وقد أنزلنا لهم ما معهم من أشياء .. وأنا أمسك يدها , كي أساعدها في النزول ....
"ما أروع يدها البضة , وما أجملها.. وما أحلاها , وما أطراها, وأنداها , وأعطرها من يد .. أخالها لو وضعتْ على مريضٍ لشفي .. ولو مسحتْ بها علي ميتٍ لقام في الحال نشيطاً .. ولكنها قتلتني أنا بطراوتها ونداوتها ..".....
وقفت أمامها ــ على رصيف القطار ــ ساهمٌا , تائها , وأنا أودعها .. وقلبي يعصره الألم , والحزن لفراقها .. وللحظة مجنونةٍ , دارت فكرة مجنونةٍ في رأسي , فكرتُ أن أترك صديقي , والقطار , وكل شيءٍ , وأذهب معهم .. حتى أعرف بيتها ــ على الأقل ــ وكنت من الممكن أن أفعلها , لولا أن كان الوقت متأخراً جداً .. وأنا لا أدري أين سأبيت.. كما أنه لا يصح عندنا في مجتمعنا الشرقي ــ فضلاً على أننا صعايدة ــ كما أنه لا يصح , ولا يجوز بأن نُدخل أحداً غريباً لا نعرفه في دارنا بالليل .. فضلاً على الميبت في البيت..
وسألت نفسي ..
ــ ماذا سيقول الناس بعدما يروني وأنا خارج من عندهم .. وما أدراني بأنهم سيجعلوني أبات عندهم .. ولما لا يكون تمسكهم بي مجرد مجاملة لا أكثر .. لاني ساعدتهم في سفرهم هذا.. كما أن الوقت متأخر جداً.. ولما .. وكيف .. ولماذأ ..؟!.
وأشياء أخرى كثيرة دارت في رأسي .. وأنا واقف أنظر إليهم , وهم ينظرون .... فجأة سمعت صوت صديقي يناديني من جوف القطار وقد ابتعد صوته قليلاً ....
ــ القطار سحب , أركب بسرعة ... القطار سيفوتك ...
أنتبهتُ , التفتُ , كان القطار يتحرك من علي المحطة .., أفيق لأجد نفسي واقفاً بمفردي علي الرصيف .. والقطار يأخذ سرعته , واشتدت .. جمعت عقلي .. في ثواني معدودة , شحذت همتي .. وجمعت قوتي .. وأخذتُ قراري , وانطلقت أجري خلف القطار .. أسرعت , إرتديت اخر عربة , وأنا على آخر نفس .. أرمي بنفسي في القطار .. والناس تنظر إليَّ في إشفاق , ولوم............
ــ الحمد لله القطار كان سيتركك
قالها صديقي , وهو يلكزني في صدري , ويضحك , ضحك هستيري , وأنا أبتسم له , وأضحك على نفسي , في نفسي مما جري .. عدت إلى مكاني .. بجوار النافذة المكسورة جلست , في وجوم , وشرود تام , أسترجع كل ما مرَّ , وما دار, وما كان , .. وصديقي يوبخني تارة , ويضحك علي تارة أخرى .. وهو يقول لي :
ــ انت مجنون القطار كان سيفوتك , وانت واقف ولا هنا...؟!!...
ــ ...................
لم أرد عليه .. فقط .. أخرجت الراديو الصغير " الترانزستور" الذي في جيبي .. أدرت مؤشره ....
كان صوت " أم كلثوم " ما زال يصدح , ويشدو بالغناء..
" الليل ودقة الساعة تصحي الليل .. والغربة , والتنهيد لسه مهمش بعيد...
وتفيد بأيه يا ندم , يا ندم وتعمل ايه يا عتاب .. طالت ليالي السهر واتفرقوا الاحباب وتفرقوا الاحباب .. وبقينا بعاد بقينا بعاد .. "... و ....
***********
على السيد محمد حزين ــ طهطا ــ سوهاج ــ مصر
أحاول أن أتفادى الزحام , أرفع قدمي .. وبحذر شديد , أضع الأخرى , حتى لا أؤذي أحد النائمين في ردهة العربة , والقاعدين في الممر .. منهم من ينظر , والبعض يغط في سبات عميق .. والباقي منشغل بحاله .. وأنا كنت في طريقي إلى الحمام ....
القطار مزدحم عن آخره .. ولا تكاد تجد فيه موضع قدم .. والعربة تشبه علبة السردين .. وأنا محتقن , ومتعب , ولا أقوى علي الصبر .....
أخيراً استطعت أن أصل إلى دورة المياه التي في آخر العربة , كانت مغلقة من الداخل .. حاولت أن أفتحها , حتى أدخل لأقضي حاجتي .. فأنا لم أستطع الانتظار أكثر من هذا , ومن بالداخل أغلقوا عليهم الباب جيداً .. أخذت أطرق عليهم الباب حتى يفتحوا لي , فلم يرد علي منهم أحد .. فاشتد غضبي , وغيظي , وحنقي عليهم وأخذت أضرب عليهم الباب بقوة .. وأنا أكيل لهم ولآبائهم السباب والشتائم حتى يفتحوا لى الباب .. فأنا لم أستطع أن أتحمل أكثر من هذا .. بعض الركاب يرفع رأسه .. والنائمون لم ينتبهوا .. واكتشفت في النهاية , بأنني لست الوحيد الذي ينتظر من بالداخل كي يخرج ليقضي حاجته .....
أخذت الأصوات تتعالى .. ونحن نتبادل الألفاظ النابية .. ما يربوا علي ربع ساعة تقريباً .. وضحكات من بالداخل تستفزني , والتعليقات السخيفة تبعث على الغضب واحداً من الركاب تطوع وأستدعى مفتش القطار .. فطرق عليهم الباب بقوة .. وراح يهددهم , ويتوعدهم , إن لم يخرجوا بالأدب , من دورة المياه فوراً , فسيوقف القطار في المحطة القادمة , ويسلمهم للشرطة , ويحمّلهم المسؤولية كاملة , وربما حبسهم أيضاً .. وهنا بدأ الباب يُفتح شيئاً فشيئاً .. وما أن رآهم , حتى تفل عليهم .. ولطم أحدهم علي خده بالقلم .. وهو يسألهم :
ما الذي جعلهم يفعلون هذا..؟.. وعن التذاكر ..؟. " ....
صمت الجميع ولم يبدوا جواباً .. أخرج الدفتر الصغير من جيبه .. فرَّ أوراقه من جديد .. حدّج أحدهم بنظارته المقعرة .. وهو يضع القلم فوق أذنه .. والدفتر قد أسنده إلي صدره .. وهو يسأله بصوت قوي .....
ــــ راكب من أين .. ونازل أين ...........؟
ـــ .....................
أخذ النقود منه .. وضعها في جيبه .. وأعاد القلم إلي يده .. وراح يخط بالقلم فوق الورق .. وهو يهمس نحوي .. ببسمة خبيثة كَسَت وجهه ..
ـــ وانت فين التذكرة يا دفعة ...
ـــ .................
أخرجت له استمارة السفر.. هز رأسه , ولم يمسكها مني .. فقط , اكتفى بهز الرأس , وتلك البسمة الصفراء التي أمُجّها .. يبدو أنه حفظ وجهي جيداً ..
مع السترة الميري .. وضعتها ثانية في جيبي .. ووقفت مكاني .. أنتظر دوري في الدخول .. وأنا أكاد أنفجر.. يتجاوزنا مفتش القطار.. وهو يكيل لهم السباب .. ويتوعدهم إن عادوا لمثلها ..........
البرد شديد , وقارص , والهواء يضرب وجهي من نافذة القطار .. وأنا محتقن ...
تحسست التصريح الذي أدخلته في جيبي تواً.. رميت ببصري من النافذة المكسورة خارج القطار , كل شيء يبدو هادئا وجميلا , البيوت النائمة وسط الحقول تنبعث منها الأضواء الخافتة .. وأعمدة النور المصطفة على جانبيّ الجسر الحربي .. والترعة الموازية لشريط القطار .. والجسر الذي لا يخلو من بعض العربات التي تظهر فجأة , ثم تختفي , والحقول التي نامت بعيداً في المدى في سكون جميل ..
نظرت في ساعة معصمي .. لأتعرف علي الوقت ...............
باقي من الزمن سويعات قلائل .. وأكون في بلدي الحبيبة " طهطا " لا بأس ..
" أجمل لحظات عمري هي التي أكون فيها عائداً من السفر , فأنا أكره الغربة .. ولحظات الفراق .. وأيضاً لحظات الانتظار , لا أحبها أبداً .. كثيراً ما عرض عليَّ بعض الأصدقاء في مركز التدريب بالجيش .. أن اذهب لأقضي وقتاً لطيفاً معهم .. يوماً أو بعض يومٍ في بلادهم فهناك الجو جميل جداً وساحر .. والطقس أكثر من رائع .. هكذا كانوا يقولون لى , فأهليهم من شدة الحديث عني .. يتمنون رؤيتي ــ على حد زعمهم ــ ويشتاقون .. لكني كنت أرفض , وبشدة .. فأنا لولا التجنيد ما خرجت من بلدي أصلاً .. فأنا ما أصدق أن أخذ التصريح من " الكتيبة" وأقول يا :
" أبو فكيك" علي بلدي طوالي , بلدي الطيبة الحبيبة " طهطا" التي أعشق ثراها , وأعشق أرضها , وسماها , ونيلها , ونخيلها , وجوهها , وهواها , ومبانيها وأهلها الطيبين .. وكل شيء فيها .. لقد أمضيت جُلَّ عمري فيها .. فمنذُ وعيتُ على الدنيا .. وفتحت عيني على أرضها الخضراء .. التي كانت تمتد بامتداد البصر , قبل أن تغزوها المباني الخراسانية , والأبراج التي تشق عنان السماء , وتحجب الرؤية , والانفجار السكاني الذي حدث فيها , والزحام الذي لا يطاق , وأنا أعشقها".....
أنتبه .. أسمع من يقول لي:
ــ أتفضل دورك يا أستاذ ..؟!
ــ انا ..؟!..
ــ تفضل ..؟!..
ــ شكراً ..!
الباعة الجائلون في القطار .. ما زالت أصواتهم مرتفعة , لم تكل ولم تمل من النداء وهم يقطعون العربة ذهاباً , وإياباً , بائع الشاي , والترمس , و" الكولا والهدايا "الانتيكات".. والسندوتشات .. الخ .. وكأن القطار انقلب , وصار بقدرة قادر إلي " سوبر ماركت " أو سوق كبير متحرك .. أو" مول كبير" .. وكلٍ ينادي على سلعته , وبضاعته , بطريقته الخاصة ... وأنا أحاول أن أعود ألي مكاني ..
أشق الصفوف بصعوبة بالغة , فالإضاءة خافته , بل تكاد أن تكون شبه معدومة وبمهمة قتالية .. أرفع قدم , وأحط أخرى .. حتى لا تأتي علي أحدٍ نائم , في ردهة القطار, أو جالس لم يصبه النوم بعد .. وهم ينظرون إليّ نظرات حذرة.. وأنا ممسك بالحديدة التي فوق الكراسي ......
يقترب القطار من احد المحطات , يهدئ من سرعته يقوم بعض الركاب يتهيؤون للنزول , يستيقظ النائمون في ردهة القطار , ومن هم خلف الباب.....
أخيراً وصلت مكاني بسلام .. وقفت قليلاً أعدّل من هندامي .. ريثما يقوم الرجل الجالس مكاني .. وأنا أرفع عيني علي حقيبتي التي فوق الرف .. حتى أطمئن بأنها لم تزل في مكانها.. وقد وقف القطار على الرصيف , هنيهة .. نزل أناس كثير ون, وصعد أكثر .. والصقيع يصفع الوجوه .. والقطار يزمجر , يريد الإذن بالإنطلاق ..
فقط تغيرت بعض الوجوه , وبقي الزحام كما هو , والباعة الجائلون مازالوا يدفعون الناس , وينادون على من يشتري منهم .. وعاد كل الي ما كان عليه ...
جلستُ مكاني , أنظر إلي الفتاة .. والحوار مازال متصلاً بين صديقي , وأم الفتاة .. ولكن خبأت جذوته بعض الشيء.. أما الفتاة فكانت منهمكة في صحيفتي التي تركتها تتطلع فيها .. أغلَقَتْ الصحيفة .. ومدّتها نحوي , وهي تبتسم ...
ــ خليها معاكي .. أنا خلاص قرأتها...
ـــ لا لا , شكراً , قرأتها خلاص ...
ــ بتدرسى ...؟
ــ في الجامعة ...!
ــ في سنة كام .....؟
ــ سنة ثانية أداب ..
ــ ..................!
وأخذ الحوار يطول , ويمتد بيننا بطريقه عفوية .. وتطرَّق إلي كثير من المواضيع حكت لي عن حياتها .. وعن أبيها ــ مدير المدرسة ــ الذي مات .. وهي صغيرة ولم تره .. وعن أخيها الذي رباها.. ويريد أن يزوجها من صديقه الثري .. كي يضمن لها حياة كريمة .. بالرغم من أنها لا تحبه .. وكذا يكبرها بكثير .. وكيف كان يحضره معه في كل مرة ليراها , ويحادثها .. وهي لا تريده .. وتريد أن تكمل تعليمها الجامعي .. وعن أمها التي لا حول لها ولا قوة .. ثم همست لي بصوت رقيق ناعم :
ــ كنت أتمنى ان ألاقي إنسانا مثلك.. لينقذني من هذا الشقاء.. والعناء الذي أعيشه.
ابتسمت في نفسي .. وشعرت بالسعادة والفخر , والفرح .. فهذه أول مرة .. أسمع فيها هذا الكلام .. وأنا أيضاً لا أدري لماذا حكيت لها حكايتي .. مع تلك الفتاة الريفية التي جاءت الي مدينتنا.. وسكنت في البيت المتاخم لنا .. وعن علاقة الحب التي ربطت قلبينا .. وكيف جمعتنا الحياة .. وكيف فرقتنا .. وكيف كانت قصتي معها .. وكيف .. وكيف .. وكيف .....
قصصت عليها قصتي وأنا لا أدري لماذا ..؟ .. ربما لأنها كانت تشبهها كثيراً..
أو ربما لأني دائماً أحب أن أحكي عنها .. أو ربما شيئاً آخر لا أدري ما هو.....
وضحكت في نفسي , من حكمة الأقدار .. وكيف هي تشبها إلي درجة رهيبة لا تصدق .. ونسيت الوقت , أو تناسيته .. وبدأ الهدوء يلف المكان .. والنوم يسري ويتسرب في أرجاء العربة .. حتي أني تثاءبت فجأة .. فضحكت واتهمتني بأني كتكوت صغير .. ولما سألتها عما تقصد .. قالت وهي لم تزل تضحك ..
ــ بتنام بدري مثل الكتكوت ..
نظرت في ساعة يدي كانت تشير الي منتصف الليل .. قلت لها:
ــ على فكرة انا بعشق الليل والسهر
ــ ما هو باين عليك
فرددت عليها وانا أتثاءب .. محاولاً طرد النوم الذي هجم عليَّ فجأة ..
ــ انا بس مرهق شويه عشان ما نمتش بقالي يومين
ـــ يومين...؟
قالتها باستغراب , وشيء من الاندهاش .. والدهشة تملأ عينيها .. وبقايا الضحك عالق فوق وجنتيها .. وواصلت قولي :
ـــ في الجيش مفيش نوم ...
ــ تعرف أنا كان نفسي أكون ولد وأدخل الجيش , ممكن أتطَّوع , ينفع...؟
ــ اه ينفع .. بس ازاي , وليه ..؟!..
ــ مش عارفه بس نفسي أدخل الجيش وخلاص .. يمكن عشان بحب بلدي..؟!
ــ ومين فينا لا يحب بلده ولا جيش بلده
قلت لها ذلك.. وأنا أرجع بجسدي للوراء على المقعد .. وقد حضر في رأسي بقوة الشويش " فراج".. ومركز التدريب .. والجبل الاحمر.. والكتيبة التي انا بها .. وأول يوم دخلت فيه الجيش .. كان يوماً لا ينسى .. يوم محفور في الذاكرة .. لن أنساه أبداً ما حييت .. أذكره جيداً ......
" كنت دفعة يناير .. في عز طوبى .. ذهبت الى مركز التجنيد .. لإجراء الكشف الطبي علينا .. وهناك جردونا من الثياب .. إلا ما يستر العورة .. وأخذنا نتنقل من مكان لمكان .. ومن مكتب الى مكتب .. وأجروا علينا كل الفحوصات , والكشوفات الطبية .. وفي الأخير نادوا علينا .. ليسمع كل منا سلاحه .. استلمت الكرنيه ....
" شؤن معنوية ".. هذا كان سلاحي .. لا بأس .. ثم ذهبنا الي محطة القطار .. ومن أراد أن يذهب بمفرده ذهب , بعدما أعلموه بالمكان الذي سيلتقي بهم هناك ...
وعند غروب الشمس ذهبنا .. وكنا في شهر رمضان .. ونحن صيام .. القطار يسير ببطء .. يركن في كل محطة .. والساعة تقترب من الواحدة صباحاً .. نزلنا مع مندوب التجنيد .. الذي أجلسنا في مكان واحد .. تحت محطة مصر .. وطلب منا عدم الذهاب في أي مكان .. وهو يقول لنا :
ــ من النهاردة بقيتوا عساكر .. الذي يهرب منكم سيحاكم محكمة عسكرية.."..
واخذ يقول لنا أشياء أخرى .. لم أتبين منها إلا أنني أصبحت عسكريا .. ومن الأن فصاعداً محاسب عن كل تصرفاتي .. ومن يهرب يتحمل نتيجة هروبه .. نصف ساعة وجاءت الأتوبيسات الفاخرة .. والتي تشبه الأتوبيسات السياحية .. تدافعنا ليحصل كل واحد منا علي مقعد في الأتوبيس .. ثم انطلقت بنا العربات إلى وجهتها وكان أغلبنا ينظر من الشباك .. وقد أخذته الأنوار .. وأبهرته أضواء المدينة , بشوارعها المكتظة بالمشاة .. والعربات الفارهة .. والأبراج الضخمة , الفخمة , واليفط العريضة للممثلين .. والإعلانات للسلع والمنتجات التي لا يرونها الا عبر الفضائيات .. حتي خرجت الأتوبيسات من المدينة , ودلفت بنا في الصحراء .. حيث الظلام الدامس .. والمجهول الذي ينتظرنا .. والحياة التي سنعيشها هناك في قلب الصحراء .. حياة الميري التى تصنع الرجال .. وتنتج الأبطال"......
ما زلت أذكر تفاصيل هذا اليوم البعيد .. وذكرياته الجميلة .. مستحيل أن أنساها..
لا أدري لماذا يحضرني الأن الشويش " فراج" وهو واقف أمامنا في أرض الطابور .. وهو يقول لنا .. بصوته القوي , الأجش ..
ــ الجيش قال لك أتصرف .. سامع يا عسكري يا بعكوك ..
الساعة الآن بعد منتصف الليل .. والقطار يطوي الحقول طياً .....
بعد ساعتان من الآن سأكون في بيتنا .. ترى هل سأجد أبي مازال مستيقظا حتي الان .. ــ " لقد اشتقت إليك كثيراً يا أبي.."...
الفتاة تكلمني , فيأتيني صوتها العذب , لينتشلني من ركام الذكريات .. والتداعيات المزدحمة في رأسي .. وبصوتها الجميل , تقول لي:
ــ انا نازلة المحطة الجايه .. اتفضل معنا ..
ــ ياه حالاً كده .. مر الوقت سريعاً ..
ــ الأوقات الحلوة بتمر بسرعة .....
ــ كنت أتمنى أن ألقاكِ في وقت آخر مختلف..!!
تقف .. تتهيأ للنزول .. تطلب من أمها وامراة أخيها أن يستعدا .. نظرت أمها لي نظرات غامضة .. لا أعرف مغزاها , ولا معناها .. وامرأة أخيها تبدأ في جمع أشيائهم .. وهى تطلب مني أن أساعدهم في إنزال جاجياتهم من فوق الرف .. يتطوع معي صديقي بالمساعدة .. فأطلب منهم أن يهدأوا قليلاً .. فالوقت لم يزل فيه متسع .. والقطار باقي على وصوله لرصيف المحطة ربع ساعة .. قلت لها ذلك .. وأنا أنظر في عينيها السوداوين الكحيلتين الحزينتين في نفس الوقت .. وفجأة ودون سابق إنذار .. وأنا أنزل لهم أشياءهم التي فوق الرَّف , رأسها تقترب من رأسي فأشتم رائحة رأسها , وفمها ذو النكهة اللذيذة .. وهي تقول لي:
ــ ممكن تبعتلي جواب بعد ما توصل
ــ حاضر بس العنوان
ــ ..........
كتبت لي العنوان , أحفظه في جيبي , وذاكرتي , ورحت أهز لها رأسي بالإيجاب .. ألتفت إلي صديقي الذي لم ينته بعد من الحديث مع أم الفتاة .. وقد القتْ إليه السمع .. وأمراة أخيها التي قد اندمجت مع الشباب في المقعد المجاور في لعبة الكتشينة .. وكان صوت مسجل ينبعث منه الغناء " أم كلثوم" وهي تشدو بصوتها الكروان ...... " الليل ودقة الساعة تصحي الليل.. وتفيد بايه يا ندم يا ندم .. وتعمل ايه ياعتاب .. طالت ليالي السهر .. وتفرقوا الاحباب .. اتفرقوا الاحباب .. وبقينا بعاد , بعاد , والنار بقت دخان ورماد..".....
يُخرج صديقي علبة سجائره .. يعطيني واحده بعد ما أشعلها لي .. أضعها في فمي سحبت منها نفساً عميقاً .. أُخرجه في الهواء .. يصل الدخان الي وجه الفتاة .. تكح .. تسعل حتى دمعت عيناها .. وهي تهوِّي بالصحيفة الورقية .. وتقول لي :
ــ انت بتستفيد إيه من الزفته دى
ــ ولا حاجة
ــ طاب ما تبطلها يا أخي
ــ فكرك كده
ــ ..............
يقترب القطار من المحطة .. المباني النائمة في الظلام تبتعد .. وتظهر المباني النائمة وسط الأنوار الكاشفة .. يُهدِّئ القطار من سرعته .. يُصفِّر ليعلن عن نفسه , ووصوله .. يتهيأ النازلون .. يستعدون للهبوط , بجوار الباب يقفون .. تنهض أم الفتاة .. تنادي على زوجة إبنها الحامل .. وتطلب من بنتها بأن تمسك بالحاجة جيداً .. تنبهها ثانية .. وتحذرها , وهي نازلة من القطار .. حتي لا تنزلق قدمها .. الفتاة تنهض تُمسك بإمرأة أخيها.. تمتد الأيدي بالسلام .. أقف اسلم عليهم .. وانا أشكرها على هذا اللقاء الجميل , الذي رتبه لنا القدر سلفاً .. يقف القطار علي المحطة .. يقفز بعض الركاب على الرصيف .. ولا ينتظرون , أذهب معهم الى باب القطار .. أساعدهم في النزول .. وأنا أتمنى لو أن تطول الدقائق المتبقية , وتمتدُ بيننا إلى ما لا نهاية , وتمنيتُ أيضاً لو كانتْ تلك الفتاة من بلدي .. أو أكون أنا من بلدها .. حتى أراها كل يوم .. وربما تطورت العلاقة بيننا إلى درجة الإرتباط بها.....
بضع دقائق مرت عليَّ بعمر الكون , وعيناي في عينيها .. حتى أتشبع من هذا البريق الأخاذ , والجمال الرباني الساحر الذي يطلُّ من عينيها الكحيلة .. حتى غبتُ عن الوجود .. ورحت اسرح بخيالي .. تخيلتها .. وهي زوجتي ..
" وهي معي في البيت .. وقد نهضنا على التو من أمام التلفاز بعد مشاهدة فلم السهرة.......
يآآه حلم جميل .. تمنيت أن يكون حقيقة .. حُلم أظنه مستحيلا ..لأننا سنفترق الآن .. ومن يدري , لعلنا لا نلتقي مرة آخرى .. ولا يرى أحدنا الآخر مرة ثانية.. لكن ما أجمل الحُلم .. وما أجمل أن تحُلم .. والأجمل منه محاولة تحقيق الأحلام ....
يقف القطار على رصيف المحطة .. أنزل معهم علي الرصيف أنا وصديقي .. وقد أنزلنا لهم ما معهم من أشياء .. وأنا أمسك يدها , كي أساعدها في النزول ....
"ما أروع يدها البضة , وما أجملها.. وما أحلاها , وما أطراها, وأنداها , وأعطرها من يد .. أخالها لو وضعتْ على مريضٍ لشفي .. ولو مسحتْ بها علي ميتٍ لقام في الحال نشيطاً .. ولكنها قتلتني أنا بطراوتها ونداوتها ..".....
وقفت أمامها ــ على رصيف القطار ــ ساهمٌا , تائها , وأنا أودعها .. وقلبي يعصره الألم , والحزن لفراقها .. وللحظة مجنونةٍ , دارت فكرة مجنونةٍ في رأسي , فكرتُ أن أترك صديقي , والقطار , وكل شيءٍ , وأذهب معهم .. حتى أعرف بيتها ــ على الأقل ــ وكنت من الممكن أن أفعلها , لولا أن كان الوقت متأخراً جداً .. وأنا لا أدري أين سأبيت.. كما أنه لا يصح عندنا في مجتمعنا الشرقي ــ فضلاً على أننا صعايدة ــ كما أنه لا يصح , ولا يجوز بأن نُدخل أحداً غريباً لا نعرفه في دارنا بالليل .. فضلاً على الميبت في البيت..
وسألت نفسي ..
ــ ماذا سيقول الناس بعدما يروني وأنا خارج من عندهم .. وما أدراني بأنهم سيجعلوني أبات عندهم .. ولما لا يكون تمسكهم بي مجرد مجاملة لا أكثر .. لاني ساعدتهم في سفرهم هذا.. كما أن الوقت متأخر جداً.. ولما .. وكيف .. ولماذأ ..؟!.
وأشياء أخرى كثيرة دارت في رأسي .. وأنا واقف أنظر إليهم , وهم ينظرون .... فجأة سمعت صوت صديقي يناديني من جوف القطار وقد ابتعد صوته قليلاً ....
ــ القطار سحب , أركب بسرعة ... القطار سيفوتك ...
أنتبهتُ , التفتُ , كان القطار يتحرك من علي المحطة .., أفيق لأجد نفسي واقفاً بمفردي علي الرصيف .. والقطار يأخذ سرعته , واشتدت .. جمعت عقلي .. في ثواني معدودة , شحذت همتي .. وجمعت قوتي .. وأخذتُ قراري , وانطلقت أجري خلف القطار .. أسرعت , إرتديت اخر عربة , وأنا على آخر نفس .. أرمي بنفسي في القطار .. والناس تنظر إليَّ في إشفاق , ولوم............
ــ الحمد لله القطار كان سيتركك
قالها صديقي , وهو يلكزني في صدري , ويضحك , ضحك هستيري , وأنا أبتسم له , وأضحك على نفسي , في نفسي مما جري .. عدت إلى مكاني .. بجوار النافذة المكسورة جلست , في وجوم , وشرود تام , أسترجع كل ما مرَّ , وما دار, وما كان , .. وصديقي يوبخني تارة , ويضحك علي تارة أخرى .. وهو يقول لي :
ــ انت مجنون القطار كان سيفوتك , وانت واقف ولا هنا...؟!!...
ــ ...................
لم أرد عليه .. فقط .. أخرجت الراديو الصغير " الترانزستور" الذي في جيبي .. أدرت مؤشره ....
كان صوت " أم كلثوم " ما زال يصدح , ويشدو بالغناء..
" الليل ودقة الساعة تصحي الليل .. والغربة , والتنهيد لسه مهمش بعيد...
وتفيد بأيه يا ندم , يا ندم وتعمل ايه يا عتاب .. طالت ليالي السهر واتفرقوا الاحباب وتفرقوا الاحباب .. وبقينا بعاد بقينا بعاد .. "... و ....
***********
على السيد محمد حزين ــ طهطا ــ سوهاج ــ مصر