قررتُ هذا اليوم بالذات, أن أعرف لماذا ينظر هذان الشابان إلى بابِ بيتي، في وقتٍ لا أجد فيه أي مبررٍ لذلك ! إذ إنني لا أسمح لزوجتي الفاتنة الاقتراب من الباب، لا أسمح لها بالخروج ابداً، مادمت أقومُ دائماً بواجباتِ التبضع اليومية.
تركتُ زوجتي، مثلَ كلّ يومٍ، في عالمِ المطبخ وصعدتُ إلى غرفتي لأمارس طقوسي التي أحتفِلُ بها ، بعد أن وجدتُ نفسي، فجأةً، بلا عملٍ ولا بنادق، ولا خرائط، أصبحت غرفتي في الأعلى، عزائي الوحيد، فمن خلالِها أستشرفُ الحياة، وأُحاول تجميل ما تبقى من الخرابِ الذي عشتُه، وقد غنمتُ من الحرب مرقاباً وأنكساراتٍ عديدة، هذا المرقاب الذي مكنني يومياً من مشاهدة الحياة السرية للناس عن قربٍ لم اكُنْ أحلم بجمالِ ما يفعلون وهم في غفلةٍ، فكنتُ بتوقيتٍ يوميٍّ أعرفهُ، أن الساعةَ التاسعة مثلا هي ساعةُ تلك الفاتنة السمراء التي تخرِج لتنشر غسيلها، وهي ترتدي ثوبها الوردي الشفاف يكشفُ جانباً مهماً من تقاطيع صدرها، كنت أغبط زوجَها وهو يؤوي إلى هذا الجسد، مع ما يتمتع به من الوسامةِ والخشونةِ طالما تَمْنيتُها لنفسي، لكن مما كان يُزعِجُني حقاً إنها تضعُ أحياناً أحمر الشفاه الصارخ على تلك الشفتين المكتنزتين بالرغم من سمرتها ، لكن ثوبُها الوردي - هكذا أتصور الأمر – كان يوحي لي بمثابةِ إعلانٍ عن ليلةٍ سعيدةٍ، أمضتها السمراءُ تحت ذلك الضوء الأصفر الخافت الذي كنتُ أشاهدهُ وقد تحوَّل إلى ألوانِ قوس قزح في غرفتِها البعيدة عن الانظار ، غير إنها ليست بعيدةً عن مرقابي الذي يتجول براحتهِ بعدستهِ الرهيبة ليكشف موجودات الغرفة، ينقلها لي جزءاً جزءاً، وكنتُ انتظر بفارغ الصبر تلك القطعة من القماش، التي تُرمى بشاعريةٍ في إنحاءِ الغرفةِ، لتَسقُط في الأخير بالقربِ من قدمِّي السرير الذي يحتضن عواصف جسدها وهي تخوضُ غمار السباحة في بحرِ الجمال. كانت تمضي نصف ساعةٍ بالضبطْ على شرفتِها ثم تُغادرها، فأنقلُ مرقابي هذه المرة إلى تلك المرأة صاحبة الخمار، والتي تضعهُ على رأسهِا كلما خرجتْ تنشر غسيلها، ترتدي ملابس محتَشِمة أحيانا ِطالما أشعرَتْني بالخجلِ من مراقبتِهِا، يجب أن أقول إن المرأةَ المحُتشِمة تُشِعرك من حيث لا تدري بالأحترام، دون أن تطلبهُ هي بالذات، وعائلة هذه المرأة عصية علي منذ سنتين، إنها وزوجها لم أعرف أي شيء عنهما، إنهما منعزلان عن العالم، غائران في شقتِهما، لا أحد يدخل إليهما ولم أرهِما قد دخلا على أحدٍ، زوجُها بالكاد أراه ، بل أذكرُ أنني رأيتهُ مرةً واحدةً فقط، كان يبدو من خلالِ مسبحتهِ السوداء ما يُظْهِر تقواهُ وشدةَ تمَسكه بالفروض الدينية، على الرغم من أن عمره لا يتجاوز الثلاثين، أما غرفتُهما الغامضة، تلك الغرفة التي أبحثُ عن أسرارِها، لا يستطيع مرقابي اختراقها بسبب الستارة الزرقاء المعتمة التي كانت حاجزاً منيعاً ضد فضولي، ولكني بعد السنتين، وقعتُ على السّر، أو لأقل الكوة السحرية، التي تُمَكْنُني من اختراق هذا البيت المحصَّن، إذ اكتشفتُ بالمصادفة، بعد خروجِ زوجها مباشرةً إلى العمل، أنها في يومٍ واحدٍ من الشهر، كانت تقوم بتنظيف الغرفةِ من الغبار، ترفعُ تلك الستارة الزرقاء اللعينة وتفتحُ النوافذ على مصراعيها، فتنكشفُ، المرأة، المُحتشِمة، عن آخرِها بالتفاصيل المُشوِقة، وهي تقوم بتنظيف الغرفة، إذ كانت ترتدي ثوبها القصير الأحمر الغامق، معلقاً بخيوطٍ رفيعةٍ من كتفِيها العاريتين، وتضعُ نصفه تقريبا في اللِّباس الداخلِّي ليصْبِح حزاماً حول خِصرها، وتبدأ على إيقاعِ موسيقى لا أسمعُها، بالتنظيف، كانت تنظّف وترقص، فكنتُ أَرقصُ وأهزُّ وسطي، وأحرك عجيزتي مثلها، فأبحرُ في فيوضاتِ عالمِها، لمدة ساعتين وأكثر، غير مُلتفتٍ لنداءاتِ زوجتي في الأسفل وهي تدعوني لتناول الطعام. كان يوماً في الشهر، بالنسبة لي هو أسعدُ الأيام، إذ أجري فيه إحماء روحي به، تلك الروح التي أجدبتها الحروب، وأصبحت تعومُ في بحيرةٍ من الخواء، لا سلوى لها سِوى المرقاب، غنائمي الهزيلة . ثم أقومُ بعدئذ، أي بعد انتهاء فاصل التنظيف والرقص، بمحاولةٍ لمسح صورة زوجتي من ذهني، من أجلِ أن تكون المعاشرة، التي كنتُ أجهد فيها وأعضُ النواجّذ ، بالرّغم من كِّل الإحماء والأستعداد والمراقبة الحميمية لعمليةِ التنظيف الرشيقة التي تستغرقُ أكثر من ساعتين، ولكنها زمنياً عندي أقل من ثانيتين، وبرغم كل ذلك كنتُ لا أستطيع، في أيِّ محاولةٍ، ألا الرجوع بذاكرتي إلى الأيامِ الصعبة ، ولا أدري لِمَ كنتُ أتذكَّر تلك الأيام التي أنفرد فيها مع نفسي، أعني أيام الحرب، كلما صَعِبَ علي إنهاء مشواري الجمالي وأنا أحتمي بما أخْتَزنَتُه ذاكرتي من مشاهدِ الرقصِ والخصرِ المحزم بالثوب الأحمر، ها أنذا، أَستذكرُ كلَّ ذلك، بعد أيةٍ محاولةٍ فاشلةٍ مع زوجتي الجميلة صغيرة السن، والتي تزوجتُها مؤخراً بعد سنواتٍ من وفاة أمّ أولادي، لذلك كان المرقابُ وغرفتي في الطابق الأعلى من البيت، كلَّ سعادتي، مما تَبقى من عمري الذي مضى في حقولِ الخراب، أمضي أيامي بهذه الغرفةُ التي رفضتُ رفضاً قاطعاً، كأي ضابط متقاعدْ عنيد، إن يسكُنَها وَلدي بقصدِ الزواج فيها، قلتُ له، أذهب تزوج هناك بالقربِ من إِخوتِك ، في بيِتِكم الكبير، وفي نفسي قلتُ لن افرَّط بالغرفةِ والمرقاب. ها أنذا أتطلعُ إلى السيدة صاحبة الخمار، وهي تتراقصُ أمامي بمفردِها، مع أنغامِ الموسيقى، لتنظف غرفتها من الغبار، وقد أمضيتُ وقتاً بالغ الجمال في تقمص سلوك الغبار وهو يلمس الجسد البض حينما يدخلُ في أيٍّ مكانٍ يعُجبه، ولم يحزنُني استحالة وصولي إليها أثناء المتابعةِ والمراقبةِ الدقيقة لكِّل التقاطيع التي أشتَهْيها، إذ يكفي، أنني أختزِنُ صورَ الجمالِ في روحي، من أجلِ لحظات، أُنهي فيها عذابي الذي يبدو أنه لا ينتهي أبداً، وها هي الجميلةُ صاحبة الشال تغلق النافذة، ومرقابي المخبأ وراء الستارة لن تستطيع رؤيته.
ثمة من في الشققِ ،ِ التي لا أُحبّذ مراقبتها كثيراً ، تلك الشقة التي تسكنُها امرأةٍ تبدو في الخمسين من العمرِ، تجلسُ أمام صورة رجلٍ معلقة على الجدار، وبين ساعةٍ وأخرى، تمسحُ خديها. وكانت ثمة شقةٌ بجانِبها، لشابيَّن لا أودُ التطلّع إليهما، رغم أني قررت معرفة كُنههما اليوم ، كانا مثلي كما يبدوان ، يراقبان البيوت والشقق ولكنهما كثيراً ما يتطلعان إلى بيتي، خصوصاً في الاتجاه الذي يُؤدي إلى الباب الخارجي، لا أعرفُ لماذا ينظران هكذا باتجاه بيتي، رغم أني أُشدّد على أن زوجتي لا تَخرج إطلاقاً ، كي تكونَ طُعْماً لنظراتِ هذين المراهقيَن. إنهُما يراقبان لمدة ساعة بالتمام والكمال، ثم ينصرفان إلى لعب الكومبيوتر اللذين وجدتُهما يتخاصمان حوله فيما بينهما.
هناك شقة أسفل الشقق لعائلةٍ كبيرة، يبدو أن عدد أفرادها أكثرُ من عشرةٍ ، تشجعني مراقبتهم وتُثيرني لكي أضحك كثيراً - أنهيتُ حياتي في الخدمةِ وأنا لا أضحك إلا قليلا - إذ أرى في الليل كيف يسعى الأب لإخمادِ صغارهِ، رافعا نعاله بغضب، لكي يناموا في غرفةٍ واحدةٍ جميعاً، بينما يذهبُ هو وامرأتُه إلى الحمام، وللأسف، لا أستطيع مشاهدة ما يحصل في الحمام الليلي، لأن المصباح يكون مطفأ ، وبالتالي أنتهاء فاصل الضحك عند هذه الفقرة .
قلتُ في بداية قصتي إنني قررتُ هذا اليوم مراقبة شقة هذين الشابين المراهقين، لماذا يحدقان عند زمنٍ معينٍ من الصباح، ما بين العاشرة والحادية عشرة، أي في أشد لحظات انغماري بالمراقبة ، يصوبان أنظارهما إلى بيتي، وبالذات بابهِ الخارجي، إذ يجب أن أعرف ، ولابد أن أستعد لذلك، ففي الساعةِ العاشرةِ صباحاً، تأتي عجلةُ القمامة لتلمُها من البيوت والشقق، وفي تلك الإثناء يخرجُ هذان الشبان للمراقبة، وغالباً ما تقف تلك العجلة بالقرب من باب بيتي، ليأتي أهل الزقاق يتوافدون، يرمون أزبالهم فيها .
راقبتُهما جيداً ، كانت بالفعل أبصارهما لا تُرْفَعْ عن بابِ البيت، وفي ذلك الوقت كان سائقُ عجلة القمامة يختفي عن الأنظار، لا أحد يعلم أين يذهب ! يمضي ساعة من الزمن ، كأنما الأرض أبتلعتهُ ، ثم يأتي مسرعاً، فيشغل محركها لتنطلق السيارة وهي تحمل قمامة أهل الشارع ، عندئذ يكون الشابان قد دخلا الى شقتهِما وهُما يتَضاحكان ببلاهةٍ ، وربما يتخاصمان أيضا. وفي الحقيقة لا شيء مثيراً ينظران إليه ، فقلتُ في نفسي يا لبُؤسِهِما .
تركتُ زوجتي، مثلَ كلّ يومٍ، في عالمِ المطبخ وصعدتُ إلى غرفتي لأمارس طقوسي التي أحتفِلُ بها ، بعد أن وجدتُ نفسي، فجأةً، بلا عملٍ ولا بنادق، ولا خرائط، أصبحت غرفتي في الأعلى، عزائي الوحيد، فمن خلالِها أستشرفُ الحياة، وأُحاول تجميل ما تبقى من الخرابِ الذي عشتُه، وقد غنمتُ من الحرب مرقاباً وأنكساراتٍ عديدة، هذا المرقاب الذي مكنني يومياً من مشاهدة الحياة السرية للناس عن قربٍ لم اكُنْ أحلم بجمالِ ما يفعلون وهم في غفلةٍ، فكنتُ بتوقيتٍ يوميٍّ أعرفهُ، أن الساعةَ التاسعة مثلا هي ساعةُ تلك الفاتنة السمراء التي تخرِج لتنشر غسيلها، وهي ترتدي ثوبها الوردي الشفاف يكشفُ جانباً مهماً من تقاطيع صدرها، كنت أغبط زوجَها وهو يؤوي إلى هذا الجسد، مع ما يتمتع به من الوسامةِ والخشونةِ طالما تَمْنيتُها لنفسي، لكن مما كان يُزعِجُني حقاً إنها تضعُ أحياناً أحمر الشفاه الصارخ على تلك الشفتين المكتنزتين بالرغم من سمرتها ، لكن ثوبُها الوردي - هكذا أتصور الأمر – كان يوحي لي بمثابةِ إعلانٍ عن ليلةٍ سعيدةٍ، أمضتها السمراءُ تحت ذلك الضوء الأصفر الخافت الذي كنتُ أشاهدهُ وقد تحوَّل إلى ألوانِ قوس قزح في غرفتِها البعيدة عن الانظار ، غير إنها ليست بعيدةً عن مرقابي الذي يتجول براحتهِ بعدستهِ الرهيبة ليكشف موجودات الغرفة، ينقلها لي جزءاً جزءاً، وكنتُ انتظر بفارغ الصبر تلك القطعة من القماش، التي تُرمى بشاعريةٍ في إنحاءِ الغرفةِ، لتَسقُط في الأخير بالقربِ من قدمِّي السرير الذي يحتضن عواصف جسدها وهي تخوضُ غمار السباحة في بحرِ الجمال. كانت تمضي نصف ساعةٍ بالضبطْ على شرفتِها ثم تُغادرها، فأنقلُ مرقابي هذه المرة إلى تلك المرأة صاحبة الخمار، والتي تضعهُ على رأسهِا كلما خرجتْ تنشر غسيلها، ترتدي ملابس محتَشِمة أحيانا ِطالما أشعرَتْني بالخجلِ من مراقبتِهِا، يجب أن أقول إن المرأةَ المحُتشِمة تُشِعرك من حيث لا تدري بالأحترام، دون أن تطلبهُ هي بالذات، وعائلة هذه المرأة عصية علي منذ سنتين، إنها وزوجها لم أعرف أي شيء عنهما، إنهما منعزلان عن العالم، غائران في شقتِهما، لا أحد يدخل إليهما ولم أرهِما قد دخلا على أحدٍ، زوجُها بالكاد أراه ، بل أذكرُ أنني رأيتهُ مرةً واحدةً فقط، كان يبدو من خلالِ مسبحتهِ السوداء ما يُظْهِر تقواهُ وشدةَ تمَسكه بالفروض الدينية، على الرغم من أن عمره لا يتجاوز الثلاثين، أما غرفتُهما الغامضة، تلك الغرفة التي أبحثُ عن أسرارِها، لا يستطيع مرقابي اختراقها بسبب الستارة الزرقاء المعتمة التي كانت حاجزاً منيعاً ضد فضولي، ولكني بعد السنتين، وقعتُ على السّر، أو لأقل الكوة السحرية، التي تُمَكْنُني من اختراق هذا البيت المحصَّن، إذ اكتشفتُ بالمصادفة، بعد خروجِ زوجها مباشرةً إلى العمل، أنها في يومٍ واحدٍ من الشهر، كانت تقوم بتنظيف الغرفةِ من الغبار، ترفعُ تلك الستارة الزرقاء اللعينة وتفتحُ النوافذ على مصراعيها، فتنكشفُ، المرأة، المُحتشِمة، عن آخرِها بالتفاصيل المُشوِقة، وهي تقوم بتنظيف الغرفة، إذ كانت ترتدي ثوبها القصير الأحمر الغامق، معلقاً بخيوطٍ رفيعةٍ من كتفِيها العاريتين، وتضعُ نصفه تقريبا في اللِّباس الداخلِّي ليصْبِح حزاماً حول خِصرها، وتبدأ على إيقاعِ موسيقى لا أسمعُها، بالتنظيف، كانت تنظّف وترقص، فكنتُ أَرقصُ وأهزُّ وسطي، وأحرك عجيزتي مثلها، فأبحرُ في فيوضاتِ عالمِها، لمدة ساعتين وأكثر، غير مُلتفتٍ لنداءاتِ زوجتي في الأسفل وهي تدعوني لتناول الطعام. كان يوماً في الشهر، بالنسبة لي هو أسعدُ الأيام، إذ أجري فيه إحماء روحي به، تلك الروح التي أجدبتها الحروب، وأصبحت تعومُ في بحيرةٍ من الخواء، لا سلوى لها سِوى المرقاب، غنائمي الهزيلة . ثم أقومُ بعدئذ، أي بعد انتهاء فاصل التنظيف والرقص، بمحاولةٍ لمسح صورة زوجتي من ذهني، من أجلِ أن تكون المعاشرة، التي كنتُ أجهد فيها وأعضُ النواجّذ ، بالرّغم من كِّل الإحماء والأستعداد والمراقبة الحميمية لعمليةِ التنظيف الرشيقة التي تستغرقُ أكثر من ساعتين، ولكنها زمنياً عندي أقل من ثانيتين، وبرغم كل ذلك كنتُ لا أستطيع، في أيِّ محاولةٍ، ألا الرجوع بذاكرتي إلى الأيامِ الصعبة ، ولا أدري لِمَ كنتُ أتذكَّر تلك الأيام التي أنفرد فيها مع نفسي، أعني أيام الحرب، كلما صَعِبَ علي إنهاء مشواري الجمالي وأنا أحتمي بما أخْتَزنَتُه ذاكرتي من مشاهدِ الرقصِ والخصرِ المحزم بالثوب الأحمر، ها أنذا، أَستذكرُ كلَّ ذلك، بعد أيةٍ محاولةٍ فاشلةٍ مع زوجتي الجميلة صغيرة السن، والتي تزوجتُها مؤخراً بعد سنواتٍ من وفاة أمّ أولادي، لذلك كان المرقابُ وغرفتي في الطابق الأعلى من البيت، كلَّ سعادتي، مما تَبقى من عمري الذي مضى في حقولِ الخراب، أمضي أيامي بهذه الغرفةُ التي رفضتُ رفضاً قاطعاً، كأي ضابط متقاعدْ عنيد، إن يسكُنَها وَلدي بقصدِ الزواج فيها، قلتُ له، أذهب تزوج هناك بالقربِ من إِخوتِك ، في بيِتِكم الكبير، وفي نفسي قلتُ لن افرَّط بالغرفةِ والمرقاب. ها أنذا أتطلعُ إلى السيدة صاحبة الخمار، وهي تتراقصُ أمامي بمفردِها، مع أنغامِ الموسيقى، لتنظف غرفتها من الغبار، وقد أمضيتُ وقتاً بالغ الجمال في تقمص سلوك الغبار وهو يلمس الجسد البض حينما يدخلُ في أيٍّ مكانٍ يعُجبه، ولم يحزنُني استحالة وصولي إليها أثناء المتابعةِ والمراقبةِ الدقيقة لكِّل التقاطيع التي أشتَهْيها، إذ يكفي، أنني أختزِنُ صورَ الجمالِ في روحي، من أجلِ لحظات، أُنهي فيها عذابي الذي يبدو أنه لا ينتهي أبداً، وها هي الجميلةُ صاحبة الشال تغلق النافذة، ومرقابي المخبأ وراء الستارة لن تستطيع رؤيته.
ثمة من في الشققِ ،ِ التي لا أُحبّذ مراقبتها كثيراً ، تلك الشقة التي تسكنُها امرأةٍ تبدو في الخمسين من العمرِ، تجلسُ أمام صورة رجلٍ معلقة على الجدار، وبين ساعةٍ وأخرى، تمسحُ خديها. وكانت ثمة شقةٌ بجانِبها، لشابيَّن لا أودُ التطلّع إليهما، رغم أني قررت معرفة كُنههما اليوم ، كانا مثلي كما يبدوان ، يراقبان البيوت والشقق ولكنهما كثيراً ما يتطلعان إلى بيتي، خصوصاً في الاتجاه الذي يُؤدي إلى الباب الخارجي، لا أعرفُ لماذا ينظران هكذا باتجاه بيتي، رغم أني أُشدّد على أن زوجتي لا تَخرج إطلاقاً ، كي تكونَ طُعْماً لنظراتِ هذين المراهقيَن. إنهُما يراقبان لمدة ساعة بالتمام والكمال، ثم ينصرفان إلى لعب الكومبيوتر اللذين وجدتُهما يتخاصمان حوله فيما بينهما.
هناك شقة أسفل الشقق لعائلةٍ كبيرة، يبدو أن عدد أفرادها أكثرُ من عشرةٍ ، تشجعني مراقبتهم وتُثيرني لكي أضحك كثيراً - أنهيتُ حياتي في الخدمةِ وأنا لا أضحك إلا قليلا - إذ أرى في الليل كيف يسعى الأب لإخمادِ صغارهِ، رافعا نعاله بغضب، لكي يناموا في غرفةٍ واحدةٍ جميعاً، بينما يذهبُ هو وامرأتُه إلى الحمام، وللأسف، لا أستطيع مشاهدة ما يحصل في الحمام الليلي، لأن المصباح يكون مطفأ ، وبالتالي أنتهاء فاصل الضحك عند هذه الفقرة .
قلتُ في بداية قصتي إنني قررتُ هذا اليوم مراقبة شقة هذين الشابين المراهقين، لماذا يحدقان عند زمنٍ معينٍ من الصباح، ما بين العاشرة والحادية عشرة، أي في أشد لحظات انغماري بالمراقبة ، يصوبان أنظارهما إلى بيتي، وبالذات بابهِ الخارجي، إذ يجب أن أعرف ، ولابد أن أستعد لذلك، ففي الساعةِ العاشرةِ صباحاً، تأتي عجلةُ القمامة لتلمُها من البيوت والشقق، وفي تلك الإثناء يخرجُ هذان الشبان للمراقبة، وغالباً ما تقف تلك العجلة بالقرب من باب بيتي، ليأتي أهل الزقاق يتوافدون، يرمون أزبالهم فيها .
راقبتُهما جيداً ، كانت بالفعل أبصارهما لا تُرْفَعْ عن بابِ البيت، وفي ذلك الوقت كان سائقُ عجلة القمامة يختفي عن الأنظار، لا أحد يعلم أين يذهب ! يمضي ساعة من الزمن ، كأنما الأرض أبتلعتهُ ، ثم يأتي مسرعاً، فيشغل محركها لتنطلق السيارة وهي تحمل قمامة أهل الشارع ، عندئذ يكون الشابان قد دخلا الى شقتهِما وهُما يتَضاحكان ببلاهةٍ ، وربما يتخاصمان أيضا. وفي الحقيقة لا شيء مثيراً ينظران إليه ، فقلتُ في نفسي يا لبُؤسِهِما .