أ. د. محمد كريم الساعدي - تقديم كتاب " الموسيقى التصويرية" للدكتور قيس عودة الكناني

تتمركز ظاهرة الموسيقى وجمالياتها في المسرح من كونها نتاج حس ابداعي مواز لصورة جمالية معرفية تستنطق مشاعرنا كمستقبلين لها الا وهي اللغة البصرية السمعية الممتزجة برؤى تأليفية وإخراجية أبدعها من يقف خلف هذه الصورة الفنية.

إن المسرح في كونه فضاء انطولوجي في اغلبه حسي بصري والموسيقى فضاء حسي سمعي تسهم في ابداع الاجواء والبيئة المرافقة لهذا الفضاء الدرامي الذي هو بأصله فضاء مفترض لكنه متشكل من مكونات حقيقية يلمسها الممثل كما نلمسها نحن في الواقع المعاش، لكنه يحيلها الى صورة مفترضة والى علامات بصرية اخرى تأخذ تفاسيرها وتآويلها من طريقة استخدام الممثل لها في العرض، هنا تأتي للموسيقى بتصويرها والمصادقة على هذا التفسير والتأويل في ذهن المتلقي الذي يجعل من الموسيقى التصويرية رابطاً حسيا وعقليا متماشيا لما يشاهده في هذا الفضاء وهذه المنظومة الفنية الصورية بأبعادها ومؤثراتها واشتغالاتها في فضاءات التواصل المعرفي بين مبدع باث ومستقبل واع لهذا المنظومة الابداعية .

فالموسيقى بتصويرها للأحداث درامياً هي ايضاً كتابة من نوع اخر تقف في سمو بين نصين هما نص المؤلف المرمز والملغز في العرض، والمتحول على يد المشتغلين في المنظومة المسرحية الى نص اخر الا وهو نص العرض، ما بين نصين المؤلف والمخرج يأتي نص ثالث لكن بلغة اخرى لا يفهم احرفها ولا يكتب جملها الا من تعامل بهذه الاحرف ليصوغ نصاً ثالثاً جمله الموسيقية هي من ليست كالجمل المتلقاة على لسان الممثل، ولا لغة بصرية متشكلة من عناصر ومكونات العرض والوانه المختلفة، بل هي كتابات اخرى ولغة اخرى وجمل تحلق بالإحساس والمشاعر وتدخل الى قلوب المتلقين دون ان يكون هناك باب تطرقه، أو حاجز تعبره، انها الموسيقى التي تسحر المتلقي بجمالها، إذ تناجي دواخله وشعوره وتحاور افكاره وتسهل له عملية الدخول الى العرض ولغته وكلماته التي يلقيها الممثل على الخشبة، انها الموسيقى التي تصور دون اي حاجة الى حاسة البصر، فهي ترسم بخيال الجمهور صورة مصاحبة ومكملة ومحلقة في سماء الابداع وكأنها تحمل المتلقي الى فضاء العرض، وتجعل من أحاسيسه اجنحة يعلو بها الى مستويات تفاعلية يصعب ان يوفرها اي عنصر اخر في العرض ما عدا الممثل الذي هو العنصر الحي الوحيد الذي يمكن ان يمتزج معها في هذا الاطار الفني المعرفي الجمالي .

فالموسيقى هي بنية معرفية سمعية وهي حبكة من نوع أخر لا بد على كل قائم على العرض المسرحي ان يعطيها مكانتها الحقيقية حتى تنتج له عرض موازي ومساهم في العرض المسرحي، في مساهمة في النجاح اذا وظفت بطريقة ايجابية، وهي من الامور التي تجعل العرض يهبط الى مستويات متدنية اذا لم يحسن استخدامها فيه، وكل هذا يعتمد على فهمنا لها، وهو ما يربطنا بعنوان هذا الكتاب الذي يطرح مؤلفه الدكتور قيس عودة الكناني عنوانه (الموسيقى التصويرية)

وهي محاولة جادة لإيجاد( مدخل في جماليات وفلسفة الموسيقى التصويرية).

ان المؤلف يقدم لنا تمهيد لجماليات الموسيقى والاثر النفسي لهذه الجماليات، كما ينتقل الى الجوانب السيكولوجية للموسيقى، ومدى تأثيرها في هذه الجوانب، وبعدها الى هذا العلم وما هي مرجعياته الفلسفية وما هو كعلم فيزيائي رياضي، وصولا الى اهميتها وتطورها في تاريخية العرض المسرحي والمسرح عموماً بما فيها اسهاماتها في الطقوس وغيرها .

بعد هذه السياحة الفكرية في الموسيقى التصويرية يتساءل المؤلف عن الكيفية التي من المفترض ان تؤلف بها الموسيقى وكيف نفهم هذا التأليف للمسرح وما هي إشكالية التوظيف لها فيه، حتى تصبح جزء من سينوغرافيا العرض وعنصر من عناصره. فهي عادة ما تصاحب وتشارك المؤثرات الصوتية التي يرى فيها المؤلف ضرورة العمل المتناسق بينهما. وفي الأخير يعطينا في كيفية البحث عن الخصائص الدرامية في الموسيقى ذاتها وكيف البحث عن هذه الخصائص في الموسيقى العالمية.

كتاب الموسيقى التصويرية هو محاولة جادة من قبل المؤلف للخوض في هذا المجال المعرفي المهم، والذي لا يتوفر فيه المؤلفات كثير، بل هي قليلة وقليلة جداً، كون من يبحثون في هذا المجال هم بالأصل فئة قليلة، لذلك يأخذ الكتاب أهميته من هذه الجزئية الهامة ... اتمنى للقارئ سياحة معرفية مع هذا الكتاب ... وشكراً للمؤلف على هذه المحاولة الجادة .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى