أمل الكردفاني - حرب القرية.. قصة

وجاء الخبر كالصاعقة..
كانت قبيلة المهندس عثمان الراصد تترقب وهي بين الأمل والقنوط، بعد أن أدخلوه غرفة الإنعاش. لحظات الترقب انتهت ككل شيء في عالم الفساد. ولولت النسوة، ووجم الرجال خارج المستشفى،كل القبيلة كانت قد انتقلت للعاصمة لمرافقة ابن العمدة الراصد، جاءوا بالناقلات وعلى ظهور الإبل، وسيراً على الأقدام، من قريتهم المرتمية على أطراف النهر، والتي تمنطقها الصحراء فيما وراء الماء، وكان المهندس عثمان قد تزوج قبل سنة واحدة فقط، وانتقل إلى العاصمة حيث عمله وأسرة زوجته، التي فقدته وهي حبلى في شهرها الرابع.
ثم ها هو يخرج جنازة أسدلت عليها اغطية المستشفى البيضاء، وطارت سيارة الإسعاف لتنقله إلى منزله، تتبعها السيارات وأهل قريته، وزوجته، في أمسية داكنة، ثم توقف السائق الماهر وقفة واحدة أمام الباب، ونزل منها وفتح الباب الخلفي، وبدأ الجميع في حمل الجثة إلى الغرفة التي أعدت لغسل الجثمان وتكفينه قبل دفنه. ثم سكنت الجثة وحيدة داخل الغرفة المظلمة. وبقى والده وهو يتلوا بعض الآيات من القرآن فوق راسه ثم خرج بعد حين.
أُغلقت الشوارع حول المنزل بالسيارات والجماهير، وأرسل العمدة الراصد فأتى ببضعة رجال شرطة لتنظيم الحشود، فهو كعمدة يعلم أن مثل تلك الحشود تقلق الحكومة دائماً. وقد تربك السلام الأمني. كما قام بتجهيز سيارة لنقل الجثمان إلى القرية، وتجهيز القبر داخل المسجد الذي يضم رفاة والده وجديه، غير أن زوجة عثمان أرسلت والدها وأشقائها وأعمامها مطالبة بدفن عثمان في مقابر الحي بالعاصمة. غيرأان العمدة لم يحفل بهم، فاحتدوا في وجهه. قال العمدة لهم بأن عثمان مات، وأن زوجته الآن لم تعد زوجته بل أرملة، ولا تملك اي حق في التدخل في مسألة الدفن، وأن ابنه الوحيد سيدفن في مدافن أجداده وهذا الأمر محسوم، أما أهل الزوجة فاعترضوا وهم يحاججون بأن ابن المرحوم يجب أن يكون قرب مقبرة والده. هنا استشاط العمدة غضباً وقال بأن ابن المرحوم عندما يولد فلن يعيش سوى مع جده وأعمامه ليتربى على الفروسية، وعلى قيم قبيلته. وارتفعت أصوات الفريقين، وتوتر الوضع ووجمت الحشود وهي تنتظر إشارة من العمدة، الذي رفع أصبعه فقط فحاصروا المنزل وقد تابط الرجال عكاكيزهم وعلى أذرعهم لمعت السكاكين. لكن هذا الحصار جاء بعد فوات الأوان، فاهل الزوجة كانوا قد سرقوا الجثة وأخرجوها من الباب الخلفي من عند الخور الكبير. وانتشر خبر اختفاء الجثة، وحدثت بلبلة واسعة، فاستخدم الشيخ نفوذه كعمدة محل اعتبار عند الحكومة، لتوقف شرطة المرور السيارة التي تحمل الجثة، وهكذا تمت محاصرة السيارة وتقييد السائقين واستردلد الجثمان، وطارت الحشود بالجثة إلى القرية. أهل الزوجة بدورهم، حاولوا استخدام نفوذهم لعرقلة وصول الجثة إلى القرية، بل واستدعوا كل رجال قبيلة الزوجة، من القرى والفرقان والمدن، وتجمعوا بسرعة في نقطة التقاء متفق عليها، وطاردوا حشود الراصداب. وفي منتصف الطريق بدأت مناوشات بالسيارات والإبل والخيول، ثم تبعتها رصاصات قليلة متفرقة، أصيب على إثرها العمدة إصابة طفيفة على جبهته، لكن خروج الدماء من وجهه، أغضب رجال القبيلة، فأوقفوا قافلتهم وداروا ليواجهوا قافلة الزوجة ومحاصرتها وتأديبها، وبدأت معركة استخدمت فيها كل أنواع الاسلحة وسقط أحد أعمام الزوجة قتيلاً، وأصيب بضعة رجال آخرين من قبيلتها، فقد كانت معركة غير متكافئة بالمرة. أضطر والد الزوجة لاستدعاء مجموعة أخرى من أبناء عمومته، الذي هرعوا لنجدته، والعرق يتصبب على وجوههم من الغضب والحر في وقت واحد.
استمرت المعارك المتقطعة بين الجانبين، منذ الواحدة مساء وحتى السادسة من صباح اليوم التالي، وحتى لا تتعفن الجثة، تم دفنها في الصحراء، ومواصلة المعارك بين الجانبين. قتل أحد أبناء الراصداب، وأصيب منهم ثلاثة، بإصابات خطرة، وست إصابات خفيفة، أما أقارب الزوجة فقد قتل منهم ستة، وأصيب منهم العشرات بإصابات متنوعة الدرجات. مما أضطر ذلك لتدخل الحكومة. فأرسلت قائداً عسكرياً من أقرب حامية، للسيطرة على الموقف، وعندما فشل بقوته القليلة، أضطرت الحكومة لاستدعاء المزيد من القوات، لتقوم بعملية عزل للطرفين.
ثم جاء وفد من الرئاسة للالتقاء بوجهاء الطرفين، وحثهم على الصلح. وقد كان. فتم الاتفاق على دفع الديات بين الطرفين، على أن يُدفن جثمان المهندس عثمان في منطقة المعركة التي تتوسط بين القرية والعاصمة وتقام علي قبره قبة لتكريمه. وهكذا يتم قسم المسافة بعدل بين الطرفين. فانطلق الرجال لقبر المهندس، لكنهم اكتشفوا أنهم فقدوا مكان دفنه في الليلة السابقة. وهكذا بدأت عملية بحث دؤوبة من الجميع ومعهم الجيش، ووفد الرئاسة عن القبر، غير أن بحثهم خاب، فقد اختفى مكان القبر تماماً. وألقى العمدة الراصد باللوم على أهل الزوجة، الذين بدورهم ألقوا اللوم على الراصد وقبيلته، فتوتر الوضع، وتجددت المعارك بين الطرفين محتدمة أكثر مما سبق، حتى أضطرت الحكومة لاستجلاب قوات إضافية، استطاعت وقف المعارك. وعاد الوفد الرئاسي ليكون وسيطاً بين الطرفين، وانتهى الأمر باتفاقهم على دفع دية القتلى الجدد، وبناء قبة رمزية للفقيد في تلك المنطقة، مع استمرار البحث عن القبر بشكل مستمر.
وهكذا تعاون الطرفان ومعهم الحكومة والجيش وبعض المتبرعين من الأثرياء، فبنوا أضخم قبة للشيخ عثمان الراصد.
بعض الراصداب وبعض أقارب الزوجة، استوطنوا حول قبة الشيخ حتى تكون المنطقة عامرة كمبرر معلن، ولكن المبرر الحقيقي كان الا ينفرد أحد الطرفين بحيازة القبة. وتم بناء مسجد ملاصق للقبة، ومد خط كهرباء، وأنابيب مياه، ومدرسة، ومركز صحي، ومشروع لتسمين الماشية وتربية الدواجن ومصنع للعلف. وخلال عقود تزاوج أهل المنطقة، من العثماناب، وتفرعوا إلى قبائل أخرى ينتسبون جميعهم للشيخ عثمان الراصد.
كانت زوجة المهندس عثمان قد أسقطت حملها لدواعٍ طبية، غير أن أبناءه وأحفاده من العثماناب كانوا بالإلاف في واقع الأمر...

(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى