قضّيت اليوم الثالث على التّوالي أجوب أسواق العاصمة دون كلل أو ملل: سوق لافيات ،سوق باب الفلّة ،سوق باب الجزيرة، أبحث عن العنب الأرجوانيّ وكنت في كلّ مرّة أتلقّى من الباعة هذا الرّد : لاوجود للعنب في اللّيالي ، فالحال شتاء ولا أمل لي في العثورعليه في مثل هذا الفصل ،قد يكون ظهوره وليد معجزة تحقّقت في يوم ما، إلاّ أنّها لن تتكرّر.
ومع ذلك ، كلّما اشتدّت الرّيح وهطل المطر استولت على مخيلتي ألوانه المتقلّبة: الأحمر البنفسجيّ المخضّب بالأسود السّماويّ مع انعكاس اللّون الأرجوانيّ ، فأشتهي طعمه السّكريّ ذي الحموضة الخفيفة، تلك الّتي تزيده لذّة على لذّة ،لتذكرني بأنّه صيفيّ المولد ، شتائيّ الظّهور، إذّاك تعتريني حالة غريبة عجيبة شبيهة بالجنون لرغبتي الشّديدة في الظّفر به.
ولأنّ عنب اللّيالي كان مفقودا في شهر ديسمبر ،فكرّت في أن أعلّق صورته بمدخل بيتي ثمّ عنّ لي أن أغيّر موقعها بأن أضعها ببيت الاستقبال ثمّ ببيت الصالة وفي نهاية الأمر استقرّ بي الرّأي على تعليقها ببيت النّوم حتّى أتمتّع برؤيتها قبل أن أخلد الى الرّاحة .
كانت صورة عنب اللّيالي توحي إليّ بدموع اللّيل المنهمرة شتاء والّتي تتحوّل بفعل قوّة خفيّة خارقة للعادة إلى عنب أرجوانيّ شهيّ الطّعم بهيّ الشّكل،إذّاك يحملني خيالي ساعات طويلة خارج دائرة خيبات الحبّ و خدعه و كلّ ما روي عنه من قصص وأساطير: قيس بن الملوح وابتلاؤه بالجنون لهيامه بليلى العامريّة ،روميو وجوليات اللّذان انتحرا انتصارا للحبّ وللوفاء ،أسطورة كليوبترا ملكة الفراعنة ،تلك الّتي خرّ لها أعظم ملوك روما وقادتها عشقا وهياما فخيّروها على سلطان إمبراطورياتهم .لقد حدّثنا المؤرّخون عن الحبّ الأبديّ فأخبرونا أنّه لا يولد إلاّ في حالة استثنائيّة واحدة : إذا ما كتب له أن يكون مستحيلا، إذ لابدّ للمحبّ من اختراق حجب ذاته والمروق عن كلّ النواميس والعادات حتّى يهيم بحبيبه إلى حدّ الوله والهيام ، أمّا إذا استطاع الظّفر بقربه، فقد يصبح عاجزا عن مواجهة العواصف و الصعوبات. لكنّ الرّواة من بعدهم زيّفوا تلك الحقيقة، فأطنبوا في وصف الحبّ متجاهلين ما أثبتته التّجربة، وخدعونا بقصص أسطوريّة لا تبوح بفنائه إذا ما انتهى بزواج سعيد، فأخفوا عنّا زواله إن عاجلا أم آجلا بحلول الخاتمة المرجوّة ،ثمّ تواصلت الخدعة بانتشار الأفلام الرّومانسيّة والرّوايات العاطفيّة شرقا وغربا ،الّتي غالبا ما تكتفي بإبراز الجانب الورديّ في الحكاية دون وصف ما يختلج به وجدان المحبّين أحيانا من غيرة وضجر وخوف وشهوة وحقد وجراح .
لقد كنت أتصوّر بعد زواجي من جاسر أن نشعل الشّموع وننثرالورود كلّ ليلة في كلّ ركن من أركان غرفتنا، اعتقادا منّي أنّ شوقي إليه مازال مستمرّا وحيّا وأنّ جاسر سيحدّثني وأحدّثه حديث الأحبّة والعشّاق وأنّه لن ينزعج إن مرضت أو غضبت أوتعبت ،كانت تلك أوهامي خلال فترة خطوبتنا، كنت آنذاك أنتظر لحظة بلحظة أن يجمعنا سقف واحد وأن أعيش معه العمر كلّه، فلا يفرّق بيننا سوى الموت .
لكنّ الأمور تغيّرت بعد زواجي منه بأن أصبحت لنا عادات في الأكل والشّرب والنّوم والجنس. كنت أسعى إلى أن يدوم الحبّ بيننا، فأتقمّص في كلّ مرّة هيئة امرأة أخرى لا يعرفها، بأن أتحلّى بزينة لم يعهدها وبملابس جديدة والعطورنفيسة، حتّى أثير رغبته في الهمس واللّمس والبوح والالتحام فننسى ما اعتدناه من روتنيّة استهلاك الشّهوة وتبادلها أبذل جهدا كبيرا لتغيير أجوائنا المعهودة حفاظا على عشّ الزوجيّة .
فأنا لا أتصوّر حياتي من دونه إذا ما حرمت من سماع خطاه تخترق البيت و صرير مفتاحه يدور في قفل الباب ومن صوته يناديني ،لقد أضحت جلّ أحاديثنا بعد الزّواج تدور حول شراء الضّروريّات والكماليّات و ما يمكن أن نصرفه أوندّخره من مال والانجاب وزيارة أمه وأهله وأمور أخرى من هذا القبيل .
لا أنكر أنّي كنت أفكّر أحيانا في الطّلاق، لكنني كنت أقاوم الفكرة بشدّة لأقنع نفسي بأنّه أمر مستحيل ،فجاسر ليس زوجي فحسب، بل هوجزء من ذاتي وكياني ووجودي .
وحين أخبرته برغبتي في الحصول على عنب اللّيالي ارتسمت على وجهه ابتسامته الصبيانيّة المعتادة فقال : لا تتعبي نفسك يا عزيزتي ،اعتبري أن الأمر منته، سأحمل إليك عصير العنب الأسود غدا، إنّه متوفّر لدى جلّ الباعة، لا أفهم هوسك بمثل هذا الأمر الّذي لا يستحّق منك كلّ هذا المجهود، إلاّ إذا كنت تمرّين بالأشهر الأولى من الحمل .فأجبت : لست حاملا بعد ، لكنني أشتهي العنب الأصليّ لا الاصطناعيّ . فأجاب : موجود، قطعا ويستورد من الخارج .فلازمت الصمت دون أن أنبس، لأنّ العنب الّذي أشتهيه هو عنب اللّيالي، لا العنب المستورد من الخارج .
تفطّنت إثر الحوارالّذي دار بيننا ، أنّ شهوتي لا تقتصر على رؤية عنب اللّيالي ولا على تذوّقه بل هي موصولة بما شاع حوله من حكايات وأساطير، جعلت منه ثمرة نادرة ونفيسة شبيهة بالحجارة الكامنة في هذه التّربة وما تحمله من تاريخ ،فإذا بالذّكريات تعود بي إلى لحظة استحضاره لأوّل مرّة ،كان عمري آنذاك ثماني سنوات وكنت قد أصبت بالتهاب حادّ في الامعاء، فأجبرت على تناول دواء شديد المرارة، لن أنسى طعمه ما حييت كنت في كلّ مرّة أرفض تجرّعه وكانت أمّي تجلس إليّ لتحدّثني عن العنب في اللّيالي وتعدني بأنّها ستأتيني به إذا ما رضيت باتّباع العلاج والشّفاء من مرضي، كنت أرغم نفسي على تجرّع سائله المرّ، لكنني أصبت بخيبة أمل لا توصف بعد أن استرجعت الصّحة والعافية لأنّ أمّي لم تف بوعدها بل تركتني أتخيّل عنب اللّيالي رائحة وطعما ولونا وأسطورة طيلة أشهر عديدة إثر شفائي .
ترى أين يقع "هنشير السبانيورية" الّذي حدّثتني عنه أمّي آنذاك ؟ قالت لي إنّه أنبت العنب في اللّيالي. لا أدري كم قصّة روت لي حول نشأته وظهوره "بهنشيرالسبانيورية" فقد دام مرضي أكثر من شهر تقريبا .
