إدريس على بابكر - الحياة رحلة قصيرة.. قصة قصيرة

خالتي حلوم لطخت حلمات أمي بالعجين لكي اترك الرضاعة و لكني شربت الحليب بخليط العجين لا أعرف سببآ واحدآ خالتي مهتمة لفطامي لهذه الدرجة حاولت للمرة الثانية مسحت حلمات أمي (بالشطة) كم كنت عنيدآ ابتلعت الحليب بنكهة الشطة تعالت صرخاتي و النواح تمسكت بحضن أمي أكثر من أي وقت مضى.
خالتي حلوم لم تتركني و شأني في المرة الثالثة اختارت لي المنفى الإجباري في بيتها أطول ليلة قضيتها بكاء و دموعا اشتياقآ إلى حضن أمي ، في اليوم الثالث هجرت البكاء و صرت العب مع الأطفال في سني ، بعد أيام عدت إلى أمي نسيت الرضاعة تلاشت الفكرة من دماغي تمامآ و لكن عندما ألهو و يملكني التعب من اللعب و المرح أرجع إلى حضن أمي الدافىء ملاذي أشعر بالسكينة و الارتياح و هي تداعبني.
مر الزمن سريعآ أنجبت أمي بعدي ثلاثة ذكور كنا نشعر بالغيرة تجاه بعض عندما يكون أحد منا في حضنها أي واحد لديه شعور بالغيرة تجاه الآخر يعتقد بكل أنانية بأن هذا الحضن الدافىء ملكآ له ، أمي تسهر الليالي من أجل راحتنا تضحي بوقتها و صحتها تتمنى لو حضنها يتسع لنا جميعآ هي نبع الحنان بقلبها الرهيف و المرآة التي نرى فيها أحزاننا و افراحنا و أحلامنا و ألمنا لا تنام إلا بعد ما نغرق في النوم تفيق قبل طلوع الشمس لتعيد ترتيب حياتنا ليوم جديد.
أبي أبعده عنا دوام العمل القاسي هو عامل بسيط يخرج قبل طلوع الشمس يأتي منتصف الليل منهك القوى كنا نترقبه و نحن في الفراش بين النوم و اليقظة لكي نسمع ضحكته الحنونة و لمسته الجميلة على رؤوسنا ، أبي قضى جل طفولته في الرعي اتحرم من التعليم برغم أميته الجافة إلا أن أحلامه ندية يوصينا بالعلم و التعليم العمل القاسي سرق من أبي عمره لم يسعفه أن يدخر من اللحظات السعيدة بالجلوس معنا جرد عمره فوجد نفسه مديون من الايام فابتعله الموت في عز شبابه تركنا لوحدنا نصارع قسوة الأيام ، حاولت أمي أن تسد فراغ عاطفة الأبوة صارت هي الأب والأم و كل شيء في حياتنا كتب لنا القدر أن نكون يتامى في سن مبكرة و أن نواجه قدرنا بصبر عظيم.
مررنا بمنعرجات و أوقات عصيبة من الظروف افتقدنا وقتها الوالد أدركنا ماذا يعني عدم وجود الأب في الحياة يعني الحياة كتاب بلا فهرس فقدناه في ساعة ختاننا مع إخوتي الصغار أمي تزغرد بشدة ثم هدرت منها دمعتين فرحتها كانت ناقصة تذكرت أبي الحبيب حبها له كان عظيمآ ظلت وفية له في خضم الذكريات.
كنا لا نجد حرجا في مساعدة أمي في الطبخ و غسيل الأواني و في كل التفاصيل الصغيرة نحن أسرة كخلية نحل نساعد بعضنا البعض تحذرنا أمي أن لا نمد يدنا لغيرنا نعيش بكل كبرياء نتصالح مع واقعنا الحاضر و نتطلع للمستقبل كنا صبية نعمل في الأعمال الهامشية وقت الاجازة الصيفية أو بعد نهاية اليوم الدراسي بكل تجرد ما كسبناه من أموال ضئيلة بعرق الجبين نعطيها لأمي لتدبر لنا حياتنا اليومية كانت دائماً تقول لنا القرش الأبيض لليوم الأسود أمي اجبرتها الظروف أن تعمل عاملة نظافة متجولة في المنازل حتى تشققت قدميها و يديها أمي زهرة يانعة زبلت و في قلبها أطنان من الهموم من أجلنا كم من مرات تعرضت للتحرش و الاغرأء لكنها قدمت درس للذئاب البشرية أخلاقها أكبر من تبيع شرفها بلحظة تافهه.
حين مات أبي كانت أمي في ريعان شبابها جميلة محتفظة بنضارتها تقدموا لها الكثير لنيل رضاءها بالزواج لكنها بعد الوالد عزفت عن كل شيء لم تكن تفكر في نفسها هي الشمعة التي تحترق لتضئ لنا الطريق مستعدة للتضحية بروحها من أجل صغارها الميامين.
أمي لها حدس عاطفي عالي أشبه ما يكون بالمعجزة عندما تضع يدها على قلبها هناك ذبذبات تتوقع الأشياء قبل حدوثها لها عينان فاحصتان تقرأ كل شيء حولها من الأول إلى الآخر هي بقعة ضوء في واقع مظلم تزيد فينا الحماس قوة و إصرار لندرك الغايات هي الأم الرؤوم و الأب الحنون وقت الشدة تخفي دموعها حتى لا نشعر بالانهيار هي الصد الأول لتغلبات الزمان.
أمي الشجرة الظليلة التي تجمعنا في ظلالها فنغرد بابتهاج و الأسم الذي لا نمل في ترديدها ما يزعجنا حقآ إنها كانت تشتكي من صداع و ألم في الصدر سرعآ ما تزول مع مرور الوقت عام بعد عام صار الألم شيء طبيعي تكيفت معه و تكيف معها حتى فاجانا الطبيب ذات يوم أنها مصابة بسرطان الثدي خبر صادم حبس انفاسنا صار مرضها الشغل الشاغل لنا أمي التي وهبت حياتها لنا ها هي تدفع ثمن التضحية مبكرآ بلا مقابل استفحل المرض كل لحظة تتلاشى خلية من جسدها نموت في الثانية الف مرة برغم الألم الفتاك و المرض الخبيث تواجه كل الصعوبات النفسية بشجاعة تحسد عليها لا تعرف الخوف من الموت هي على يقين أن الموت مصير كل حي توصينا على الترابط و التعاضد بينا.
ذات مساء في الحوش الوسيع التفينا حولها مع إخوتي نحتسي القهوة نسبة لتناولها الأدوية الكيماوية تركت معشوقتها القهوة مجبورة سردت لنا عن حياتنا من تاريخ حياة الوالد مع بعض المواقف الطريفة و المحرجة إلى الوضع الآن قالت لنا إن الحياة قابلة للتغيير و التطور لا أحد في هذه الدنيا ياخذ أكثر من نصيبه حديثها ترك فينا أحساس بالحزن الدفين في طياته الحكمة و وصايا قيمة أثناء مرضها عرفنا قيمة الأخت في المنزل رغم بنت خالتي حلوم قامت بالواجب على أكمل وجه أطول أمسية نقضيها مع أمى الحبيبة لم تفارقها الابتسامة و الضحكة الحنونة.
في فلق الصباح دخلت أمي في غيبوبة لم تفيق منها فاضت روحها الطاهرة إلى ربها و بقى الجسد النحيل مبتسمآ كآنها تريد أن تقول لنا إلى اللقاء.
بعد موت أمى لم تكف الأرض عن الدوران لكن شعرنا الحياة اختلت توازنها تركت وراها فراغ عريض لا يعوض تقابلنا الصباح خالي من ضحكتها و نطرق باب الليل دون أن نسمع صوتها و يباغتنا النهار و لا نرى صورتها صارت ذكرى غير قابلة للنسيان افتقدنا اللمسة الحنونة و الحضن الدافىء و جفت نبع الحنان سقطت الشجرة الظليلة التي كانت تحتوينا في ظلها بعد موت أمي تباعد بينا المسافات و السبل صرنا مثل النجمات البعيدة تستحيل أن تحتوي الفضاء.

(تمت)

إدريس على بابكر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى