عمر سيدي محمد - يوميات فتًى من صنهاجة.. الحلقة الأولى

حديثي هذا رأيت له أهمية عند قراءتي لمقدمة كتاب "المعسول" لمحمد المختار السوسي رحمه الله وهو كتاب جدير بالقراءة.
نحن بموريتانيا في هذه المنطقة من بلاد الله الواسعة والتي هي همزة الوصل بين شمال إفريقيا وغربها وهي تاريخيا همزة الوصل منذ آلاف السنين بين الأمازيغ(البربر) والسودان(الأفارقة) قد مزجنا بين حضارتين عظيمتين لأمّتين عظيمتين واستفدنا من كل منهما استفادة عظيمة. ومن بعد ذلك أشرقت علينا شمس الإسلام وتلقفناه ظمأى متعطشين للفطرة التي فطر الله الناس عليها. أصبحت دارنا دار إسلام وأقمنا دولة المرابطين وتوالت الفتوحات في غرب القارة الإفريقية دون حرب في معظمها حيث تلقف الرجل الأسمر صاحب الفطرة الإنسانية النبيلة، تلقف دين الله وتغلغل هذا الدين حتى اكتسح كامل غرب إفريقيا ودخل فيه من شاء من عباد الله.
كانت قبائل صنهاجة العقلَ المدبر والروح المضحية أكثر من غيرها في سبيل هذا الدين العظيم وأقامت دولة المرابطين التي أنقذت الأندلس من السقوط لعدة قرون عندما عبرت جيوشهم للأندلس حيث كانت معركة الزلاقة. لقد انبرت صنهاجة منذ فجر الإسلام للتعلّم والتعليم تحت مظلة "التزاويت" التي بها حافظوا على دين الإسلام رغم بعض الإخفاقات الَتِي وقعوا فيها من تقصير بسبب غياب سلطان مركزي يجمعهم.
نحن في موريتانيا رغم اختلاف الأعراق والتواجد التاريخي في هذه البلاد غير أننا في الواقع أسرة واحدة وعندنا الكثير الكثير الذي يجمعتا.
موريتانيا بلاد شاسعة جدا إذ تفوق مساحتها مليون كيلومتر مربع ولها من المحيط الأطلسي ساحل بطول سبعمائة كيلومتر تقريبا.
حديثي هنا لن يعكس الحياة في كل مناطق موريتانيا بل هو مختص بالحياة في حوض نهر صنهاجة أو ما يعرف اليوم بنهر السينغال ولا أجد غضاضة في أي من التسميتين. وفي مجتمع الزَّوايا من صنهاجة بالذات تدور هذه الأحداث التي أتكلم عنها. وذلك أنه في موريتانيا عدّة أعراق، وحتى وإن كانت اللهجة الحسّانية قد أذابت في بوتقتها معظم قبائل لمتونة الصنهاجية التي أنتمي إليها مع المجموعات العربية من الوافدين في القرون الأولى من الإسلام وما تلا ذلك وبالأخص قبائل العرب المعقليين الوافدين أخيرا في القرن الخامس الهجري أو الحادي عشر الميلادي والذين كان لهم دور كبير في سير أحداث تاريخ هذه الربوع، هذا بالإضافة إلى عدد كبير من عدة قبائل من السودان المحلية الذين انصهروا معنا تحت مظلة الحسانية بل وفي المصاهرات، إذ ليس في منطقتنا أحد إلا وتربطه بهم وشائج القربى علم بذلك من علم به أو جهله من جهله وهم الحراطين الأُبَاة البُنَاة. رغم كل ذلك الانصهار يبقى التمايز موجودا حسب الوظيفة الاجتماعية لكل أسرة، والأسرة نسميها خيمة ، فنقول مثلا خيمة أهل محمد وخيمة أهل الدّاه. نحن تأثرنا بهذه التقسيمة الاجتماعية المتبعة في غرب إفريقيا، ولذلك بعض التأثير على مسيرة حياة الفرد والدور المنوط به اجتماعيا. نعم هي سمة اجتماعية أخذناها تأثرا بالمجتمعات لإفريقية المحلية.
مازلت كلما جاء الحديث عن نمط الحياة التي أفقت عليها في نهاية الستينيات من القرن العشرين المنصرم أحسست بالدهشة على وجوه السامعين، حتى أحفاد والدي الذين هم معي في دار واحدة لايكادون يصدقون تلك الحياة ونمطها لأنهم قد ولدوا بعيدا عن هذه الديار بما فيها من بساطة الحياة.
سأبدأ الحديث عن الواحد منا من يوم ولادته حتى يوم دفنه شيخا كبيرا، مسجلا معظم الأحداث والطقوس التقليدية المصاحبة لكل مرحلة من العمر.
التضاريس الجغرافية كانت على الضفة الشمالية لنهر صنهاجة وما يصب فيها من وديان، حيث كان اتجاه سيل الماء عند نزول المطر هو الحد الجغرافي لكل أرض و واد ولكل تامورت أو أگني. كانت طبيعة المنطقة غابات كثيفة حتى أن أهل الحي "لفريگ" أو المحصر أو الزمان أو أنوال، كانوا قد يضطرون لفتح الطريق بقطع بعض أغصان الأشجار قبل الرحيل حتى يتمكنوا من المرور بالهوادج التي بها النساء ممتطيات ظهور الثيران " ئيوديشن".
في منطقتنا تهطل الأمطار غزيرة لمدة أربعة أشهر في الخريف من بداية شهر يونيو بالتقويم الأمازيغي ونسميه يونيو المسلمين الذي يصادف تقريبا منتصف يونيو الروم المعمول به حاليا في التقويم الدولي والذي نسميه "يونيو النصارى" والأمطار تستمر لأربعة أشهر كاملة، تسيل الوديان ويفيض نيلنا وتمتلئ السهول المحيطة به والتي نسميها "شَمَامَة" على وزن غمامة ونزرع فيها المحصول الرئيسي من الذرة البيضاء التي نسميها "بِشْنَة" على وزن فطنة كما نزرع الفول السوداني ونسميه "أَدْلَگان" ونزرع الذرة الصفراء ونسميها "مَكَّة" وهي كلمة من كلام السوننكي، تبدأ الزراعة مع بداية انحسار الماء بداية الشتاء. وأما في فصل الخريف فنزرع نوعا من الذرة البيضاء هو الأجود في بلادنا ونسميه " تغليت". وقد نقوم بعمل بعض السدود لحبس ماء المطر في موسمه ثم الاستفادة منه لزراعة الذرة الصفراء وأدلگان مع بداية انحسار ماء المطر. والسد نسميه "اغليگ".
كانت الأرض ذات سباع ومن أبرزها الأُسُدُ والنُّمور والفِيَلَةُ والدّبُّ الإفريقي المشهور عندنا باسم گِرْفَافْ وشَرْتاتْ وكذلك وحيد القرن (أغْرَيْويطْ) إلى عهد ليس بالبعيد قبل استخدام الناس البنادق ذات المدى البعيد. وكانت قطعان الغزلان بجميع أصنافها والبقر تجوب الأرض ليلا ونهارا، ولقد انقرض الكثير من هذه السباع والوحوش ولم يبق منها إلا القليل جدا في أقاصي الجنوب بعيدا عن تواجد البشر وظلمهم أنفسهم قبل أن تمتد أيديهم إلى البر والبحر والجو.
كان اعتماد الناس في عيشهم على الرعي والزراعة، وكان معظم ملكهم البقر وكان حظ قومي منه البقرَ الأحمرَ ذا الحجم المتوسط وهو مهم جدا في حياتنا، إذ منه الحليب والسمن واللحم والقديد الزاد وهو الرَّكوب لعدم تأقلم الإبل مع مناخ منطقة غابات السفانا قبل سنيّ الجفاف، ومن جلده النّعال والأوعية والحبال المعدة للمهام الصعبة. كما كان مهما عندنا الأسود من الضَّأن ذو الصوف الكثيف إذ من صوفه الخيام التي يحتمي بها الناس ويسكنون تحتها تحميهم البرد والحر وماء المطر وسموم "ئريفي" الذي يشتد في مايو "مَيَّه". وكذلك الأبيض من الضأن مهم جدا إذ يعد للبيع في دولة السينغال الشقيقة لقربها من باديتنا وبالذات قبل عيد الأضحى حين يتغالى أشقاؤنا في السينغال في شراء الأضاحي.
ونسمي هذا الرحلة "الجَلاَّبَة"، حيث من هذه الرحلة وارد كل أسرة "خيمة" من السيولة النقدية لشراء اللازم من القماش"الخِنطْ" ومن الشاي "أتاي" ومن السكر وبعض المواعين من لوازم الشاي أساسا.
نسكن الخيام الأمازيغية وهي تختلف عن الخيمة العربية التي نسميها "أَبِرْگانْ" تختلف عنها في عدة أمور حتى ولو كانت المادة الخام هي ذاتها حيث أنها غالبا من صوف الضأن في حوض النهر في منطقتنا، وقد تكون من الوبر أو الشعر في مناطق أخرى. نعم خيمتنا مرفوعة "مسموكة" فوق الأرض بما لا يقل عن ثلاثة أذرع بمسماكين طول كل واحد منهما ستة أذرع مقرونَين وكلما صغرت الزاوية عانقت الخيمة الجوزاء. الخيمة معدة للنوم فوق أَسرّة خاصة تطوى يوم الظعن بسهولة جدا. الخيمة والحديث عنها بتفاصيل تحتاج لحلقات خاصة بها لأنها بصراحة أروع ما اكتشفه البدو في حياتهم من مسكن.
كانت هذه نبذة مختصرة جدا عن تضاريس الأرض وجغرافيتها وعن سبل حياة الناس إذ منهم صاحب الزرع ومنهم صاحب الضرع، وكذلك مساكنهم، وتركيزي هنا طبعا على مجتمع صنهاجة وبالذات قبائل الزوايا من لمتونة. وللحديث بقية تتبع في الحلقة الثانية إن شاء الله.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى