أحكمت ربطه إلى شجرة التين العتيقة الواقعة في ساحة البيت الكبير. كنت قد قيّدت يديه وقدميه أولاً ثم أوقفته ملاصقاً للشجرة وحزمته حزماً مع شجرة التين بحبل طويل متين حتى أيقنت أنه من المستحيل أن يفك وثاقه أو يتخلص من قيده المحكم. لقد سارت الأمور وفق خطتي بدقة متناهية، فقد اغتنمت فرصة خلو البيت من أي فرد من أفراد الأسرة، ثم غافلت أخي ونحن نشرب القهوة في الساحة بضربه مفاجئة على رأسه جعلته يترنح ويفقد قواه ثم سارعت إلى ربطه بالشجرة ولف الحبل حول جسده بقوة وحقد.
لم ينطق أخي بأية كلمة حتى بعد أن أفاق من غيبوبته ورأى ما رأى من مشهد مأساوي غريب محير مفاجىء. نظر إلي صامتاً، لم يقل شيئاً، عيناه تحدقان بي… لم يكن غاضباً ولم يكن مبتسماً أيضاً… أنه ينظر نحوي بتركيز وصمت بعينين متجمدتين مفتوحتين كانهما تراقبان كسوف الشمس أو خسوف القمر.
ولم انطق أنا بأية كلمة كذلك… وانتظرت فلم يتكلم… لم يسأل ولم يغضب ولم يصرخ ولم يعاتب… لم يفعل شيئاً… ظل منتظراً المشهد التالي… مراقباً ما سأفعله بعد ذلك. وكان ما سأفعله مرسوماً ومدروساً من قبل. فقد مضيت إلى المطبخ وأحضرت سكيناً حادة وعدت إلى أخي المأسور المتجمد… اقتربت منه ببطء ثم وضعت نصل السكين اللامع فوق رسغ يده اليسرى وقطعت بقوة وعصبية وسرعة شريان الحياة في يده… فتدفق الدم غزيراً ساخناً فوق السكين وعلى يدي وملابسي ووجهي ثم سال على جسده وملابسه وعلى الحبال والشجرة والأرض.
صعقت ثانية حين لم ينطق أخي بشيء… ولم يتأوه ولم يتحرك ولم يحول عينيه عن عينيّ… ظل متجمداً كما كان… صامتاً كما كان… والدماء تنزف من شريانه كأن شيئاً لم يكن. كنت قد سمعت أكثر من طبيب في الماضي يقول، بصدد الحديث عن حالات الانتحار بقطع الشريان، أن المنتحر يعيش من 10 إلى 15 دقيقة قبل أن “يتصفى” دمه وينزف حتى يموت. وكان علي أن انتظر مثل هذه المدة حتى أتأكد من أن دم أخي قد نزف كله وانه قد فارق الحياة أو أن الحياة قد فارقته. جلست قريباً من أخي على مقعد خشبي مريح انتظر النهاية، كان ينزف طوال الوقت ولكنه لم يتحرك أو يتألم. تمددت على المقعد وأرسلت بصري إلى السماء وتراءت لي صور وخيالات كثيرة وأطلقت العنان لذهني يرحل في عوالم بعيدة غريبة حتى ينقضي الوقت المحدد وتأتي النهاية المنتظرة. وعدت أكثر من ثلاثين عاماً إلى الوراء واستعرضت حياتنا معاً، أخي وأنا، مرت بخاطري صور الطفولة والشباب والرجولة… كنا نعم الأخوين في الشدة والرخاء، في الحزن والفرح وفي الفشل والنجاح. كنا نتقاسم كل شيء: الطعام والشراب والمحبة في السراء والضراء… حتى حين توفي والدنا تقاسمنا الميراث والسمعة الطيبة وأواصر الاخوة المتينة… لم يعكر صفونا شيء ولم يفرّق بيننا شيء. وبعد أن عصفت بنا العواصف في الأيام الماضية وأصابنا ما أصاب الناس جميعاً في هذا الزمان واختلطت الأحداث والمصالح والطرق… دب الخلاف فيما بيننا وتفاقمت الصعاب وانقلبت الموازين وتخبطت الرؤى واختلطت الأوراق وضاع منا الطريق ولم نعد نعرف أين نمضي ولا ماذا نريد… من نحن… ومن الآخرون… وبدا الأمر كأنه لا حياة لأحدنا إلا بموت الآخر ولا وجود لأحدنا إلا باختفاء الآخر وان المكان لا يتسع إلا لواحد منا فقط… واحد فقط. وكنت سباقاً في اتخاذ القرار… فعزمت أمري على التخلص من أخي، فإما أن أكون أنا أو يكون أخي، والمرء أولى بنفسه والإنسان أناني بطبعه. وها أنا ذا الآن اكسب الحياة لأنه خسرها، ويتسع لي المكان لأنه رحل عنه وأمضى في الطريق دون توقف لأنه اختفى منه.
وعدت من شرودي وخيالاتي وصوري، ونظرت إلى أخي النازف فوجدته قد سكن سكوناً نهائياً وتدلت رقبته ورأسه وخارت قواه تماماً وتوقف النزيف نهائياً فأدركت أنه قد فارق الحياة. قمت إليه واقتربت منه وتفحصت جسده فكان بارداً ساكناً كجثة لا حياة فيها. وتابعت خطتي كما رسمتها، فكسرت أبواب البيت وشبابيكه وخزائنه وإدراجه ومخابئه ثم خرجت صارخاً بالناس أن مجهولين قد اقتحموا البيت وسرقوه وحطموه وقتلوا أخي… واتصلت بالشرطة والإسعاف… وعدت إلى البيت راكضاً كالمجنون يتبعني جمهور غفير من الناس الذين هبوا للمساعدة أو الاستطلاع… ووقفنا جميعاً ذاهلين أمام المشهد المأساوي البشع… ثم هجمت على جثة أخي وتناولت السكين الملقاة أمامه ورحت اقطّع الحبال التي تلف جسده مع شجرة التين وحين أردت تقطيع الحبال عن يديه وقدميه وجدتها متقطعة مفكوكة فدهشت… عند ذلك كان رجال الشرطة والإسعاف قد وصلوا المكان… فتوقفت وأفسحت المجال لهم للقيام بإجراءاتهم ومعاينتهم للحادث. وبعد أن تمّت الإجراءات الأولية وحمل المسعفون جثة أخي إلى سيارتهم، قمت بمرافقتهم إلى المستشفى وإلى قسم الشرطة. إصرّ غريب على مرافقتنا قائلاً أنه شاهد عيان وأن لديه معلومات عن الجناة فذعرت وتلعثمت بينما سمح له الضابط بالحضور معنا لتقديم شهادته. ركب إلى جانبي وفي الطريق سألته: من أنت؟ ومن الجناة، وكيف فعلوا كل ذلك… فقاطعني قائلاً: لماذا قتلت أخاك؟… صعقت من السؤال، وكدت اصفعه على وجهه ولكني صرخت به: ماذا تقول؟ قال: هذا ليس مهماً، المهم إني أريد شيئاً واحداً من هذه الحكاية كلها وهو: لماذا كان أخوك مصراً على الموت. فقد كنت أراقبك من مكان قريب وأنت تربطه وتقيد يديه ورجليه بعد أن ضربته على رأسه. وحين دخلت أنت لإحضار السكين سارعت أنا إليه وفككت يديه وقدميه وكان واعياً مستيقظاً وقلت له عليه أن ينجو بنفسه وعلي أن ألوذ بالفرار قبل أن تراني فتقتلني لتخفي الجريمة. لكن أخاك لم يتحرك وتظاهر أنه ما زال مربوطاً وتركك تقطع شريان يديه ولم يتحرك حتى وهو ينزف ولم ينقذ نفسه ولم يتحرك… وأصر على الموت، فلماذا كان يريد أن يموت وبإمكانه أن يعيش، هذا هو السؤال الذي يحيرني.
كانت دهشتي مما اسمع لا حدّ لها، ونسيت كل شيء إلا أنه كان طليق اليدين والقدمين ولم ينقذ نفسه أو يقاوم ما فعلته به. هل كان الأمر كذلك حقاً… هل تركني اقتله دون مقاومة… لماذا… وكيف يحدث ذلك… هل أعجزته الصدمة عن فعل أي شيء… هل فضّل الموت على العيش في زمن كهذا… هل مات لأنه تجنب مواجهة أخيه… كيف ظل صامتاً متجمداً نازفاً حتى الموت، هذا فوق طاقة فهم البشر… لماذا فعل ذلك… وهل يمكن أن يفعل ذلك… وبقيت أثرثر بكلام لا معنى له حتى قاطعني الرجل الغريب وقال: قد أغير شهادتي لو أكرمتني بمبلغ من المال. قلت وأنا لا اصدق ما يقوله: كل ما املك تحت تصرفك من الآن.
لم ينطق أخي بأية كلمة حتى بعد أن أفاق من غيبوبته ورأى ما رأى من مشهد مأساوي غريب محير مفاجىء. نظر إلي صامتاً، لم يقل شيئاً، عيناه تحدقان بي… لم يكن غاضباً ولم يكن مبتسماً أيضاً… أنه ينظر نحوي بتركيز وصمت بعينين متجمدتين مفتوحتين كانهما تراقبان كسوف الشمس أو خسوف القمر.
ولم انطق أنا بأية كلمة كذلك… وانتظرت فلم يتكلم… لم يسأل ولم يغضب ولم يصرخ ولم يعاتب… لم يفعل شيئاً… ظل منتظراً المشهد التالي… مراقباً ما سأفعله بعد ذلك. وكان ما سأفعله مرسوماً ومدروساً من قبل. فقد مضيت إلى المطبخ وأحضرت سكيناً حادة وعدت إلى أخي المأسور المتجمد… اقتربت منه ببطء ثم وضعت نصل السكين اللامع فوق رسغ يده اليسرى وقطعت بقوة وعصبية وسرعة شريان الحياة في يده… فتدفق الدم غزيراً ساخناً فوق السكين وعلى يدي وملابسي ووجهي ثم سال على جسده وملابسه وعلى الحبال والشجرة والأرض.
صعقت ثانية حين لم ينطق أخي بشيء… ولم يتأوه ولم يتحرك ولم يحول عينيه عن عينيّ… ظل متجمداً كما كان… صامتاً كما كان… والدماء تنزف من شريانه كأن شيئاً لم يكن. كنت قد سمعت أكثر من طبيب في الماضي يقول، بصدد الحديث عن حالات الانتحار بقطع الشريان، أن المنتحر يعيش من 10 إلى 15 دقيقة قبل أن “يتصفى” دمه وينزف حتى يموت. وكان علي أن انتظر مثل هذه المدة حتى أتأكد من أن دم أخي قد نزف كله وانه قد فارق الحياة أو أن الحياة قد فارقته. جلست قريباً من أخي على مقعد خشبي مريح انتظر النهاية، كان ينزف طوال الوقت ولكنه لم يتحرك أو يتألم. تمددت على المقعد وأرسلت بصري إلى السماء وتراءت لي صور وخيالات كثيرة وأطلقت العنان لذهني يرحل في عوالم بعيدة غريبة حتى ينقضي الوقت المحدد وتأتي النهاية المنتظرة. وعدت أكثر من ثلاثين عاماً إلى الوراء واستعرضت حياتنا معاً، أخي وأنا، مرت بخاطري صور الطفولة والشباب والرجولة… كنا نعم الأخوين في الشدة والرخاء، في الحزن والفرح وفي الفشل والنجاح. كنا نتقاسم كل شيء: الطعام والشراب والمحبة في السراء والضراء… حتى حين توفي والدنا تقاسمنا الميراث والسمعة الطيبة وأواصر الاخوة المتينة… لم يعكر صفونا شيء ولم يفرّق بيننا شيء. وبعد أن عصفت بنا العواصف في الأيام الماضية وأصابنا ما أصاب الناس جميعاً في هذا الزمان واختلطت الأحداث والمصالح والطرق… دب الخلاف فيما بيننا وتفاقمت الصعاب وانقلبت الموازين وتخبطت الرؤى واختلطت الأوراق وضاع منا الطريق ولم نعد نعرف أين نمضي ولا ماذا نريد… من نحن… ومن الآخرون… وبدا الأمر كأنه لا حياة لأحدنا إلا بموت الآخر ولا وجود لأحدنا إلا باختفاء الآخر وان المكان لا يتسع إلا لواحد منا فقط… واحد فقط. وكنت سباقاً في اتخاذ القرار… فعزمت أمري على التخلص من أخي، فإما أن أكون أنا أو يكون أخي، والمرء أولى بنفسه والإنسان أناني بطبعه. وها أنا ذا الآن اكسب الحياة لأنه خسرها، ويتسع لي المكان لأنه رحل عنه وأمضى في الطريق دون توقف لأنه اختفى منه.
وعدت من شرودي وخيالاتي وصوري، ونظرت إلى أخي النازف فوجدته قد سكن سكوناً نهائياً وتدلت رقبته ورأسه وخارت قواه تماماً وتوقف النزيف نهائياً فأدركت أنه قد فارق الحياة. قمت إليه واقتربت منه وتفحصت جسده فكان بارداً ساكناً كجثة لا حياة فيها. وتابعت خطتي كما رسمتها، فكسرت أبواب البيت وشبابيكه وخزائنه وإدراجه ومخابئه ثم خرجت صارخاً بالناس أن مجهولين قد اقتحموا البيت وسرقوه وحطموه وقتلوا أخي… واتصلت بالشرطة والإسعاف… وعدت إلى البيت راكضاً كالمجنون يتبعني جمهور غفير من الناس الذين هبوا للمساعدة أو الاستطلاع… ووقفنا جميعاً ذاهلين أمام المشهد المأساوي البشع… ثم هجمت على جثة أخي وتناولت السكين الملقاة أمامه ورحت اقطّع الحبال التي تلف جسده مع شجرة التين وحين أردت تقطيع الحبال عن يديه وقدميه وجدتها متقطعة مفكوكة فدهشت… عند ذلك كان رجال الشرطة والإسعاف قد وصلوا المكان… فتوقفت وأفسحت المجال لهم للقيام بإجراءاتهم ومعاينتهم للحادث. وبعد أن تمّت الإجراءات الأولية وحمل المسعفون جثة أخي إلى سيارتهم، قمت بمرافقتهم إلى المستشفى وإلى قسم الشرطة. إصرّ غريب على مرافقتنا قائلاً أنه شاهد عيان وأن لديه معلومات عن الجناة فذعرت وتلعثمت بينما سمح له الضابط بالحضور معنا لتقديم شهادته. ركب إلى جانبي وفي الطريق سألته: من أنت؟ ومن الجناة، وكيف فعلوا كل ذلك… فقاطعني قائلاً: لماذا قتلت أخاك؟… صعقت من السؤال، وكدت اصفعه على وجهه ولكني صرخت به: ماذا تقول؟ قال: هذا ليس مهماً، المهم إني أريد شيئاً واحداً من هذه الحكاية كلها وهو: لماذا كان أخوك مصراً على الموت. فقد كنت أراقبك من مكان قريب وأنت تربطه وتقيد يديه ورجليه بعد أن ضربته على رأسه. وحين دخلت أنت لإحضار السكين سارعت أنا إليه وفككت يديه وقدميه وكان واعياً مستيقظاً وقلت له عليه أن ينجو بنفسه وعلي أن ألوذ بالفرار قبل أن تراني فتقتلني لتخفي الجريمة. لكن أخاك لم يتحرك وتظاهر أنه ما زال مربوطاً وتركك تقطع شريان يديه ولم يتحرك حتى وهو ينزف ولم ينقذ نفسه ولم يتحرك… وأصر على الموت، فلماذا كان يريد أن يموت وبإمكانه أن يعيش، هذا هو السؤال الذي يحيرني.
كانت دهشتي مما اسمع لا حدّ لها، ونسيت كل شيء إلا أنه كان طليق اليدين والقدمين ولم ينقذ نفسه أو يقاوم ما فعلته به. هل كان الأمر كذلك حقاً… هل تركني اقتله دون مقاومة… لماذا… وكيف يحدث ذلك… هل أعجزته الصدمة عن فعل أي شيء… هل فضّل الموت على العيش في زمن كهذا… هل مات لأنه تجنب مواجهة أخيه… كيف ظل صامتاً متجمداً نازفاً حتى الموت، هذا فوق طاقة فهم البشر… لماذا فعل ذلك… وهل يمكن أن يفعل ذلك… وبقيت أثرثر بكلام لا معنى له حتى قاطعني الرجل الغريب وقال: قد أغير شهادتي لو أكرمتني بمبلغ من المال. قلت وأنا لا اصدق ما يقوله: كل ما املك تحت تصرفك من الآن.