أتذّكر أنّها حدّثتني ذات ليلة عن امرأة كنيّت "بالاسبنيوريّة"، كانت سليلة المورسكيين الّذين قدموا إلى تونس منذ قرون مضت، فقالت لي أنّ عائلتها استقرّت في مدينة قرمبالية جهة الوطن القبلي ،فكانت "الاسبانيورية" تلبس فستانا أحمر طويلا مطرّزا بالنّجوم وترقص في عزّ الشّتاء رقصة الفلامنكو الاسبانيّة تحت أشجار العنب، تغنّي قصائد جميلة في وصف قصور أجدادها بقرطبة بعد أن أطردوا منها، وتحلم بالعودة إليها .وذات ليلة بكت لشدّة حنينها الى وطنها الأصلي، فنبت في اليوم الموالي عنب اللّيالي فكان لونه مزيجا من الحمرة والسّواد يجمع بين لون فستانها وظلمة اللّيل، أما طعمه فكان حلوا شبيها بصوتها رقيقا كملح دموعها، ثمّ زال عنب اللّيالي من الوجود تماما ولم ينبت مرّة أخرى في فصل الشّتاء.
لكنّ أمّي غيّرت بعد أيام من أحداث روايتها فأخبرتني أنّ "السبانيوريّة" كانت ترقص وتغنّي لتنتظر عودة حبيبها الّذي رحل لمحاربة الأعداء فلمّا علمت بموته، بكت فنبت العنب في اللّيالي لشّدة حزنها.
وذات ليلة داهمتني آلام لا توصف، فلم أقدر على النّوم ولا على الأكل، قضّيت ليلتي ألتوي حتّى طلوع الصّباح ،روت لي أمّي ما وصفته بالقصّة الأصليّة "للعنب في اللّيالي" تلك الّتي تناقلتها الأجيال جيلا بعد جيل منذ عصور بعيدة غابرة حين كان النّاس يسافرون مشيا على الأقدام، فيشّقون البراري والصّحاري لزيارة الهند والسّند إمّا بحثا عن الحرير الخالص والجواهر أو سعيا لنيل العلم. في ذلك الزّمان قرّر رجل من الأعيان أن يغادر البلاد فاتّخذ له صاحبا يرافقه ويخفّف عنه متاعب السّفر ويشاركه في مجابهة مخاطره فسلكا طريقهما قاصدين بلادا بعيدة عن هذه البلاد بعد الأرض عن السّماء، وما إن توغّلا في المشي وبلغا الخلاء حتّى قال الفقير لصاحبه الغنيّ : "لو قتلتك الآن في هذا الخلاء، لن يعلم أحد بموتك ولن يدرك أيّ كان حقيقة ما حدث بيننا." فأجابه الغنيّ : ما الذي دهاك؟ وقد استأمنتك على حياتي ومالي واخترتك صديقا ورفيقا، فلا تغترّ يا صاحبي، إن فعلت ذلك، سيخبر الحاكم الكبير الحاكم الصغير بما ارتكبت في حقّي من جرم إذّاك ينكشف أمرك للجميع ." فاستهزأ الفقير بقول صاحبه الغنيّ وقتله ثم استحوذ على ماله و واصل سيره إلى أن بلغ حقلا كبيرا مزروعا بشجيرات العنب، نام تحتها ولما استيقظ رأى العنب الأسود ينبت في عزّ الشّتاء، عندئذ خطر له أن يقطف ثماره ويحملها هديّة للسلطان طمعا في نيل مرضاته ، فكان الأمر كذلك. وبعد شقاء وعناء أدرك الرّجل قصر السّلطان محملا بصندوقه الكبير فاستأذن في مقابلته لكي يسلّمه هديّة عنب اللّيالي وما إن مثل أمامه وفتح الصندوق حتّى اتّخذ عنب اللّيالي شكل جسد صديقه المطعون. حينئذ اضطرّ الرّجل إلى أن يعترف للسلطان بجريمته وأن يروي له تفاصيل قصّته فأمر السلطان بإعدامه . تلك هي بعض الحكايات الّتي استطعت أن أتذّكرها وقد نسيت جلّها، فعقدت العزم على زيارة أمّي حتّى أسألها من جديد عن مغزاها ومصادرها وأطلب منها أن تعيد عليّ ما نسيته من قصص وأن ترشدني عن موقع "هنشير الاسبانيوريّة"،فإذا بها تستنكر سؤالي وتجيب بأنّني ربما أصبت بالهوس أو بالجنون بعد أن وهبني الله عز وجلّ السعادة والرّخاء بزواجي من رجل "كامل الأوصاف والشّروط تتمنّاه أيّة امرأة " حسب قولها ،ما انفّك يبذل ما في وسعه لارضائي حتّى بتّ أبحث عمّا يعكر صفو حياتي بالنبش والبحث عن خرافات أكل عليها الزّمن وشرب .
لم أجبها بل غادرت البيت في صمت ، حينئذ عادت إلىّ ذاكرتي تلك الصّورة الغريبة العجيبة لرجل تدلّت رجلاه على حافة بئر وتعلّقت يداه بغصني شجرة دون أن ينتبه إلى جرذين كانا قد شرعا في قضمهما، ولا الى الأفاعي المحيطة به ولا الى التّنّين الرّابض داخل البئر، إذ تلهّى عن حالته تلك طمعا في قطرات العسل المتساقطة من أعلى الشّجرة. فاعتراني الفزع والاشمئزاز بعد أن استحضرت قصّة الّرجل والتّنّين في كتاب كليلة ودمنة الّتي أنستني حكايات أمّي حول العنب في اللّيالي إثر شفائي من مرضي،زمن طفولتي.
ومرّت الأيّام والأشهر رتيبة كعادتها دون أن تشهد حياتي أيّ تغيير إلى أن أخبرني ذات يوم جاسر بأنّه سيسافر إلى ألمانيا للتربّص في إحدى الشّركات الأجنبيّة مدّة عام تقريبا سألته: إن كنت سأرافقه ؟ فأجاب : لا ، يا عزيزتي ، فالعقد الّذي أمضيته مع الشّركة لا يمنحني هذا الحقّ، بل يسمح لي بزيارة تونس كل ستّة أشهر ،لا تقلقي، سآتي لزيارتك وقد نتبادل الزّيارات من حين إلى آخر، كما هو شأن العشّاق .
لازمت الصّمت وراودتني شكوك في أنّ جاسر لم يسع إلى أن أرافقه في سفره، ربمّا لأنّه سئم تقلبّ مزاجي وانشغالي عنه بأمور تافهة لا تعنيه ،فخيّر الابتعاد عنّي ، الله أعلم بحقيقة نواياه، لكنني وجدت نفسي ذات ليلة من ليالي الشّتاء، أتقلّب وحدي في فراشي وأنا أردّد : إيه إيه، وينو العنب في اللّيالي ؟
كاهنة عباس
* نشرت بمجلة المسار - عدد101مارس/ أفريل2016 مجلة اتحاد الكتاب التونسيين .
ومع ذلك ، كلّما اشتدّت الرّيح وهطل المطر استولت على مخيلتي ألوانه المتقلّبة: الأحمر البنفسجيّ المخضّب بالأسود السّماويّ مع انعكاس اللّون الأرجوانيّ ، فأشتهي طعمه السّكريّ ذي الحموضة الخفيفة، تلك الّتي تزيده لذّة على لذّة ،لتذكرني بأنّه صيفيّ المولد ، شتائيّ الظّهور، إذّاك تعتريني حالة غريبة عجيبة شبيهة بالجنون لرغبتي الشّديدة في الظّفر به.
ولأنّ عنب اللّيالي كان مفقودا في شهر ديسمبر ،فكرّت في أن أعلّق صورته بمدخل بيتي ثمّ عنّ لي أن أغيّر موقعها بأن أضعها ببيت الاستقبال ثمّ ببيت الصالة وفي نهاية الأمر استقرّ بي الرّأي على تعليقها ببيت النّوم حتّى أتمتّع برؤيتها قبل أن أخلد الى الرّاحة .
كانت صورة عنب اللّيالي توحي إليّ بدموع اللّيل المنهمرة شتاء والّتي تتحوّل بفعل قوّة خفيّة خارقة للعادة إلى عنب أرجوانيّ شهيّ الطّعم بهيّ الشّكل،إذّاك يحملني خيالي ساعات طويلة خارج دائرة خيبات الحبّ و خدعه و كلّ ما روي عنه من قصص وأساطير: قيس بن الملوح وابتلاؤه بالجنون لهيامه بليلى العامريّة ،روميو وجوليات اللّذان انتحرا انتصارا للحبّ وللوفاء ،أسطورة كليوبترا ملكة الفراعنة ،تلك الّتي خرّ لها أعظم ملوك روما وقادتها عشقا وهياما فخيّروها على سلطان إمبراطورياتهم .لقد حدّثنا المؤرّخون عن الحبّ الأبديّ فأخبرونا أنّه لا يولد إلاّ في حالة استثنائيّة واحدة : إذا ما كتب له أن يكون مستحيلا، إذ لابدّ للمحبّ من اختراق حجب ذاته والمروق عن كلّ النواميس والعادات حتّى يهيم بحبيبه إلى حدّ الوله والهيام ، أمّا إذا استطاع الظّفر بقربه، فقد يصبح عاجزا عن مواجهة العواصف و الصعوبات. لكنّ الرّواة من بعدهم زيّفوا تلك الحقيقة، فأطنبوا في وصف الحبّ متجاهلين ما أثبتته التّجربة، وخدعونا بقصص أسطوريّة لا تبوح بفنائه إذا ما انتهى بزواج سعيد، فأخفوا عنّا زواله إن عاجلا أم آجلا بحلول الخاتمة المرجوّة ،ثمّ تواصلت الخدعة بانتشار الأفلام الرّومانسيّة والرّوايات العاطفيّة شرقا وغربا ،الّتي غالبا ما تكتفي بإبراز الجانب الورديّ في الحكاية دون وصف ما يختلج به وجدان المحبّين أحيانا من غيرة وضجر وخوف وشهوة وحقد وجراح .
لقد كنت أتصوّر بعد زواجي من جاسر أن نشعل الشّموع وننثرالورود كلّ ليلة في كلّ ركن من أركان غرفتنا، اعتقادا منّي أنّ شوقي إليه مازال مستمرّا وحيّا وأنّ جاسر سيحدّثني وأحدّثه حديث الأحبّة والعشّاق وأنّه لن ينزعج إن مرضت أو غضبت أوتعبت ،كانت تلك أوهامي خلال فترة خطوبتنا، كنت آنذاك أنتظر لحظة بلحظة أن يجمعنا سقف واحد وأن أعيش معه العمر كلّه، فلا يفرّق بيننا سوى الموت .
لكنّ الأمور تغيّرت بعد زواجي منه بأن أصبحت لنا عادات في الأكل والشّرب والنّوم والجنس. كنت أسعى إلى أن يدوم الحبّ بيننا، فأتقمّص في كلّ مرّة هيئة امرأة أخرى لا يعرفها، بأن أتحلّى بزينة لم يعهدها وبملابس جديدة والعطورنفيسة، حتّى أثير رغبته في الهمس واللّمس والبوح والالتحام فننسى ما اعتدناه من روتنيّة استهلاك الشّهوة وتبادلها أبذل جهدا كبيرا لتغيير أجوائنا المعهودة حفاظا على عشّ الزوجيّة .
فأنا لا أتصوّر حياتي من دونه إذا ما حرمت من سماع خطاه تخترق البيت و صرير مفتاحه يدور في قفل الباب ومن صوته يناديني ،لقد أضحت جلّ أحاديثنا بعد الزّواج تدور حول شراء الضّروريّات والكماليّات و ما يمكن أن نصرفه أوندّخره من مال والانجاب وزيارة أمه وأهله وأمور أخرى من هذا القبيل .
لا أنكر أنّي كنت أفكّر أحيانا في الطّلاق، لكنني كنت أقاوم الفكرة بشدّة لأقنع نفسي بأنّه أمر مستحيل ،فجاسر ليس زوجي فحسب، بل هوجزء من ذاتي وكياني ووجودي .
وحين أخبرته برغبتي في الحصول على عنب اللّيالي ارتسمت على وجهه ابتسامته الصبيانيّة المعتادة فقال : لا تتعبي نفسك يا عزيزتي ،اعتبري أن الأمر منته، سأحمل إليك عصير العنب الأسود غدا، إنّه متوفّر لدى جلّ الباعة، لا أفهم هوسك بمثل هذا الأمر الّذي لا يستحّق منك كلّ هذا المجهود، إلاّ إذا كنت تمرّين بالأشهر الأولى من الحمل .فأجبت : لست حاملا بعد ، لكنني أشتهي العنب الأصليّ لا الاصطناعيّ . فأجاب : موجود، قطعا ويستورد من الخارج .فلازمت الصمت دون أن أنبس، لأنّ العنب الّذي أشتهيه هو عنب اللّيالي، لا العنب المستورد من الخارج .
تفطّنت إثر الحوارالّذي دار بيننا ، أنّ شهوتي لا تقتصر على رؤية عنب اللّيالي ولا على تذوّقه بل هي موصولة بما شاع حوله من حكايات وأساطير، جعلت منه ثمرة نادرة ونفيسة شبيهة بالحجارة الكامنة في هذه التّربة وما تحمله من تاريخ ،فإذا بالذّكريات تعود بي إلى لحظة استحضاره لأوّل مرّة ،كان عمري آنذاك ثماني سنوات وكنت قد أصبت بالتهاب حادّ في الامعاء، فأجبرت على تناول دواء شديد المرارة، لن أنسى طعمه ما حييت كنت في كلّ مرّة أرفض تجرّعه وكانت أمّي تجلس إليّ لتحدّثني عن العنب في اللّيالي وتعدني بأنّها ستأتيني به إذا ما رضيت باتّباع العلاج والشّفاء من مرضي، كنت أرغم نفسي على تجرّع سائله المرّ، لكنني أصبت بخيبة أمل لا توصف بعد أن استرجعت الصّحة والعافية لأنّ أمّي لم تف بوعدها بل تركتني أتخيّل عنب اللّيالي رائحة وطعما ولونا وأسطورة طيلة أشهر عديدة إثر شفائي .
ترى أين يقع "هنشير السبانيورية" الّذي حدّثتني عنه أمّي آنذاك ؟ قالت لي إنّه أنبت العنب في اللّيالي. لا أدري كم قصّة روت لي حول نشأته وظهوره "بهنشيرالسبانيورية" فقد دام مرضي أكثر من شهر تقريبا .
أتذّكر أنّها حدّثتني ذات ليلة عن امرأة كنيّت "بالاسبنيوريّة"، كانت سليلة المورسكيين الّذين قدموا إلى تونس منذ قرون مضت، فقالت لي أنّ عائلتها استقرّت في مدينة قرمبالية جهة الوطن القبلي ،فكانت "الاسبانيورية" تلبس فستانا أحمر طويلا مطرّزا بالنّجوم وترقص في عزّ الشّتاء رقصة الفلامنكو الاسبانيّة تحت أشجار العنب، تغنّي قصائد جميلة في وصف قصور أجدادها بقرطبة بعد أن أطردوا منها، وتحلم بالعودة إليها .وذات ليلة بكت لشدّة حنينها الى وطنها الأصلي، فنبت في اليوم الموالي عنب اللّيالي فكان لونه مزيجا من الحمرة والسّواد يجمع بين لون فستانها وظلمة اللّيل، أما طعمه فكان حلوا شبيها بصوتها رقيقا كملح دموعها، ثمّ زال عنب اللّيالي من الوجود تماما ولم ينبت مرّة أخرى في فصل الشّتاء.
لكنّ أمّي غيّرت بعد أيام من أحداث روايتها فأخبرتني أنّ "السبانيوريّة" كانت ترقص وتغنّي لتنتظر عودة حبيبها الّذي رحل لمحاربة الأعداء فلمّا علمت بموته، بكت فنبت العنب في اللّيالي لشّدة حزنها.
وذات ليلة داهمتني آلام لا توصف، فلم أقدر على النّوم ولا على الأكل، قضّيت ليلتي ألتوي حتّى طلوع الصّباح ،روت لي أمّي ما وصفته بالقصّة الأصليّة "للعنب في اللّيالي" تلك الّتي تناقلتها الأجيال جيلا بعد جيل منذ عصور بعيدة غابرة حين كان النّاس يسافرون مشيا على الأقدام، فيشّقون البراري والصّحاري لزيارة الهند والسّند إمّا بحثا عن الحرير الخالص والجواهر أو سعيا لنيل العلم. في ذلك الزّمان قرّر رجل من الأعيان أن يغادر البلاد فاتّخذ له صاحبا يرافقه ويخفّف عنه متاعب السّفر ويشاركه في مجابهة مخاطره فسلكا طريقهما قاصدين بلادا بعيدة عن هذه البلاد بعد الأرض عن السّماء، وما إن توغّلا في المشي وبلغا الخلاء حتّى قال الفقير لصاحبه الغنيّ : "لو قتلتك الآن في هذا الخلاء، لن يعلم أحد بموتك ولن يدرك أيّ كان حقيقة ما حدث بيننا." فأجابه الغنيّ : ما الذي دهاك؟ وقد استأمنتك على حياتي ومالي واخترتك صديقا ورفيقا، فلا تغترّ يا صاحبي، إن فعلت ذلك، سيخبر الحاكم الكبير الحاكم الصغير بما ارتكبت في حقّي من جرم إذّاك ينكشف أمرك للجميع ." فاستهزأ الفقير بقول صاحبه الغنيّ وقتله ثم استحوذ على ماله و واصل سيره إلى أن بلغ حقلا كبيرا مزروعا بشجيرات العنب، نام تحتها ولما استيقظ رأى العنب الأسود ينبت في عزّ الشّتاء، عندئذ خطر له أن يقطف ثماره ويحملها هديّة للسلطان طمعا في نيل مرضاته ، فكان الأمر كذلك. وبعد شقاء وعناء أدرك الرّجل قصر السّلطان محملا بصندوقه الكبير فاستأذن في مقابلته لكي يسلّمه هديّة عنب اللّيالي وما إن مثل أمامه وفتح الصندوق حتّى اتّخذ عنب اللّيالي شكل جسد صديقه المطعون. حينئذ اضطرّ الرّجل إلى أن يعترف للسلطان بجريمته وأن يروي له تفاصيل قصّته فأمر السلطان بإعدامه . تلك هي بعض الحكايات الّتي استطعت أن أتذّكرها وقد نسيت جلّها، فعقدت العزم على زيارة أمّي حتّى أسألها من جديد عن مغزاها ومصادرها وأطلب منها أن تعيد عليّ ما نسيته من قصص وأن ترشدني عن موقع "هنشير الاسبانيوريّة"،فإذا بها تستنكر سؤالي وتجيب بأنّني ربما أصبت بالهوس أو بالجنون بعد أن وهبني الله عز وجلّ السعادة والرّخاء بزواجي من رجل "كامل الأوصاف والشّروط تتمنّاه أيّة امرأة " حسب قولها ،ما انفّك يبذل ما في وسعه لارضائي حتّى بتّ أبحث عمّا يعكر صفو حياتي بالنبش والبحث عن خرافات أكل عليها الزّمن وشرب .
لم أجبها بل غادرت البيت في صمت ، حينئذ عادت إلىّ ذاكرتي تلك الصّورة الغريبة العجيبة لرجل تدلّت رجلاه على حافة بئر وتعلّقت يداه بغصني شجرة دون أن ينتبه إلى جرذين كانا قد شرعا في قضمهما، ولا الى الأفاعي المحيطة به ولا الى التّنّين الرّابض داخل البئر، إذ تلهّى عن حالته تلك طمعا في قطرات العسل المتساقطة من أعلى الشّجرة. فاعتراني الفزع والاشمئزاز بعد أن استحضرت قصّة الّرجل والتّنّين في كتاب كليلة ودمنة الّتي أنستني حكايات أمّي حول العنب في اللّيالي إثر شفائي من مرضي،زمن طفولتي.
ومرّت الأيّام والأشهر رتيبة كعادتها دون أن تشهد حياتي أيّ تغيير إلى أن أخبرني ذات يوم جاسر بأنّه سيسافر إلى ألمانيا للتربّص في إحدى الشّركات الأجنبيّة مدّة عام تقريبا سألته: إن كنت سأرافقه ؟ فأجاب : لا ، يا عزيزتي ، فالعقد الّذي أمضيته مع الشّركة لا يمنحني هذا الحقّ، بل يسمح لي بزيارة تونس كل ستّة أشهر ،لا تقلقي، سآتي لزيارتك وقد نتبادل الزّيارات من حين إلى آخر، كما هو شأن العشّاق .
لازمت الصّمت وراودتني شكوك في أنّ جاسر لم يسع إلى أن أرافقه في سفره، ربمّا لأنّه سئم تقلبّ مزاجي وانشغالي عنه بأمور تافهة لا تعنيه ،فخيّر الابتعاد عنّي ، الله أعلم بحقيقة نواياه، لكنني وجدت نفسي ذات ليلة من ليالي الشّتاء، أتقلّب وحدي في فراشي وأنا أردّد : إيه إيه، وينو العنب في اللّيالي ؟
كاهنة عباس
* نشرت بمجلة المسار - عدد101مارس/ أفريل2016 مجلة اتحاد الكتاب التونسيين .