إدريس على بابكر - (عرقي) غير مغشوش.. قصة قصيرة

هربت من جحيم الحرب اللعينة مع بنتها الصغرى تركت كل شيء خلفها، الأرض المحروقة ، الحيوانات الأليفة و كل مغتنياتها، لم تحمل معاها غير ذكرى سوداء مرعبة سطر في كتاب الموت الغادر، على صفحات من الدم و الدموع، قاومت الحياة و المتاريس استقر بها الحال مجبورة خلف المدينة في رواكيب صغيرة تستظلي بها من هجير الشمس و بعض الأمان.
بدأت رحلة الحياة المجهولة لتسد رمق العيش، جرفتها الظروف القاسية إلى هذا الطريق الشائك، إنسانة ودودة بسيطة في دواخلها الطيبة و النقاء لا تفارقها الابتسامة و الكلام الجميل بلكنتها المكسرة، فقدت زوجها و أولادها بفعل الحرب الأهلية فامتهنت هذه المهنة للكسب، الحاجة (توتو) خبرة في صناعة الخمور البلدية، هي لا تعرف للغش مسلكآ في حياتها و عملها لذا احبوها السكارى بإخلاص و احترام كبير، تجيد صناعة الخمور باجود أنواع بلح الشمال، سمعتها المهنية المميزة انتشرت و راجت داخل المدينة، حتى وجدت حماية من بعض الجنرالات السكارى، خمرتها اللذيذة (تطش الشبكة) لا مجال هنا للمراهقين المغامرين، عبدالكريم وحيد والديه بعد أن توفيا ورث ثروة طائلة بيد يبددها في الفارغة و المقدودة بلا حساب، هو من أميز زبائن الحاجة (توتو،) حتى له جناح خاص جنب بجنب مع كبار المسؤولين و المثقفين، دخل عبدالكريم هذا العالم من الباب الضيق، عندما كان يافعآ رفيق كبير المداومين خاله جمعة (رحمة الله عليه)، ذاقها مرة ثم مرتين فانجرف مع التيار لم يستطيع الفكاك منها، عثمان شاب ضاقت به سبل الحياة لم يستطع أن يتحمل ألسنة الفقر المحرقة، نفد منه الصبر فقرر الهروب من الواقع الأليم، أصبح الوفد المرافق لعبدالكريم نديده وإبن الحي و زميل الدراسة، يأكل و يشرب من جيب صديقه و يحل له مشاكله الأسرية التى لا تنتهي، عبدالكريم له صوت جميل عذب دائمآ يغني أغنيته المحببة إلى نفسه (غدر الزمن) ، حين يصدح بها تشد المارة و يجبرهم على الإستماع.
شغل القليب بالشوق على زولآ بحن
طبع الفراق الجوي إحساسي الدفين صورة شجن
غدر الزمن مسح الأحاسيس النبيلة و بدلا
عشرة سنين ممزوجة بأحرف وفاء ما اجملا
سلوى قصائد شاعر و زاد و بقى الصبر
أعمل شنو؟ كل الحصل بينا ما نفذ القدر... الخ
يعتبر ما ال إليه هو قدر مكتوب و مسطر، هو نحيل طويل القامة مع سيقان منفرجان أشبه بالبرجل لا يستطيع أن يضبط توازنه، لكن الشخصية الصامتة يتحول إلى إنسان مرح يطلق القفشات و الضحكات العميقة و الغناء الجميل عندما يكون مخمورآ، عكس صديقه عثمان القصير صاحب الرأس الضخم يتحول إلى شخصية عدوانية يخلق من الحبة قبة، ياما تعبت شقاء السنين زوجته بنت عمه الريفية من تصرفاته العدوانية.
انقشع الصباح بعد ليل ممطر، خرج عبدالكريم من منزله إلى الدكان ليتناول علبة سجائر، رأي من بعيد جموع غفير سمع أصوات عويل و بكاء، ذهب عبدالكريم بخطوات متزنة ليعرف ماذا حدث في الحي بالضبط؟، مفاجأة لم يخطر في باله قط انتحار صديقه و رفيق دربه عثمان، الذي فارقه ليلة أمس بعد الرجوع من جلسة احتساء عند الحاجة (توتو)، وجدوه شانقآ نفسه داخل غرفة الطين، بكى عبدالكريم بشدة كما لم يبك من قبل، فهو يعرف عثمان جيدآ رغم فقره الشديد يحب الحياة كثيراً ماذا حصل له بالضبط؟، جار عثمان حكي له القصة من الألف إلى الياء، في تلك الليلة أتى عثمان مخمورآ نام نومة خفيفة، بعد ساعة تقريباً ايقظته شهوته الجنسية، قام ليأخذ حقه الشرعي من زوجته، هو على حسب السكرة يأخذها عنوة من غير استلطاف كالعادة، هجم على السرير كالوحش الجائع ليأخذ الشيء دون رضاها، المفاجأة التي لم تكن في الحسبان التي كانت نائمة في فراش زوجته هي إبنته المراهقة، دخل معاها في صراع و لكن لم يمسها بالسوء مجرد ما اكتشف الفعل القبيح أغلق نفسه على غرفته يبكي بحرقة، فوجدوه منتحراً شانقآ نفسه أول الصباح، عبدالكريم لم يخبر أحد إن عثمان كان معه حتى آخر لحظة كتمها سرآ بينه وبين نفسه.،لكن الرحيل المر فتح له باب التوبة من غير رجعة.
توالت الأيام بفضل صوته العذب أصبح عبدالكريم مؤذنآ في مسجد الحي ينادي إلى الصلاة و إلى الفلاح، سنين عبدالكريم في خط الاستقامة دون أدنى زحزحة أو شخشخة ركل كل ملذات الدنيا، صار صوفي متقشف في محراب الله سافر حاجآ ليزور بيت الله الحرام، بالصدفة لمح وجه الحاجة (توتو) من بعيد يا إلهي إنها كبرت بعض الشيء، حاول جاهدآ أن يصل إليها لكنها ضاعت وسط الخلق.

(تمت)

إدريس على بابكر




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى