أسماء هاشم - شيخ العرب… قصة قصيرة

جدي عرف أنني اكتب القصص. رآني فى التليفزيون على شاشة القناة المحلية. وعلى عكس المتوقع من شيخ عرب مثله ورث اعتقادا ان البنات عار يجب إخفاءه فقد فرح كثيرا حين عرف ان كثيرين من ناس الحاجر رأوني . زادت فرحته حين اخبره عجائز الحاجر فى جلسة العصارى التى اعقبت اذاعة البرنامج ان أولادهم واحفادهم يقرأون اسمى مطبوعا فى صحف عديدة تحت القصص التى اكتبها .

… جدى من كثرة بقائه خارج البيت لا يعرف تفاصيل حياة كل واحد فى البيت . فى زمن مشاغله الكثيرة وزع مسؤلياته على اولاده , وترك امور البيت لجدتى تمسكها بقبضة تراخت كثيرا الان .وهو تفرغ لمهامه الرسمية التى يمارسها كل مشايخ العرب عندنا .. .. دراسة احوال افراد القبيلة , ووضعها بين القبائل , وحماية دمها من الاختلاط بدماء قبائل اخرى يعتقد انها اقل مكانة ومقاما … فى بعض الاحيان يستضيف قبيلتين او عائلتين متنازعتين ليحكم او يصلح بينهما ..

…. منذ تفتح وعيينا ونحن نرى جدى فى “الخيمة ” التى كانت زاخرة ببشر كثيرين .. لازال الى الان لايدخل البيت الافى الفترة القصيرة بين صلاة المغرب واذان العشاء .. يجلس على الدكة فى سقيفة جدتى التى تجلس على الارض امامه مفترشة حصير مضفور من سعف النخيل المصبوغ بالوان مبهجة ..تنقل له احداث البيت بتفاصيلها الصغيرة . بلا حماس يستمع إليها ,واحيانا كثيرة يقطع كلامها بسؤال يوجهه لأحد اولاده- الجالسين على دكة قبالته – عن بعض الامور الخارجية .

.. كثرة عددنا , او غياب جدى عن البيت كثيرا جعله يخطئ فى اسماءنا . خاصة البنات االلاتى قد تمر ايام عديدة دون ان يراهن , وحين يضطر لمناداة احدانا يزعق باسماء كل نساء عائلته التى تخطر على باله . احيانا ياتى باسم احدى جداته ,وفى احسن الاحوال ينادى باسماء تشترك مع اسماءنا فى بعض الحروف .. انا شخصيا كان لاينادينى الا ب ” سمية “

اسما يا جدى .. اسما ..

اقول بنفاد صبر دون ان يسمعنى ، وانا اقترب ناحيته حامله كوب الماء الذى طلبه .

*****

رغم ان صورتى فى التليفزيون كانت لاتختلف كثيرا عن صورتى الحقيقية , فقد كنت ارتدى ملابس طويلة كالمعتاد ، واخفى شعرى بايشارب , وابتسم بتحفظ شديد , واتكلم بلهجتى الصعيدية الا اننى اشك ان جدى كان سيعرفنى لو رآنى فى التليفزيون دون ان يرشده احد .

.. والذى حدث ان اخى الصغير لما رآنى فى تليفزيون البيت جرى الى الخيمة وفتح التليفزيون امام جدى.. وحكى فيما بعد ان جدى لم يصدق وكاد ان يضربه ظنا منه ان الولد الصغير يلعب” بشيبته ” لكنه لما تأكد من صورتى وملامحى التى تشبه ملامح احفاده نهض من مكانه , وجلس على الدكة القريبة من التليفزيون , وظل يقترب منه حتى كاد ان يلصق وجهه بالشاشة .

.. وفى البيت وقف جدى متكئا على عصاته , وبحث بعينيه المحاطتين بتجاعيد اكثر من سبعين سنة ..

مش تقولى انك بتكتبى فى الجرايد عشان نفرح بيكى ؟

ضحكت , وضحك اخوتى واولاد اعمامى . كلهم يعرفون اننى اكتب القصص ومنذ سنوات . فى البداية كانوا متلهفين على قراءة الذى اكتبه . لكنهم فيما بعد صاروا يكتفون بقراءة اسم القصة , وتأمل حروف اسمى المطبوعة مما هيأ لى الفرصة لاكتب الذى اريده بعيدا عن حصارهم .

ولحسن الحظ لم يطلب جدى القصص ليقرأها والا كنت سأضطر لاخفاء معظمها . تلك التى تتعارض مع قيمه الخاصة كشيخ عرب , لكنه طلب فقط ان “يشوفها ” وظل يحدد ببصره مساحة كل قصة ، ويبحث عن اسمى :

آآ .. اهو اسمك ..

مرر يده على حروف الاسم المطبوعة ، وطلب وهو يطوى الجريدة أن اكتب اسم القبيلة بعد اسمى ، فتخيلت اسمى الثنائى ذى الحروف الثمانية يتحول لسطر طوييييييييل تخيلته مثل صف من العساكر المحملين ببنادق ضخمة , فأخفيت ضحكتى وقلت :

حاضر .

طبعا تخيلت خيبة الامل التى ستنتاب جدى حين لايرى اسم قبيلته مطبوعا . لكنى وقتها سأقنعه ان المسؤلين عن النشر اكتفوا بالاسم الثنائى من باب التوفير!!

اندهشت كثيرا حين عرفت من احد اولاد عمى ان جدى يتحدث عنى مع رفاقه فى جلسة العصارى , كيف كنت اتحدث بادب واحترام يليقان ببنت مثلى

” متربية كويس ” وكيف كان المذيع المشهور يكلمنى باحترام بالغ . يستمع الىَّ باهتمام وانا احكى عن قريتى وناسها . وعلق جدى “بنت اصول “وفسر نبوغى فى تأليف القصص على انه نبوغ مورووث من اجدادى القدامى .

قال حين جلس على دكته فى سقيفة الجدة فى موعده المعتاد انه ذكر الحاضرين بجده الذى كان نابغة عصره ، وحكيم زمانه صاحب الفكرة العبقرية , و من اجلها سافر على الجمل , وعلى ظهر الحمار , واحيانا فى مركب شراعى متحملا مشقة السفر يجمع ويدون اسماء ذكور قبيلته فى سجلات النسب الموروثة . يلملم شتات قبيلته المبعثر افرادها على امتداد مصر .

*****

.. وهكذا وبلا مقدمات اصبحت مركز اهتمام جدى , ومحور احاديثه فى البيت وخارحه . لم يعد يخطئ فى اسمى وينادينى ياسمية بل صار يقول اسمى الحقيقى مسبوقا باستاذة .

ومن جانبى استثمرت اهتمام جدى بى لعمل مكتبة ارص عليها الكتب التى ظلت مكتظة لسنوات طويلة فى صناديق الكارتون , وفى زيادة عدد المرات الاسبوعية التى اذهب فيها الى المدينة لشراء الكتب دون ان يعترض احد , ودون البحث عن مبررات اخفى وراءها السبب الحقيقى للذهاب الى المدينة .

الاهم اننى صرت اذهب الى بوستة الحاجر لارسل القصص بلا خوف او حذر كما كنت افعل .

لم اتصور ان يمتد اهتمام جدى بى الى حد ان يزورنى فى غرفتى . كنت اتهيأ للنوم .ألملم الاوراق المبعثرة على السرير حين سمعت طرقات عصا على الباب ثم صوته الخشن المتداعى ..

نمنى يا أسما ؟

سريعا مشيت ناحية الباب وادخلت جدى . سحبت الكرسى ليجلس وانا ظللت واقفة الى جواره . بعد استراحة قصيرة تجول خلالها ببصرة فى اركان الغرفة باغتنى وهو يرتكز بذقنه على يديه القابضتين على رأس عصاه , وكأنما احس بدهشتى وسؤال يحوم حولى عن سبب الزيارة غير المتوقعة . .

قلت يمكن صاحية احكى معاها.

جاملت جدى بابتسامة وانا افرك يدى فى بعضهما وابحث عن كلمات اخفف بها ثقل الصمت . وهو عاد يتجول فى اركان الحجرة . سألنى عن الكتب المرصوصة فوق الارفف , متى اشتريتها , وان كنت قرأتها كلها ام لا .. ومنذ متى وانا اكتب القصص ..و…و… اسئلة كثيرة كنت قد اجبت عنها كثيرا فى الايام التالية لاذاعة البرنامج ..

قلتى انك بتكتبى من زمان
آآ .

– ولاكنا نعرف

رد بمزيج من العتاب والاسف فاخفيت ابتسامتى

– وبتكتبى عن ناسك ؟

– ناس البلد يعنى .

– مين بالظبط .

– كلهم ,كلهم ، ياجدى .

– طيب ماتكتبى عن جدك احسن .

فرد رجليه امامه , وقلل من اتكائه على رأس عصاه :

جدك دا شاف فى الدنيا كتييييييير .

حكى حكايات كثيرة ليس اولها انه صاحب براءة اختراع كارنيهات لكل افراد القبيلة خوفا عليهم من الاندثار وسط جموع مختلطة مهما علت مكانتهم فلن يكونوا مثل اهل بيت النبى . ولا اخرها حكاية النصف فدان الذى تنازل عنه ثمنا لكلمة قالها بنية الصلح بين خصمين اختلفاعلى ارض موروثة بينهما . كلاهما يريد الفوز بها . وبعد عدة جلسات مع كلا الخصمين منفردين استطاع ان يقنع احدهما باقتسام الارض موضع النزاع ووعد باقناع الاخر .لكن الطرف الاخر لم يقتنع بالحل فأضطر جدى الى التضحية بارضه مقابل وعده، وكلمته .

*****

.. كانت حكايات جدى ترسم صورة لشيخ عرب على طريقة زمان .. يلبس عباية وعمة عالية , ويمسك عصا فى يده , وسبحة فى اليد الاخرى ، يجمع الاثنين فى يد واحدة حين يسلم على شيوخ القبائل ,وعمد البلدان الذين يأتون الى خيمته بدعوة منه لعقد الصلح بين متخاصمين منهم .

بصوت رخيم يخطب بينهم يجامل فيها هذا الطرف , وذاك مرة اخرى .

ينفض غبار النسيان عن بطولات لقبيلة كل طرف . يستعين بآيات القرآن , واحاديث النبى , وحكايات لينجح اخيرا فى ان يلين الرؤس الصلدة وتقبل حكمه , فيفرح بسلطانه عليهم .

الصلح لايتم الاحين ياكل الطرفان المتنازعان جميعا من طعام واحد . طبيخ دسم غارق فى دهن الذبائح التى نحر رقابها مبكرا قبل توالى وصول الوفود , وترك لنساء بيته امور التجهيز .

.. لكن تلك الامور تغيرت كثيرا الان .. لم يبق منها الا العباية والعمة والخيمة التى صارت اغلب الوقت خالية , يجلس فيها وحيدا اغلب الوقت او محاطا بعجائز مثله يلوكون حكايات قديمة ويهدرون الوقت بمتابعة كلاب السيجة وهى تتنقل فى العيون الشاغرة حتى تخرج مهزومة .

اندهشت وجدى يحكى حكايته الطويلة .. من الذى اوهم جدى ان الدنيا كلها رأتنى فى التليفزيون , وان الدنيا كلها تقرأ قصصى ليسعى الى هكذا دون مواربة ضاربا بكل القيم الموروثة , ويطلب هكذا صراحة منى ان اكتب عنه ليستعيد بطولاته على اوراق قصصى , عوضا عن بطولة اخذها منه زمن فائت ضمن ما اخذ ..

.. وانا ماذا اكتب غير تلك السطور لأعبر عن حال جدى الذى خرج منتشيا ببهجة زمن قديم , وامل فى استعادة جزء من بطولاته ولو على الورق …



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى