عبدالله البقالي - الملك و العالم و الجمل.. من التراث الشعبي

تقلد ملك منصب الحكم خلفا لأبيه. و بقدر ما كان الأول صاحب فطنة و دراية و اتزان، بقدر ما كان الثاني ميالا للمتعة و الأسفار و جمع المال. و كان نتيجة لذلك أن احاط نفسه بزمرة من الفاسدين الطماعين. غير أن عامة الناس ظلت تنظر للمنصب بنوع من القداسة، معتقدة أن الملك لا يرث الملك وحده، بل ما يرافق ذلك من جوهر و طقوس متصلة بالرفعة و السمو. و لهذا كانت تبالغ في تأدبها حين تتقدم إلى مجلسه. و لا تتفوه إلا بجميل الكلام، و أرفع الحكم. غير مدركة أن ذلك ماض انتهى. و أن الأحوال تبدلت ، و لم يعد أعز لدى الملك من أحاديث التسلية و المرح. إلا أن الملك بفعل واقع الحال، كان مجبرا على مجاراة المتحدثين، متمظهرا بالشكل الذي يتصورونه عنه.
لاحظ الملك بفعل توالي المخاطبين في جل الجلسات أن اسم عالم كان يتردد كثيرا على لسان المتحدثين، حتى تحول إلى ما يشبه رمز أشعره بالإنقباض و الضيق. وهو الذي نصح وهيئ في تنشئته على الا يكون في المملكة رمزا غيره. و لذلك انتابه الخوف و الغيرة من تلك المكانة التي يحتلها ذلك العالم في عقول و قلوب الناس. و لهذا اعتبر أن في اللوحة خطأ ما يجب أن يصلح.
أمر الملك بإحضار العالم الذائع الصيت. و حين مثل أمامه، أبلغه سعادته بكون مملكته فيها رجالات و علماء من طينته. علماء تجري أفكارهم على كل الألسن. و قد اعتبر نفسه محظوظا لكون الله ساقه إليه من أجل إنجاز مشروع حقبته.
انحنى العالم مبديا سعادته و استعداده للإنخراط في المشروع. وهو ما جعل الملك يعبر عن فرحه بتجاوب العالم. ثم قال الملك للعالم: أما الليلة فأنت ضيفي. و يتوجب أن تنال الإكرام و التشريف الذي تستحقه. و في الغد ، سنتحدث في تفاصيل الموضوع.
لم يلمس العالم إلا القليل مما حوته مائدة العشاء. و ربما لم ينم الليل كله بسبب ما انتابته من هواجس. ما رآه من ندماء و بطانة الملك أشعره أن تلك التربة لا يمكن أن تنتج نتاجا طيبا. غير أنه كان يعود ليلوم نفسه، ثم يعود ليتأرجح بين مكانة المصدق و المفند لما كان يتهيأ في باله.
هو ليس برجل من عامة الناس كي تنطلي عليه الخدع و يغالطه البادي من الأشياء. و ما رآه في ذلك الوقت القصير الذي قضاه بجوار الملك، كان كافيا كي يستنتج أنه أمام رجل فاسد. لكنه كان يعود من جديد ليؤنب نفسه، و يعتبر أن كل ما خطر بذهنه هي مجرد ظنون. وهو ليس بالرجل الذي يحتكم إلى الظن. و في النهاية، كم من ظال تاب. و مفسد أصلحه الله. و المشروع الذي سيكلف به قد يكون الخطوة الأولى في هذا المسعى. فلم لا يكون صلاح الحاكم على يديه؟
كان المجلس غاصا بالمستشارين حين نودي على العالم. وهو يتقدم للمثول أمام الملك، اختلس نظرة لوجوه الحاضرين. و استطاع أن يلمح مغالبتهم لما يشبه ضحكات.
قال الملك للعالم: أنا في رهان مع حاشيتي حول أمر هام.
أجاب العالم: هل يعنيني الأمر؟
ضحك الملك و قال: أنت من سيجعلني الكاسب أو الخاسر.
فغر العالم فاه و قال باندهاش: أنا ؟
صفق الملك و فتح الباب ليلوح جمل صخم في الممر، ثم قال الملك للعالم: هو ذا موضوع الرهان. وزرائي و حاشيتي يجزمون أن هذا الجمل من المستحيل أن يتعلم القراءة و الكتابة. و أنا أؤكد العكس. و خسارتي لهذا الرهان ستكلفني الكثير.
قال العالم غير مدرك لما هو فيه: و أنا ، ماذا يهمني من هذا الأمر؟
أجاب الملك: أنت من سيجعلني أكسب أو أخسر. و أنا أثق فيما تحمله من علم و دراية. و أنت أمام أمرين. الأول هو أن تنجح و لك بعدها ما تشاء. و أما أن تفشل و بعدها أنت تعرف العاقبة.
تسلم العالم خطام الجمل، و هرع مغادرا دون أن يعرف إلى أين.
لم يكن العالم يفكر في شئ محدد. بل لم يكن يعرف من الأولى بانشغاله. يفكر في محنته أم في الملك أم في الجمل. لكن لحظة صفو انتابته استطاع بعدها أن يدرك أن الوعي في زمن الجهالة عذاب. و الطيبوبة في زمن الفتنة تهلكة. و الاستنارة في زمن الكسوف تهمة.
عموم الناس كانوا مختلفين فيما وقع. منخرطين في نقاشات حادة . منقسمين لصالح من سيحسب الإنجاز. للملك الذي أبدع المشروع، أم للعالم الذي وظف قدراته لتحقيق ذلك. غير مهتمين بالمرة لما سيؤول إليه حال العالم و الجمل اللذين نسيا أمرهما مع الزمن.
كان الملك في رحلة صيد في إحدى الغابات البعيدة من أرجاء مملكته حين التقط هو و مرافقوه صوتا متقطعا كان يتعالى من مكان ما. توقفوا جميعا محاولين رصد مصدر الصوت. ثم اتجهوا صوبه. و بعدها رأوا رجلا عحوزا ذا لحية بيضاء طويلة، ثياب رثة ممزقة.لا حظوا أنه كان يمعن النظر في الجمل و يصرخ فيه قائلا: أيها العاق. إقرأ. إما و أما و إما.
قال الملك مازحا للعالم: أي درس هذا؟ و ما حكاية هذه " إما" ألها حكاية شبيهة ب" حتى " ؟
بدا الضجر و السخط على العالم، و قال للملك: ترغب حقا بمعرفة ذلك؟
قال الملك : نعم.
أجاب العالم: أنت وضعتني أمام خيارين. إما أن يتعلم الجمل و تكرمني علما أني لم اطلب منك أي شئ . و إما أن أفشل و تقطع رأسي.
قال الملك: و "إما" الثالثة؟
قال العالم وهو لم يعد مكترثا بأي شئ يمكن أن يحصل: أنا مع الزمن اكتشفت خيارا ثالثا لم تنتبه أنت إليه.
قال الملك: ما هو ؟
أجاب العالم: أن يزهق الله روحك و أرتاح أنا و هذا الجمل.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى