د. وفاء الحكيم - رَفيف.. قصة قصيرة

نَسِيْتُ في هذه اللحظةِ كلَّ ما حَدَثَ بيننا..
رُحْتُ أصرخُ به عبر الهاتفِ، بينما قلبي طائرٌ جريحٌ يئنُّ من فرطِ ألمِهِ..!
ــ الطفلةُ تكادُ تموتُ.. أرجوك.. أتوسَّلُ إليك، انسَ كلَّ ما حدثَ بيننا، وتعالَ لتَرَاهَا أليستِ ابنتَك..؟!
يردُّني مُجافيًا لا مُبالياً، ويأتيني صوتُهُ مُوجِعًا كصقيعٍ :
- نعم ابنتي، لكنِّي لن آتيَ لِأراهَا، يكفيها أنكِ بجانبها، أولستِ أنتِ أيضًا أمَّها..؟! (ويغلقُ لا مباليًا الهاتفَ).
دموعي تنسال أنهارًا لتمتزجَ بدماءِ الطَّائِرِ المُرَفْرِفِ داخلَ صدري، فتصطبغُ الأمكنةُ، الفراغاتُ، والندمُ بالبقعِ الحمراءِ المتلاحمةِ، والمتكاثفةِ بعنفٍ.
حملتُ الطفلةَ مرتجفةً ، ووضعتُها بجانبي في المقعدِ الأماميِّ للسيارةِ، كانت حرارتُها قد تجاوزتِ الأربعين، ولم تُفْلِحْ كمَّادات الماءِ المُثَلَّجِ التي ظللتُ أغمرُ بها جسَدَها ليلةً بأكمَلِها، ولا المضاداتُ الحيويةُ في تحسُّنِ حالتِها، بل بدأتْ تتقيَّأ بعنفٍ إلى أَنْ فقدَتِ الوَعْيَ.!
تزدادُ أنهارُ دموعي، وتفيضُ على روحي هَلَعَاً من احتمالِ فقدِهَا بين لحظةٍ وأُخرى.
بيدٍ مرتعشةٍ وَضَعْتُ المِفتاحَ محاولةً أنْ أُدِيرَ العربةَ، أنظرُ إلى الطفلةِ فتَغِيمُ الرؤيةُ أمامي، أضعُ رأسي على مِقْوَدِ العربةِ، فأجهشُ بالبكاء ثم أعاودُ من جديدٍ النظرَ إلى عَيْنَي الطفلةِ، فيتوقفُ البكاءُ، ويُرَفْرِفُ قلبي مِنْ فرطِ خَوْفِي من صمتِها، وهَدْأَتِها المفاجئةِ.
أخيراً، بدأَ المفتاحُ يعملُ، وعَلَا صوتُ العربةِ بطريقةٍ مخيفةٍ سمعتُ خلالَها صوتُ الخوفِ عاليًا كصوتِ الرَّكْضِ هَرَباً من لهيبِ النَّارِ المُحْرِقَةِ.
أبدأ في الدورانِ بالعربةِ،والخروجِ بها إلى الشارع الرئيسيِّ، العروسةُ العاريةُ أمامَ المرآةِ تتحركُ حركتَها الروتينيةَ الاهتزازيةَ، وصوتُ أمِّي العجوزِ يأتيني من بعيدٍ،من كهفٍ سحيقٍ بعد طولِ بكائي ونحيبي الخجولِ المتواري، ثم صمتي الطويل،كنتُ قد أخبرتُها بأنني أنا - ابنتُها- عاجزةً تمامًا عن الإنجابِ، لأنني لم أُوْهَبْ مِبْيَضَاً مؤهَّلًا لإخراجِ بويضاتٍ كاملةٍ..!
أضربُ برأسي الحائطَ أمامي، فينبثقُ دمي من جرحٍ غائرٍ في جبهتي
- لماذا أنا..؟
لماذا أنا يا أُمِّي دون نساءِ العالمين..؟!
أجهشُ بالبكاءِ، وارتمي كسيرةً بين ذراعيها فتربِتُ علىّ كثيرًا،وتهدهدُني كطفلٍ :
- يا ابنتي مَنْ يرضَ يجدِ الرضا، ومَنْ يسخطْ يجدِ السُّخطَ... قلبي عليكِ طائرٍ حزينٍ، لكن ماذا ستفعلين مع زوجك..؟
أخبريه يا ابنتي بالحقيقة، حين تخبرينه سيكون أفضل.
- أأصابكِ الجنونُ يا أمي..؟ أُخْبِرُ مَنْ..؟! أُخْبِرُ مَنْ؟!! أَأُخبرُ زوجي حبيبَ عمري،ورفيقَ مقاعدِ الدراسة،والسنة الأولي بكلية الطب، حبيبي لسنواتٍ طويلةٍ، ولسنواتِ كفاحٍ أطول، واختيارات أصعب؟!!
- لكلِّ هذا، ومن أجل هذا أخبريه بالحقيقة، واسمحي له بالزواج فلم يتبقَ من العمر الكثير.
- ماذا..؟
أَأَسمح له بالزواج..؟! بدأت تخرِّفين، أم أصابتْكِ لوثةٌ في عقلكِ يا أمي؟!!
- اسمعي نصيحتي يا ابنتي، على عيني يا حبيبتي اسمحي له بالزواج؛ فالمثل يقول (إنْ جاءك الغصب مرره إليك بخاطرك ورضاك.)
وأبداً لم تفلحْ نصائحُها معي،ولم يُجدِ نفعًا معي أن تسمعني مثلاً قديماً من خبرات السنين، ولم أكترثْ لها كثيرًا، وهي تؤكِّد لي:
- سيكونُ معكِ الزوجُ والحبُّ، وسيحبُك أكثرَ حين يكونُ سعيدًا.
يا لِهذا الطائر الجريح..!
كم هو سهلُ الهدف جدًا، وواضح المكان في مَرْمَى الرمايةِ فصفحاتُ عقله لا تكتب سوى رفيفِ ما قبل السُّقوطِ الذي يقرأُهُ كلُّ مَنْ حوله!!
وأومأت لصديقٍ لي - طبيب مثلنا - فقدَّم ليَ اقتراحاً ينجيني من ورطتي التي وضعتني فيها الحياةُ، ولم أحسبْ لها حسابًا.
كان اقتراحُه بأن أجدَ متبرعةً لي تعطيني بويضةً من بويضاتِها، ثُمَّ أُجري عمليةَ تلقيحٍ صناعيٍّ لهذه البويضةِ بواحدٍ من حيواناتِ زوجي الكثيرةِ، والشَّرِهةِ للحياةِ، ثم أغرسُها في رَحِمِي..!!
راح صديقي يسترسلُ: الَّلبَنُ،والَّلبَنُ فقط هو ماله تحريمُ الدَّمِ، أمَّا هذا فهو تبرعٌ لنَجْدَةِ المريض مثل التبرع بالدم،والكُلَى،والقرنيَّة.
وكتمتُ السِّرَّ بيني وبين صديقي، فلم يعلمْ به أحدٌ سوانا، وتعمَّدْتُ ألَّا أنطق بكلمةٍ أمام زوجي أو أمي، التي ظلَّتْ تؤكِّد عليّ بأن أفكرَ في نصيحتها، وأن نصيبي سيكون أكبر بكثير من زوجة ثانية ستأتي؛ لأن نصيبي عند زوجي سيكون حبَّه الكبير.
لكني غير عابئةٍ أخذتُ كلَّ ذلك، وقذفته وراء ظهري.
حتى جاءني صديقي يومًا مهلِّلاً: أبشري، وافرحي لقد وجدتُ لكِ ما تبحثين عنه.
كانت فتاةٌ صغيرةٌ،وفقيرةٌ للغاية تعمل ممرضةً ناشئةً في أحد أقسام المستشفى،وأومأَ لي هامسًا حين وافقَتْ وأخذَتِ المالَ الكثير:
- تأكدي أنه أفضل حَلِّ، وسيُرضي جميعَ الأطراف، فهو ليس زنا فلم يقربْك رجلٌ غير زوجك، والجنينُ من نطفةِ زوجِك، وأنت ستحملين وتلدين أمام العالم، أما الفتاة فلن نفعلَ بها شيئًا يؤذيها أو يجرحُ عذريَّتَها، سنُجري لها شقًّا صغيرًا في بطنها كشِقِّ الزائدةِ الدوديَّةِ،وسأجتهد كثيرًا لأجعل خياطة الجرح تجميليةً حتى لا تترك أثرًا.
وأعددنا زوجي لعملية التلقيح الصناعي، وكانت عملية ناجحة تمامًا، وأنجبتُ الطفلةَ، كان زوجي سعيدًا للغاية سعيدًا لدرجة مفرطةٍ وعنيفةٍ. كان فَرِحًا بنا، تيَّاهاً بي وبها، كان كطائر يرفرفُ بأجنحة من نور، ويدخلُ في حالةٍ، وهالةٍ من تحليقٍ غَامِرٍ وحُبُورٍ.
ومرَّتْ أيامُنا كحلمٍ ننتشي به علي صوتِ ضحكاتِ الصغيرة ولكنِّي وعلى حين غفلةٍ ودون سابق إنذارٍ أفقتُ من غفوتي.
ما الذي دفع الفتاةَ إلى التَّحَدُّثِ، وإفشاءِ السِّر..؟!
ما الذي دفعَهَا إلى الركْضِ في رَدَهاتِ المستشفى، والدَّقِ دقَّاتٍ واثقةٍ على باب حُجرة زوجي في إحدى أوقاتِ فراغِهِ لترويَ له باستفاضةٍ ودقَّةٍ تفاصيلَ ما حدث..؟!
تُرى ماذا كان مبتغاها..؟!!
عندما سألتُها معاتبةً ومعنّفةً: لماذا حين نفَذَتْ منكِ النقودُ لم تأتِ إلىّ..؟كنتُ سأعطيك الكثير، أما زوجي فلن يعطيَكِ شيئًا..!
لكنَّها أشاحتْ بوجهِهَا ويديها، وبدَتْ تائهةً وهي تلعنُ النقودَ، وكأنَّ شيئًا يرفرفُ بين أضلعِهَا ويرغمُها ألا تتمادى في التحليق، وأن تسقطَ عُنوةً، وبكامل إرادتِها على الأرض لتعترف بخطاياها، ولتُثْبِتَ إيماءةَ الشبهِ بينَها وبين الطفلةِ.
آآآهٍ يا أمي! ما أقسي صدى كلماتِك التي تراوغُ الفضاءَ وتقايضُ الرفيفَ!
ولم أجدْ بعد ذلك سوى السخط؛ سخط عظيم وكراهية شديدة لي وللطفلة، وكأنَّ ما بينى وبين زوجي لم يكن يومًا حُبًّا،بل وهماً متلاشيًا، وكراهيةً ماكثةً، وكأنَّ الطفلةَ ليست ابنتَه ولا من صُلْبِهِ.!
وتزوج زوجي من امرأةٍ أخرى دون إذني، ودون مداراةٍ عني، وأنجبَ ولدًا وتركني وحيدةً في منطقة آفلةٍ غير مأهولة بالمشاعر، ليست عند الرضا، وليست عن السخط، ليست عند الفراق،وليست عند القرب.
- أَلَنْ تسامحَني؟
- لا تفتحي المغلقَ.
- أَلَنْ تأتيَ لزيارتها؟
- إن كنتِ تريدين نقودًا لك أو لها أرسلتُ إليكما، لكني لن آتيَ.
- أليست ابنتَكَ..؟!!
-ابنتي..لكني لن آتي إليكِ يكفيها أن تكوني بجانبها، أو لستِ أنتِ أيضًا أمَّها..؟
ولم أستطع أبدًا -ورغم كثرة محاولاتي- أن أَخْلُقَ طائرًا يرفرف بين أضلعِ زوجي، أو داخلِ شرايين قلبه.
وضاع مني ما لا يمكن استردادُه أبدًا.
أفقتُ من شُرودي، فإذا بي أمام قسم الطوارئِ بالمستشفى، أوقفتُ العربةَ بحركةٍ فجائية، والتقطتُ الطفلة بين ذراعيّ المرتجفتين.
كان زوجي قد هاتفهم بحالةِ الطفلة، فوقَفوا منتظرين قُدومي، أخذوا مني الطفلةَ، وأدخلوها حجرةَ العنايةِ المركَّزةِ، كانوا يحاولون إنقاذَها، أراهم خلف زجاج الباب يتحركون جيئةً وذهابًا والهلعُ باديًا على وجوههم أما أنا فصامتةٌ، وتائهةٌ في الأفق البعيدِ، أرنو للطائرِ الجريحِ، الذي يئنُّ من وطأة الرفيفِ، قُبَيْلَ أَنْ يصمتَ عن العتاب والندم ويغلق عَيْنَيْهِ في هُدُوءٍ.

القاصة د. وفاء الحكيم
طبيب أطفال
وعضو النقابة العامة لاتحاد كتاب مصر
  • Like
التفاعلات: مدحت ثروت

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى