تململت في الفراش، بعد أن انتابتني أوجاع كبيرة، تسرّبت من الرّقبة لتمتدّ إلى كامل الظّهر، حتّى هجر النّوم أجفاني فبتّ ساهرة ، أنتظر بين الفينة والأخرى ،أنّ تمرّ أزمتي بسلام ،وأن ينجلي عنّي الألم ،تجرّعت الحبوب المسكّنة واستعملت المراهم لكنّها لم تخفّف من حدّة أوجاعي إلا لمدّة قصيرة، دامت ساعتين تقريبا.
لم أقل لمراد شيئا، فهو يعلم ما أعانيه من مرضي منذ زمن ،لم أجرؤ على أن أطلب منه النّوم بالغرفة المقابلة، لأجنّبه تململي طيلة اللّيل ، لمحته ينسحب من الفراش، دون أن ينبس ، كأنّه أدرك ما كان يخامرني .
فالمرض الّذي أعاني منه مزمن، دون أن يكون قاتلا ،قد يلازمني طيلة العمر، ومن علاماته الألم الحّاد الّذي يصيب الجسم لمدّة معينة ، قد تطول وقد تقصر. هو ألم يختفي ثمّ يعود، إذا ما اشتدّ لا يطاق تفوق معاناته كلّ وصف ، لا دواء يشفي منه ، ولا صلاة تهدّئ من لوعته ، ولا سفر لتفاديه أو للهروب منه ، ولا من حديث ينسي ويلاته ، فقط هذا الدّعاء الّذي كثيرا ما كنت أردّده:" إلهي، إنّي لاأتمنّاه حتى لألدّ أعدائي ، إنّي لا أتمنّاه لأحد .ابتليت به في الأربعين، و مازلت أعاني منه منذ عشر سنوات تقريبا .
إلى كم من مصحة التجأت ؟ وكم من طبيب زرت ؟ كم من علاج اتّبعت ؟ لكن دون جدوى ، كنت أسمع الأطبّاء يجمعون على هذا التشخيص: "إنّه مرض الاعتلال المفصلي، المتمثّل في تلف "الغضروف" المغلّف للعظام كما يبرزه الفحص بالاشّعة، لم يكتشف الطبّ الحديث دواءه، غالبا ما يصيب المسنين ." غادرت فراشي متّجهة إلى بيت الحمام، وسكبت الماء السّاخن على ظهري ، ثمّ حملت قطعة من الخشب الطويلة وضعتها على فراش لأتمدّد عليها ، أنتظر بفارغ الصبرحلول الفرج ، وفي تلك الآونة خيّل إليّ ، أنّ الوقت يطول ويمتدّ دون حدّ ، بقيت على تلك الحال برهة من الزّمن ، إلى أن خفتت حدّة أوجاعي قليلا فغمرتني حالة من الاسترخاء يخترقها نبض بطيء ، كأنّه دقّ مسامير ، شبيه بالألم الذي يخلّفه ارتجاج عظام الجسم حين ترتطم بالارض . أخذت حبّة من الدواء المسكّن للأوجاع عسى أن يأخذني السبّات، فأستريح بعض الوقت .
وتاه فكري ،فتذكّرت حصص الدلك ، الّتي تابعتها لدى أحد الاطبّاء المختصّين ،فتذكّرت قوله :" أراك صامتة رغم ما تشعرين به من أوجاع ، صدق من قال أنّ المرأة صبورة تتمتّع بقدرة كبيرة على تحملّ المشّاق." لازمت الصّمت أقتصد جهدي . فما جدوى التشكّي، إذا ما هاجم الألم الجسد والنّفس؟ ما جدواه،لمن لم يبتل بمرضي ولا يعلم ما أعانيه ؟
بتّ ليلتي سجينة جسدي الموجوع ، لا أرغب إلاّ في التخلّص من آلامي ولو لفترة قصيرة. وما إن طلع الصّباح ،حتّى أخذت أبحث بين أوراقي ، عن أسماء وعناوين أطبّاء مختصّين لم تسبق لي زيارتهم ، ثمّ تذكّرت ما أخبرتني به شقيقتي "فاطمة" ،عن امرأة تدعى "خديجة" عرفت بقدرتها الخارقة للعادة على تهدئة الأوجاع بواسطة الدلك .
وعند طلوع الصّباح ،اتّصلت بها حتّى نلتقي في موعد قريب ، فوافقت على يكون اللّقاء بعد الظّهر . وفي عشيّة ذلك اليوم ، وجدت نفسي في بيت صغير، يقع بأحد الأحياء الشعبيّة بالعاصمة يسمّى " حيّ الزهور"، أنتظر مقابلة الحكيمة "خديجة" ، حين جاء دوري دخلت عليها، كانت جالسة على أريكة خشبيّة نصبت أمامها طاولة وعلى مقربة منها وضع فراش وكرسيّ ، نهضت من مكانها لاستقبالي ، ثمّ دعتني الى الجلوس أمامها ، وسألتني :"مما تشتكيين" ؟ قلت :"من أوجاع حادّة ، تمتدّ من الرّقبة إلى كامل الظّهر وتشتدّ بين الأضلع ، لقد أتيتك بصور الفحص بالأشّعة لتعلمي طبيعة مرضي ألا وهوالاعتلال المفصلي، فابتسمت ،قائلة : "لا أحتاج إليها ".
كانت خديجة امرأة تناهز الخمسين ، متوسطّة القامة ،سمراء البشرة ،سوداء الشّعر، ترتدي جلبابا طويلا ، قد بانت على وجهها سمات السكينة والثّبات ، وتميزّ صوتها برنّة متأنّية تبعث في نفس سامعها الاطمئنان ، تتقدّ نظراتها فطنة و ذكاء ، كأنّها نجوم تنير سماء ليل صيفيّ ساكن ، بقيت تتصفّح قسمات وجهي، وهي صامتة ،ثمّ قالت :" يبدو عليك الارهاق بعد طول السهر". فقلت : "لم أنم طيلة ليلة البارحة ". فأمرتني بالاستلقاء لتشرع في الدلك .
عندئذ لمحتها تغمس يديها في آونة صغيرة ، ثم تفركهما بتؤدة ، وتقترب منّي ثمّ تشير عليّ بنزع قميصي.
شعرت بيديها المدهونتين بالزّيت، تتلمّس موقع الوجع المستوطن بالجهة اليمنى للرّقبة، ثم تتابعه بدقّة شديدة نزولا إلى الظّهر ،تتحسّس بأناملها مساربه، ثم تتوقّف برهة قصيرة من الزّمن وهي تضغط بأصابعها على مواقعه ،كنت أهتزّ كلّما ازداد الضّغط، وكانت تطلب منّي التحلّي بالسكّون وبالهدوء، تتابع الخيوط الخفيّة لأوجاعي، كأنّها تراها، فتفكّ عقدها وتزيل تشابكها،وما إن انتهت حتى أحسست بانخفاض تدريجيّ للتوتّر والانكماش الّلذين أصابا عضلات ظهري .سألتني : "هل تحسنت حالتك"؟
- نعم، بدأت أشعر بالرّاحة.
- إن شاء الله، بالشّفاء .
لبست قميصي، ثم جلست أجيل النّظر في يديها الساحرتين، فإذا بهما غليظتان ، تخلّلتهما تجاعيد، زادت من سمرتهما ، برزت منهما أصابع متوسّطة الحجم ، وكفّان أملسان تغطّيهما بشرة رقيقة ورديّة اللّون، لا شيء يميزّشكلهما عن الأيدي العاديّة ، سوى أنّهما تملكان سرّا خفيّا ، لا أحد عالم بسرّه.
قلت لها : شكرا لك ، لقد تحسنّت حالتي ،كم هي أتعابك ؟ فابتسمت قائلة : "ادفعي ما هو في مقدورك ، أنا لا أتقاضى من المال ، إلاّ ما كتب الله لي ، ضعيه هناك، حتّى لا تزول البركة." وأشارت عليّ بصندوق صغير وضع على الطاولة الواقعة حذوالأريكة ، حيث كانت تجلس ، ففعلت ، ثم غادرت الغرفة قائلة : "سأعود إليك إن شاء الله ، كلّما تعكّرت حالتي الصحيّة ". فأجابت : "مرحبا بك في كلّ وقت" .
وما إن غادرت المكان حتّى شعرت بحاجة ملّحة الى الرّاحة، كأنّني خدّرت، فعدت إلى فراشي واستسلمت للنّوم .
استفقت أوّل اللّيل ، فتملّكتني رغبة جامحة في الأكل والحديث والخروج، كأنّي لم أقاوم الألم في جوّ تسوده الوحدة والصّمت، سألني مراد عن حالتي الصحيّة بعد زيارة خديجة، فقلت:" لقد تحسّنت بسرعة مذهلة وغير منتظرة" قال لي :"لابأس من العودة إليها، كلّما عاودك المرض ،فلم يتمكّن الطّب الحديث من معرفة خفايا الجسم وأسراره.
- الغريب في الأمر، أنّها عرفت موضع الألم دون عناء كبير، فنجحت في إخماده بتحسّسه ولمس مواقعه، حتى بتّ أشعر بالفرج في نهاية الحصّة .
- اعلمي ، أن تقنيات الدلك و الوخز بالابر ،أصبحت جزءا لا يتجزّأ من الطّب الحديث ،وهي مقتبسة من الطّب الصينيّ القديم، الذي أثبت نجاعته في علاج : السّمنة والارق و الانهيار العصبي و آلام الظّهر وأمراض أخرى ، لم يؤسّس على نظريّة تعتمد التجربة العلميّة بل على رؤية فلسفيّة ،تقول بوجود طاقة حيويّة: تسمّى "الكي" ،هي مصدر الحياة وأصل الكائنات ، إنّها بمثابة الرّوح أو الطّاقة ، إذا ما تعطّلت مسالكها في جسمنا، أصابنا المرض والوهن، لذلك تعتمد تقنياتها على تسريح تلك المسالك بواسطة الوخز بالابر ،حتى تتوزّع وتنساب في جميع أنحاء الجسد، فيستعيد توازنه وعافيته.
- مراد، لم أفهم نظريّة "الكي"، و لا أظنّ أنّ امرأة فقيرة وبسيطة مثل "خديجة" عالمة بها، أعجز عن وصف ما تميّزت به هذه المرأة، الهدوء ،الثّقة بالنّفس ،عزّة النّفس والأنفة ، جعلتها تتمتّع بهالة
من الجمال الغير المعهود، يتجاوز الجمال الشكليّ، قد يكون جمال الرّوح أو النّفس ، ورغم ذلك فلو مرّت بأيّة سوق من الأسواق العموميّة، لما انتبه إلى وجودها أحد.
- قد لا تدرك المعرفة بالعقل بل بالحدس وبالاحساس ، ليس كل ما نعيشه قابل للتفسير والفهم، المهمّ، الحمد لله على سلامتك ،لم أشأ أن أرهقك بطلباتي طيلة مرضك، ساعدتك بقدر المستطاع ،سأخرج بعد العشاء، للقاء بعض الأصدقاء بالمقهى .
- أعلم ،أنّك قمت بكلّ ما في وسعك ،أمّا عن ذهابك إلى المقهى ..... كالعادة..... الله لا تقطعنا عادة. وبدأت عقارب السّاعة تدبّ من جديد ،وبدأت أشعر بمرور الزّمن ،أفكّر في استئناف عملي وقضاء حاجيات البيت ومرّ شهر دون أن تعاودني الأزمة، فقد حرصت على التدثّر بلباس كثيف وتجنّب حمل أيّ جسم ثقيل ، وغيّرت من وسادتي وسريري حتّى يكونا مريحين غير مضرين بالظّهر، كما نصحني بذلك الطبيب .
ومرّت الأسابيع والأشهر ، حتّى نسيت ما عانيته من آلام ،كأنّي لم أتحمل ويلاتها قطّ ،وذات ليلة ،رأيت في منامي ،هذا الحلم العجيب الغريب : فرس أسود،عربيّ أصيل، كبير العينين ،رقيق الاذنين، ناعم الجلد ، طويل العنق، رشيق القوائم، قويّ العضلات،أملس الشّعر ، متهدّل الذّيل ،أنيق الطّلعة ، دقيق الملامح ، شامخ ، بدا لي لمعان سواده الحالك، تحت ضوء شمس مشرقة، فإذا بجسمه الأسود السّاطع، يتوسّط سماء صافية، شديدة الزرّقة، وفجأة رأيت ساقيه الأماميتين تهتزّان وحافراه يهاجمان الهواء، ثمّ سمعت صهيله يملأ الفضاء، ينتكس ثم ينتصب واقفا من جديد ، حينئذ لاحت لي يد كانت مختفية خلفه ، ترتفع لتصيب ظهره بضربات سوط طويل سميك ، فينتفض من جديد، تحت سطوالجلد المتعاقب ، رافعا ساقيه لمواجهة الفضاء ، فيدوّي صهيله من جديد .
استفقت من النّوم مذعورة ،وأنا أردّد :" يا لطيف، يا لطيف، يا ربي، يا لطيف، ألطف بنا " متأثّرة بتحوّل ذلك المشهد البديع إلى فاجعة ،وما إن بادرت بمغادرة الفراش، حتّى عاودتني ،فجأة آلام ظهري ،كأنّ الجلد الذي أصاب الفرس ، كان قد أصابني أيضا .
حسبت أوّل الأمر، أن توعّكي المباغت لن يدوم، وأنّه كان وليد انفعال عابر ، فمرضي لا يطيق الانفعالات ولا الصّدمات، لاعتلال العمود الفقري وعدم قدرته على تحملّها ،.لكن أزمتي تواصلت لتدوم يومين، فلم تجدني الأدوية الّتي تناولتها نفعا سوى سويعات قليلة من الرّاحة . وفي اليوم الثالث، خاطبت "خديجة" على رقم هاتفها الجوّال ،فإذا بصوت مسجّل أعاد على مسامعي هذه الجمل: " عليكم التثبّت من الرقم المطلوب، انقطع رقم مخاطبكم عن العمل".فاتّصلت بشقيقتي "فاطمة" ، لأسألها عن أخبارها ،فأعلمتني أنها لم تتلقّ أيّ خبر عنها منذ مدّة .
عدت إلى حيّ الزهور، أبحث عن بيتها، فلم أتذكّر العنوان، وقد مرّت أشهر عديدة على زيارتي الأولى لخديجة ،أخذت أجوب أنهجا صغيرة متشابهة ،فلفت انتباهي انتصاب باعة الخضر والغلال وتكدّس الفضلات وتراكم الأوساخ في العديد من أركانها، وقد خلّفت الثّورة التونسيّة فوضى كبيرة غيّرت من ملامح الحيّ، أوقفت سيارتي، ونزلت أتثبّت من منزل صغير له باب حديديّ أسود، يقع في نهاية أحد الأنهج، بدا لي شبيها بمعالم بيت خديجة، طرقت الباب ،فخرجت لي امرأة وسألتني : من تكونين ؟ أجبتها : أبحث عن بيت الحكيمة "خديجة" ،المعروفة بعلاج الأوجاع بواسطة الدلك ،تقطن قريبا من هنا ؟
-هذا ليس بيتها ،إنها تقطن بالنّهج الموازي ؟؟
- معذرة ،أخطأت العنوان .
كم كانت خيبتي كبيرة، عندما بلغت منتهى النّهج الموازي، وطرقت باب البيت المقصود، فأخبرني رجل يقطن هناك أن خديجة رحلت عنه منذ مدّة، وأن لا أحد يعلم وجهتها. غادرت المكان دون رجعة،وفي قلبي خيبة أمل لا توصف، كنت أوّد أن أسألها عن أسباب مرضي، إن كانت لها علاقة بما رأيته في منامي أم لا؟
وعند زيارتي، لطبيبي المباشر الحكيم سليمان بن إسماعيل ،طرحت عليه نفس السّؤال ،فأجابني وهو يبتسم : "لست مختصّا في علم النّفس حتى أجيبك بدقّة ، ربما تعرّضت إلى ضغوطات كبيرة أو صدمات نفسيّة أثناء طفولتك أو في فترة شبابك ، ما أعلمه علم اليقين، أن مرضك هو عضويّ وليس وظيفيّا ،
يتمثّل في تلف العظام الرقيقة الرابطة بين المفاصل. لم يقنعني جوابه فلازمت الصّمت، وهو يسلّمني وصفة أدوية مسكّنة للأوجاع وينصحني بملازمة الفراش لمدّة أسبوعين على الأقلّ .
لم ترحمني آلامي في تلك المدّة ،رغم مناجاتي الله عزّ وجلّ ليلا نهارا أن يخفّف من شدّتها ، ومع مرور الأيّام ،تحسّنت حالتي شيئا فشيئا ،فاستفقت ذات صباح في صحّة وعافية ، واستمرّت حياتي رتيبة كعادتها ، لا شيء يحرّكها أو يغيّرها .
وذات يوم، خرجت لقضاء بعض حاجات البيت، أوقفت سيارتي أمام إحدى المغازات القريبة من العاصمة، وما إن هممت بدخولها حتّى استرّعى اهتمامي وجود امرأة تبحث عن قوارير البلاستيك الملقاة في سلّة الفضلات ، فاقتربت منها، وهي محنية الرأّس، فلم أر من سماتها إلا يديّها المنحدرتين إلى أسفل السلّة، بينما كانت منهمكة في نبش ما في داخلها ،فبانت لي أصابعها ،متوسّطة الحجّم، غليظة، مجعّدة تغطّيها بشرة سمراء، شبيهة بأصابع خديجة ،كنت واقفة خلفها ، فناديتها : خديجة ....خديجة ..........خديجة . رفعت رأسها ، دون أن تلتفت إليّ ،ثم اختفت فجأة بين زمرة المارين في الطريق .
كاهنة عباس ، متقطف من المجموعة القصصية بعنوان "كش مات" الصادرة عن دار نيرفانا للنشر 2015
لم أقل لمراد شيئا، فهو يعلم ما أعانيه من مرضي منذ زمن ،لم أجرؤ على أن أطلب منه النّوم بالغرفة المقابلة، لأجنّبه تململي طيلة اللّيل ، لمحته ينسحب من الفراش، دون أن ينبس ، كأنّه أدرك ما كان يخامرني .
فالمرض الّذي أعاني منه مزمن، دون أن يكون قاتلا ،قد يلازمني طيلة العمر، ومن علاماته الألم الحّاد الّذي يصيب الجسم لمدّة معينة ، قد تطول وقد تقصر. هو ألم يختفي ثمّ يعود، إذا ما اشتدّ لا يطاق تفوق معاناته كلّ وصف ، لا دواء يشفي منه ، ولا صلاة تهدّئ من لوعته ، ولا سفر لتفاديه أو للهروب منه ، ولا من حديث ينسي ويلاته ، فقط هذا الدّعاء الّذي كثيرا ما كنت أردّده:" إلهي، إنّي لاأتمنّاه حتى لألدّ أعدائي ، إنّي لا أتمنّاه لأحد .ابتليت به في الأربعين، و مازلت أعاني منه منذ عشر سنوات تقريبا .
إلى كم من مصحة التجأت ؟ وكم من طبيب زرت ؟ كم من علاج اتّبعت ؟ لكن دون جدوى ، كنت أسمع الأطبّاء يجمعون على هذا التشخيص: "إنّه مرض الاعتلال المفصلي، المتمثّل في تلف "الغضروف" المغلّف للعظام كما يبرزه الفحص بالاشّعة، لم يكتشف الطبّ الحديث دواءه، غالبا ما يصيب المسنين ." غادرت فراشي متّجهة إلى بيت الحمام، وسكبت الماء السّاخن على ظهري ، ثمّ حملت قطعة من الخشب الطويلة وضعتها على فراش لأتمدّد عليها ، أنتظر بفارغ الصبرحلول الفرج ، وفي تلك الآونة خيّل إليّ ، أنّ الوقت يطول ويمتدّ دون حدّ ، بقيت على تلك الحال برهة من الزّمن ، إلى أن خفتت حدّة أوجاعي قليلا فغمرتني حالة من الاسترخاء يخترقها نبض بطيء ، كأنّه دقّ مسامير ، شبيه بالألم الذي يخلّفه ارتجاج عظام الجسم حين ترتطم بالارض . أخذت حبّة من الدواء المسكّن للأوجاع عسى أن يأخذني السبّات، فأستريح بعض الوقت .
وتاه فكري ،فتذكّرت حصص الدلك ، الّتي تابعتها لدى أحد الاطبّاء المختصّين ،فتذكّرت قوله :" أراك صامتة رغم ما تشعرين به من أوجاع ، صدق من قال أنّ المرأة صبورة تتمتّع بقدرة كبيرة على تحملّ المشّاق." لازمت الصّمت أقتصد جهدي . فما جدوى التشكّي، إذا ما هاجم الألم الجسد والنّفس؟ ما جدواه،لمن لم يبتل بمرضي ولا يعلم ما أعانيه ؟
بتّ ليلتي سجينة جسدي الموجوع ، لا أرغب إلاّ في التخلّص من آلامي ولو لفترة قصيرة. وما إن طلع الصّباح ،حتّى أخذت أبحث بين أوراقي ، عن أسماء وعناوين أطبّاء مختصّين لم تسبق لي زيارتهم ، ثمّ تذكّرت ما أخبرتني به شقيقتي "فاطمة" ،عن امرأة تدعى "خديجة" عرفت بقدرتها الخارقة للعادة على تهدئة الأوجاع بواسطة الدلك .
وعند طلوع الصّباح ،اتّصلت بها حتّى نلتقي في موعد قريب ، فوافقت على يكون اللّقاء بعد الظّهر . وفي عشيّة ذلك اليوم ، وجدت نفسي في بيت صغير، يقع بأحد الأحياء الشعبيّة بالعاصمة يسمّى " حيّ الزهور"، أنتظر مقابلة الحكيمة "خديجة" ، حين جاء دوري دخلت عليها، كانت جالسة على أريكة خشبيّة نصبت أمامها طاولة وعلى مقربة منها وضع فراش وكرسيّ ، نهضت من مكانها لاستقبالي ، ثمّ دعتني الى الجلوس أمامها ، وسألتني :"مما تشتكيين" ؟ قلت :"من أوجاع حادّة ، تمتدّ من الرّقبة إلى كامل الظّهر وتشتدّ بين الأضلع ، لقد أتيتك بصور الفحص بالأشّعة لتعلمي طبيعة مرضي ألا وهوالاعتلال المفصلي، فابتسمت ،قائلة : "لا أحتاج إليها ".
كانت خديجة امرأة تناهز الخمسين ، متوسطّة القامة ،سمراء البشرة ،سوداء الشّعر، ترتدي جلبابا طويلا ، قد بانت على وجهها سمات السكينة والثّبات ، وتميزّ صوتها برنّة متأنّية تبعث في نفس سامعها الاطمئنان ، تتقدّ نظراتها فطنة و ذكاء ، كأنّها نجوم تنير سماء ليل صيفيّ ساكن ، بقيت تتصفّح قسمات وجهي، وهي صامتة ،ثمّ قالت :" يبدو عليك الارهاق بعد طول السهر". فقلت : "لم أنم طيلة ليلة البارحة ". فأمرتني بالاستلقاء لتشرع في الدلك .
عندئذ لمحتها تغمس يديها في آونة صغيرة ، ثم تفركهما بتؤدة ، وتقترب منّي ثمّ تشير عليّ بنزع قميصي.
شعرت بيديها المدهونتين بالزّيت، تتلمّس موقع الوجع المستوطن بالجهة اليمنى للرّقبة، ثم تتابعه بدقّة شديدة نزولا إلى الظّهر ،تتحسّس بأناملها مساربه، ثم تتوقّف برهة قصيرة من الزّمن وهي تضغط بأصابعها على مواقعه ،كنت أهتزّ كلّما ازداد الضّغط، وكانت تطلب منّي التحلّي بالسكّون وبالهدوء، تتابع الخيوط الخفيّة لأوجاعي، كأنّها تراها، فتفكّ عقدها وتزيل تشابكها،وما إن انتهت حتى أحسست بانخفاض تدريجيّ للتوتّر والانكماش الّلذين أصابا عضلات ظهري .سألتني : "هل تحسنت حالتك"؟
- نعم، بدأت أشعر بالرّاحة.
- إن شاء الله، بالشّفاء .
لبست قميصي، ثم جلست أجيل النّظر في يديها الساحرتين، فإذا بهما غليظتان ، تخلّلتهما تجاعيد، زادت من سمرتهما ، برزت منهما أصابع متوسّطة الحجم ، وكفّان أملسان تغطّيهما بشرة رقيقة ورديّة اللّون، لا شيء يميزّشكلهما عن الأيدي العاديّة ، سوى أنّهما تملكان سرّا خفيّا ، لا أحد عالم بسرّه.
قلت لها : شكرا لك ، لقد تحسنّت حالتي ،كم هي أتعابك ؟ فابتسمت قائلة : "ادفعي ما هو في مقدورك ، أنا لا أتقاضى من المال ، إلاّ ما كتب الله لي ، ضعيه هناك، حتّى لا تزول البركة." وأشارت عليّ بصندوق صغير وضع على الطاولة الواقعة حذوالأريكة ، حيث كانت تجلس ، ففعلت ، ثم غادرت الغرفة قائلة : "سأعود إليك إن شاء الله ، كلّما تعكّرت حالتي الصحيّة ". فأجابت : "مرحبا بك في كلّ وقت" .
وما إن غادرت المكان حتّى شعرت بحاجة ملّحة الى الرّاحة، كأنّني خدّرت، فعدت إلى فراشي واستسلمت للنّوم .
استفقت أوّل اللّيل ، فتملّكتني رغبة جامحة في الأكل والحديث والخروج، كأنّي لم أقاوم الألم في جوّ تسوده الوحدة والصّمت، سألني مراد عن حالتي الصحيّة بعد زيارة خديجة، فقلت:" لقد تحسّنت بسرعة مذهلة وغير منتظرة" قال لي :"لابأس من العودة إليها، كلّما عاودك المرض ،فلم يتمكّن الطّب الحديث من معرفة خفايا الجسم وأسراره.
- الغريب في الأمر، أنّها عرفت موضع الألم دون عناء كبير، فنجحت في إخماده بتحسّسه ولمس مواقعه، حتى بتّ أشعر بالفرج في نهاية الحصّة .
- اعلمي ، أن تقنيات الدلك و الوخز بالابر ،أصبحت جزءا لا يتجزّأ من الطّب الحديث ،وهي مقتبسة من الطّب الصينيّ القديم، الذي أثبت نجاعته في علاج : السّمنة والارق و الانهيار العصبي و آلام الظّهر وأمراض أخرى ، لم يؤسّس على نظريّة تعتمد التجربة العلميّة بل على رؤية فلسفيّة ،تقول بوجود طاقة حيويّة: تسمّى "الكي" ،هي مصدر الحياة وأصل الكائنات ، إنّها بمثابة الرّوح أو الطّاقة ، إذا ما تعطّلت مسالكها في جسمنا، أصابنا المرض والوهن، لذلك تعتمد تقنياتها على تسريح تلك المسالك بواسطة الوخز بالابر ،حتى تتوزّع وتنساب في جميع أنحاء الجسد، فيستعيد توازنه وعافيته.
- مراد، لم أفهم نظريّة "الكي"، و لا أظنّ أنّ امرأة فقيرة وبسيطة مثل "خديجة" عالمة بها، أعجز عن وصف ما تميّزت به هذه المرأة، الهدوء ،الثّقة بالنّفس ،عزّة النّفس والأنفة ، جعلتها تتمتّع بهالة
من الجمال الغير المعهود، يتجاوز الجمال الشكليّ، قد يكون جمال الرّوح أو النّفس ، ورغم ذلك فلو مرّت بأيّة سوق من الأسواق العموميّة، لما انتبه إلى وجودها أحد.
- قد لا تدرك المعرفة بالعقل بل بالحدس وبالاحساس ، ليس كل ما نعيشه قابل للتفسير والفهم، المهمّ، الحمد لله على سلامتك ،لم أشأ أن أرهقك بطلباتي طيلة مرضك، ساعدتك بقدر المستطاع ،سأخرج بعد العشاء، للقاء بعض الأصدقاء بالمقهى .
- أعلم ،أنّك قمت بكلّ ما في وسعك ،أمّا عن ذهابك إلى المقهى ..... كالعادة..... الله لا تقطعنا عادة. وبدأت عقارب السّاعة تدبّ من جديد ،وبدأت أشعر بمرور الزّمن ،أفكّر في استئناف عملي وقضاء حاجيات البيت ومرّ شهر دون أن تعاودني الأزمة، فقد حرصت على التدثّر بلباس كثيف وتجنّب حمل أيّ جسم ثقيل ، وغيّرت من وسادتي وسريري حتّى يكونا مريحين غير مضرين بالظّهر، كما نصحني بذلك الطبيب .
ومرّت الأسابيع والأشهر ، حتّى نسيت ما عانيته من آلام ،كأنّي لم أتحمل ويلاتها قطّ ،وذات ليلة ،رأيت في منامي ،هذا الحلم العجيب الغريب : فرس أسود،عربيّ أصيل، كبير العينين ،رقيق الاذنين، ناعم الجلد ، طويل العنق، رشيق القوائم، قويّ العضلات،أملس الشّعر ، متهدّل الذّيل ،أنيق الطّلعة ، دقيق الملامح ، شامخ ، بدا لي لمعان سواده الحالك، تحت ضوء شمس مشرقة، فإذا بجسمه الأسود السّاطع، يتوسّط سماء صافية، شديدة الزرّقة، وفجأة رأيت ساقيه الأماميتين تهتزّان وحافراه يهاجمان الهواء، ثمّ سمعت صهيله يملأ الفضاء، ينتكس ثم ينتصب واقفا من جديد ، حينئذ لاحت لي يد كانت مختفية خلفه ، ترتفع لتصيب ظهره بضربات سوط طويل سميك ، فينتفض من جديد، تحت سطوالجلد المتعاقب ، رافعا ساقيه لمواجهة الفضاء ، فيدوّي صهيله من جديد .
استفقت من النّوم مذعورة ،وأنا أردّد :" يا لطيف، يا لطيف، يا ربي، يا لطيف، ألطف بنا " متأثّرة بتحوّل ذلك المشهد البديع إلى فاجعة ،وما إن بادرت بمغادرة الفراش، حتّى عاودتني ،فجأة آلام ظهري ،كأنّ الجلد الذي أصاب الفرس ، كان قد أصابني أيضا .
حسبت أوّل الأمر، أن توعّكي المباغت لن يدوم، وأنّه كان وليد انفعال عابر ، فمرضي لا يطيق الانفعالات ولا الصّدمات، لاعتلال العمود الفقري وعدم قدرته على تحملّها ،.لكن أزمتي تواصلت لتدوم يومين، فلم تجدني الأدوية الّتي تناولتها نفعا سوى سويعات قليلة من الرّاحة . وفي اليوم الثالث، خاطبت "خديجة" على رقم هاتفها الجوّال ،فإذا بصوت مسجّل أعاد على مسامعي هذه الجمل: " عليكم التثبّت من الرقم المطلوب، انقطع رقم مخاطبكم عن العمل".فاتّصلت بشقيقتي "فاطمة" ، لأسألها عن أخبارها ،فأعلمتني أنها لم تتلقّ أيّ خبر عنها منذ مدّة .
عدت إلى حيّ الزهور، أبحث عن بيتها، فلم أتذكّر العنوان، وقد مرّت أشهر عديدة على زيارتي الأولى لخديجة ،أخذت أجوب أنهجا صغيرة متشابهة ،فلفت انتباهي انتصاب باعة الخضر والغلال وتكدّس الفضلات وتراكم الأوساخ في العديد من أركانها، وقد خلّفت الثّورة التونسيّة فوضى كبيرة غيّرت من ملامح الحيّ، أوقفت سيارتي، ونزلت أتثبّت من منزل صغير له باب حديديّ أسود، يقع في نهاية أحد الأنهج، بدا لي شبيها بمعالم بيت خديجة، طرقت الباب ،فخرجت لي امرأة وسألتني : من تكونين ؟ أجبتها : أبحث عن بيت الحكيمة "خديجة" ،المعروفة بعلاج الأوجاع بواسطة الدلك ،تقطن قريبا من هنا ؟
-هذا ليس بيتها ،إنها تقطن بالنّهج الموازي ؟؟
- معذرة ،أخطأت العنوان .
كم كانت خيبتي كبيرة، عندما بلغت منتهى النّهج الموازي، وطرقت باب البيت المقصود، فأخبرني رجل يقطن هناك أن خديجة رحلت عنه منذ مدّة، وأن لا أحد يعلم وجهتها. غادرت المكان دون رجعة،وفي قلبي خيبة أمل لا توصف، كنت أوّد أن أسألها عن أسباب مرضي، إن كانت لها علاقة بما رأيته في منامي أم لا؟
وعند زيارتي، لطبيبي المباشر الحكيم سليمان بن إسماعيل ،طرحت عليه نفس السّؤال ،فأجابني وهو يبتسم : "لست مختصّا في علم النّفس حتى أجيبك بدقّة ، ربما تعرّضت إلى ضغوطات كبيرة أو صدمات نفسيّة أثناء طفولتك أو في فترة شبابك ، ما أعلمه علم اليقين، أن مرضك هو عضويّ وليس وظيفيّا ،
يتمثّل في تلف العظام الرقيقة الرابطة بين المفاصل. لم يقنعني جوابه فلازمت الصّمت، وهو يسلّمني وصفة أدوية مسكّنة للأوجاع وينصحني بملازمة الفراش لمدّة أسبوعين على الأقلّ .
لم ترحمني آلامي في تلك المدّة ،رغم مناجاتي الله عزّ وجلّ ليلا نهارا أن يخفّف من شدّتها ، ومع مرور الأيّام ،تحسّنت حالتي شيئا فشيئا ،فاستفقت ذات صباح في صحّة وعافية ، واستمرّت حياتي رتيبة كعادتها ، لا شيء يحرّكها أو يغيّرها .
وذات يوم، خرجت لقضاء بعض حاجات البيت، أوقفت سيارتي أمام إحدى المغازات القريبة من العاصمة، وما إن هممت بدخولها حتّى استرّعى اهتمامي وجود امرأة تبحث عن قوارير البلاستيك الملقاة في سلّة الفضلات ، فاقتربت منها، وهي محنية الرأّس، فلم أر من سماتها إلا يديّها المنحدرتين إلى أسفل السلّة، بينما كانت منهمكة في نبش ما في داخلها ،فبانت لي أصابعها ،متوسّطة الحجّم، غليظة، مجعّدة تغطّيها بشرة سمراء، شبيهة بأصابع خديجة ،كنت واقفة خلفها ، فناديتها : خديجة ....خديجة ..........خديجة . رفعت رأسها ، دون أن تلتفت إليّ ،ثم اختفت فجأة بين زمرة المارين في الطريق .
كاهنة عباس ، متقطف من المجموعة القصصية بعنوان "كش مات" الصادرة عن دار نيرفانا للنشر 2015