محمد بودويك - الفـاعلية التنـاصية

التناص كمفهوم إجرائي، أداة من الأدوات النقدية الرئيسة في الدراسات الأدبية المعاصرة، يتغيا الكشف عن النصوص المستدعاة إلى المتناص لجهة البرهنة على الغنى والثراء المعرفي، ولجهة الوقوف على كيفية اشتغال النصوص المتفاعلة المتداخلة وهي تبني المعنى، وتعمق الدلالة. إنه البحث اللذيذ عن مصادر النص، وعن وسائل التوظيف والاستشهاد، أو ما يسمى بالتضمين أو استخدام التنصيص الذي هو طريقة من طرائق ربط نص بنص آخر، وإدماجه في سياقه. نستبعد، إذن، السرقة من مجال اهتمامنا في هذا الخصوص، لأن المقارنة بينهما: (السرقة والتناص كمفهومين)، تدفعنا إلى ذلك. يرى د. خليل الموسى أن هناك ثلاثة فروق أساسية بينهما:
– أولا: على مستوى المنهج : فالسرقة تعتمد المنهج التاريخي التأثري والسبق الزمني، فاللاحق هو السارق، والأصل الأول هو المبدع والنموذج الأجود. بينما يعتمد التناص على المنهج الوظيفي، ولا يهتم كثيرا بالنص الغائب.
-ثانيا : على مستوى القيمة : فناقد السرقة الأدبية إنما يسعى لاستنكار عمل السارق وإدانته، في حين أن ناقد التناص يقصد إظهار البعد الإبداعي في الإنتاج.
– ثالثا: على مستوى القصدية : ففي السرقة، تكون العملية قصدية واعية بينما في التناص تكون لا واعية !! [طبعا ليس ذلك صحيحا دائما- تعليقنا] (1).
لقد أجمل «لورون جيني Laurent Jenny» «العلاقات التي تربط النص بنماذجه الأولى في التحقيق والتحويل والخرق (2)، واعتبر أن كل نص هو فضاء لنصوص قديمة أو مزامنة، فضاء لتعالقاتها، وتداخلاتها وتفاعلاتها، والذات الكاتبة فيه تَتَبَدَّى قارئة ومنتجة، ممتصة ومحاورة عبر التعضيد أو التقويض. ولا مجال للزوج الميتافيزيقي: نموذج / نسخة. هكذا نُظِرَ إلى التناص بحسبانه أداة إجرائية استبارية عليها أن تعمل لا على الكشف السعيد عن النصوص الأصول فقط، وإنما الكشف عن كيفية اشتغال تلك النصوص داخل النص الذي استضافها: ولعلنا لا نضيف جديدا إذا قلنا بأن التناص قَوَّضَ خرافة انغلاقية النص الذي قالت به البنيوية في أوج اشتعالها، وأعاد إلى النص حقيقة كونه حصيلة بهية لفسيفساء نصية، وأصوات قادمة من ثقافات غنية ومتعددة.
وإذا كان مفهوم التناص يعود إلى جماعة «تِلْ كِلْ Tel quel»- الفرنسية-، ونحت المصطلح إلى الناقدة واللسانية وعالمة النفس المتميزة «جوليا كريستيفا»، فإن حمولته المفهومية والمعرفية ترتد إلى «بَاخْتِينْ» من خلال مصطلحه الذائع: «الحوارية: Le Dialogisme، لأنه أول من زعزع مفهوم المحايثة، ومفهوم انغلاق النص اللذين كرستهما الدراسات الأولى للشكلانيين الروس في رهانها على الداخل ــ نصي، وإهمالها لخارجه.
(إن التداخل النصي: التناص) يعتبر خصيصة بنائية للنص ولدلاليته، بما يتيحه من تعالق، وانفتاح على نصوص قديمة أو معاصرة، تسهم في بناء الموضوع من خلال تفاعلها مع عناصر أخرى داخل النسيج النصي. وقد نما الوعي الإبداعي في العصر الحديث بأهمية هذه الحقيقة التي خبرها مبدعون من أجناس ولغات مختلفة، وَشَغَّلُوها في عملية البناء النصي والدلالي. ولعل هذا الوعي، وما صاحبه من تجريب أو تجسيد نصي، هو ما هيأ هذه الخصيصة لأن تصبح أداة إجرائية لقراءة النصوص». ذلك أن «طرق القراءة في كل عصر مُتَضمَّنة أيضا في طرق كتابته»(3).
صَاحَبَ مفهوم التناص عند بداية إطلاقه، تَعْميمٌ بيداغوجي تبسيطي، قَصَرَ التناص على الجانب العلائقي بين النصوص. بيد أن انتشار المصطلح، حث البعض على وجوب تسييجه بما يضفي عليه نوعا من الأجرأة العلمية. ومن ثمة، وقع التنصيص على الجمع بين البعد العلائقي في التناص والبعد التحويلي، من باب الحرص على أن إدخال نص في نص أو أكثر، يستهدف التعالق الدلالي، والانزياح الذي ينتج قيمة جديدة توسع من حدقات هذه الدلالة، وتسير بها إلى الأقاصي بالتكثير، أو بالتحويل، أو بالقلب. هذا البعض لم يكن غير «كريستيفا» نفسها، و»ميكائيل ريفاتير»، و»لوران جيني»، و»أنطوان كومبنيون»، و»جيرار جنيت» وآخرين. لَيْسَ من وَكْدِ الورقة أن تعرضَ لتصورات هؤلاء، وفتوحاتهم في مجال التناص، حسبها أن تختار جانبا من جوانب هذا المفهوم العريض والصعب.
تلتقي جهود «أنطوان كومبانيون : Antoine Compagnon»، بجهود ريفاتير، في اتجاه إعطاء قيمة أكثر للتناص باعتباره معطى رئيسا لتفسير الظاهرة الأدبية. ولكن هذا التقدير الواسع، يبقى محصورا في دراسة الأشكال الأكثر وضوحا للتناص «أي في كونه حضورا فعليا وحرفيا لنص في آخر» (4).
إن البناء التناصي يَتَشَيَّدُ من مجموع مدامك متراصة ومتعاضدة، تتمظهر من خلال التناص نفسه، (أي حضور فعلي لنص ما في نص آخر)، أو التوازي النصي: Paratextualité (وهي العلاقة التي ينشئها النص مع محيطه النصي المباشر (كالعنوان والعنوان الفرعي- العنوان الداخلي-ا لتصدير – الهامش.. إلخ.. إلخ). أو النصية الواصفة Metatextualité (علاقة التفسير التي تربط نصا بآخر) أو من خلال النصية المتفرعة: Hypertextualité-، أو النصية الجامعة: Architextualité، (وهي علاقة بَكْماءُ ضمنية أو مختصرة لها طابع تصنيفي خالص لنص ما في طبقته النوعية (5). وحتى لا يتشتت المتوخى – فقد اخترنا أن نستضيء بآراء «أنطوان كومبنيون» في مجال محدد داخل التناص العريض وهو النص الموازي، وبالتحديد متفرعاته من عناوين وتصديرات واستشهادات وهوامش. وسَيَبْرُزُ- في أثناء التفسير والتأويل، ما لهذا الجانب الخصيب من يد طُولَى على شعرية المتن.
من المعروف أن «كومبنيون» أصدر كتابا لامعا بعنوان: «اليد الثانية أو اشتغال الاستشهاد» « La seconde main ou le travail de la citation »، قدم فيه لأول مرة دراسة منهجية واسعة للاستشهاد بوصفه ممارسة تناصية، ترتيبا على ما قال به النقد الجديد من أن الاستشهاد يعتبر قانونا من قوانين التداخل النصي: (التناص). أما جيرار جنيت Genette، فقد اعتبره الشكل الصريح للتناص (6).
إن حضور الاستشهاد داخل المتناص، ينتج معرفة جديدة به، وبالنص الذي يخترقه، على الرغم من أنه إعادة دالة له. غير أن استحضار الذات الكاتبة له (لِطَيْف مِيشُونِيكْ تَلاَمُحُهُ هنا)، يتم وَفْقًا لحاجة تعبيرية أولا، ولبغية دلالية ثانيا. وفي أثناء ذلك يصير إلى معنى جديد… إلى اقتضاء آخر، استلزمته العلائق اللغوية، والمتخيل الشعري، والدال الإيقاعي، بما يسمح بالقول بالتحويل الجديد الذي مارسه على النص الحَالِّ به، ومورس عليه في ذات الوقت، بهذا المعنى، ينظر إلى الاستشهاد على أنه وجه من أوجه التناص.
فالاستشهاد مُنَاصِصٌ واضح، وهو غير السرقة. «أما الاستشهاد فهو اقْتراض حرفي واضح، والسرقة اقتراض حرفي غير واضح. والإحالة اقتراض واضح وغير حرفي، والتلميح اقتراض غير حرفي وغير واضح، في ما يقول: ب.م. دوبيازي (7).
وعطفا على ما قلناه، فالاستشهاد – بحسب «جون فرجر Jean Firges»، يعد أداة لتملك نص الآخر، وتحويله بواسطة وضعه في سياق جديد. بينما تقف العناوين بكل تسمياتها ومواقعها، وكذا التصديرات، في عمل أي مبدع كبير، كعناصر بانية و فاعلة في الدلالة العامة أو المقطعية للنص. وهي بذلك، تشتغل، إلى جانب مكونات أخرى وعلى رأسها الاستشهاد في أفق إنتاج معرفة جديدة منبثقة من بين صلب وترائب الذخيرة المعرفية الثاوية الخفية، والذات الكاتبة وهي توقع حضورها في المتناص محاورة باللزوم أو بالتعدي، نقصد الإنصات المتبادل والمتشابك الذي يتم بين النص الأصل والنصوص المستضافة، أو باعتمادها إضاءة أولى من أجل خرقها وبعثرتها، وتذويبها في نسيج النص.
فالتصديرات التي تستمد من ثقافات متباينة، منحدرة من مناخات روحية ومعرفية مختلفة، ليست حِلْيَةً أو زُخْرُفًا، أو تَعَالُما بأي حال. إنها –على العكس من ذلك- خلفيات نظرية وموجهات فنية وتقنية، تنهض –على وجازتها وكثافتها- بدور وصل العنوان بالنص، وتسهم –بالتالي- في تجسير العلاقة بينهما ما يجعل منها عنصرا بنائيا، ومكونا تشييديا. ولا يخفى أن «جيراز جِنِيتْ» يعتبر التصدير استشهادا أي مدخلا للقراءة، ومفتاحا للفهم، بحكم إسهامه في البناءين النصي والدلالي. علاوة على أن من وظائف التصدير: التوضيح والإضاءة، والتنصيص على اسم المؤلف بغرض إدماجه في السياق الثقافي العام. إنه (التصدير- l’épigraphe) بما هو استشهاد، بامتياز على حد تعبير «كومبنيون».
وللعنوان صولته بوصفه المستقطب والموزع، في آن معا، لبنية القصيدة ولدلالتها الفنية (8). ولأنه كذلك، فقد أسند له دور العنصر الموسوم سيميولوجيا في النص، ونقطة الضوء الاستعارية المكثفة لدلالات النص. سيقول «جَانْ كُوهِنْ» في سياق العنونة هذه، ما يشي بأهمية العنوان كعتبة لا يكون الدخول إلا منها: «القصيدة كون متعدد الأضلاع والأبواب، وما العنوان إلا الباب الأوحد لدخول البيت الرمزي (9).

إحـــالات :

1 – د. خليل الموسى : التناص والأجناسية في النص الشعري، نقلا عن عبد الستار جبر الأسدي: مجلة فكر ونقد، السنة الثالثة، العدد28، 2000، ص: 98.
2 – Laurent Jenny – Stratégie de la forme –in poétique N°27- p : 258-1976.
3 – خالد بلقاسم: أدونيس والخطاب الصوفي، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى، 2000، ص:24.
4 – ب.م دوبيازي : تعريب المختار حسني، نظرية التناص، مقال ضمن مجلة: فكر ونقد، السنة الثالثة، العدد 28، أبريل 2000، ص:117.
5 – ب.م- دوبيازي : مرجع سابق، ص: 118-119.
6 – انظر: Gérard Genette – Palinpsestes, coll.poétique, Seuil, Paris, 1982.
* انظر الدراسة التأسيسية لأنطوان هذا (اليد الثانية)، 1979، وفيها أعطى للإقتباس أهمية قصوى (La citation).
7 – ب.م. دوبيازي : تعريب : المختار حسني، مرجع سابق، ص : 120.
8 – عثمان بدري : وظيفة العنوان في الشعر العربي الحديث، المجلة العربية للعلوم الإنسانية، العدد 81، السنة 21، شتاء 2003، ص:11.
9 – جان كوهن : بنية اللغة الشعرية، ترجمة: محمد الولي، محمد العمري، دار توبقال، ص:108.

محمد بودويك


بتاريخ : 02/10/2020




  • Like
التفاعلات: فائد البكري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى