عصري فياض - في ظل التكبيرات.. قصة قصيرة

على أطراف تلك المدينة الكبيرة ،زرعت سنة الحياة قبورا آدمية،وزرع ظلم الانسان أكواخا فوقها ،تضم اسراً نخرها الفقر المدقع، وكساها العدم ،وغمرتها الحاجة والعوز،أيامها إنتظار خانق ،أملها مات او كاد ، أسر قذفت بها المدينة الصاخبة إلى المدافن وكأنها تقول لهم ...... أسرعوا بالموت.

من بين مسالك ضيقة،خرج أحمد ،ذلك الصبي ذو الوجه الشاحب والقدمين الحافيتين،كان صورة لأحد افراد العائلات التي تجاور الموت،مشى بخطوات مهتزة،أنامله تحتضن قارورة الحليب،وبضع قروش... تتهادى خطاه صوب إحدى البقالات،يدخلها ويخرج منها بعد هنيهات،دون جدوى... فالقارورة فارغة كفراغ الثغر من الابتسامة ، والذهن خالٍ إلا من صورة أخته التي ما إنفكت تبكي لشدة الجوع...، تتلاطم في نفسه أحلامه المحطمة التي نسفتها كلمات أمه التي قالت له قبل أن ينطلق ..... لم أحصل على شيء....

هذه الكلمات الثقيلة خلّفت في نفسه تساؤلات طفولية.... لماذا لم تحصل على شيء،وقد عملت بجد ونشاط في الأيام الأخيرة لتنال أجراً تواجه به متطلبات العيد ؟؟!!

ينقطع تفكيره عندما يرى بقالة ،فتسكن نفسه قليلا بعد أن ظن انه وجد مأربه،يدخل البقالة لدقائق ،لكنه يخرج منها في وضع أسوء مما كان عليه،الخيبة والفشل يلفان شعوره،فيتابع السير نحو المدينة والغروب يقترب بإقتراب الشمس الى غمدها .

دخل أحمد المدينة وقد حل الظلام ،وإنطلقت تكبيرات تعانق عنان السماء،وتعلن للملأ أن ألعيد غدا.........وتحت ظل هذه التكبيرات،أناس كثيرون في حركة ونشاط دائبون في جمع حوائجهم،يدخلون الحوانيت والمعارض فارغيين، ويخرجون محملين فرحين ،لوائح عرض زجاجية تحوي من الألبسة والأقمشة ما تطيب لألوانها الانفس وتلذ بها العيون.... صبية في عمر احمد، يلهون بألالعاب النارية..... أمهات داخل الحوانيت تخلع عن أبنائها القديم، ويلبسنهم ما جَدَّ وجَمُلْ ... آباء تنفتح محافظهم السمينة ولا تقفل إلا وقد نحلت ...في ظل ذلك من مظاهر دسمة في جمالها ورونقها وشفافيتها ...... تاه أحمد ونسي نفسه وما جاء من أجله،ولم تتحمل مشاعره المقهورة هذا الحرمان ،فَخُدِشَتْ أحاسيسة البريئة،وسالت العبرات على وجنتيه.....كانت دموعه عنوانا صارخا لعواطفه المتأججة المتصاعدة كأنها غيوم متراكمة متسارعة تتكاتف فينطلق منها بريق باهر يرسم سؤلا راعداً... لماذا لا أملك مثلهم ؟؟ قال في نفسه " إنه المال... نعم....

لو اني أعرف سلطان المال لقتلته".

وفجأة......... تتراى له من بعيد أضواء براقة مزركشة تخطف العين... تَحَرَكَ في نفسه الفضول ...خطى نحو تلك الأضواء الساطعة...دقائق كان يقف أمام ملهى ليلي...رسم على لوحته الخارجية ،صورة لراقصة جسدها الشبه عار مثنيٌّ على شكل هلال... قرر أن يدخل ... ،وبعد حركات برجليه المنهكتين ،أصبح داخل القاعة الفارهة الواسعة ،إنها غاية في الجمال والابداع والتكلفة، ...على مقاعد فاخرة جلس رجاء ونساء،بدا عليهم الثراء والبذخ والترف، أمامهم طاولات تزدحم بزجاجات وكؤوس،أعينهم تلاحق جسدا شبه عار يتمايل كالافعى على وقع الالحان الشعبية الصاخبة ،جسد حي لتلك الصورة التي رآها في الخارج ....الجميع يحيي تلك "الافعى" بإبتسامة الاعجاب إلا أحدهم ... فقد وقف وإستل من جيبه رزمة من الأواق النقدية وألقى بها فوق تلك الراقصة ،فتطايرت الأوراق ببطء على الارض ،عندها صعق أحمد ،ووقف بحركة لا شعورية،وإندفع نحو الأرض المحيطة بالراقصة يغرف من المال المتساقط ....فحمل منها بين صدره وذراعيه عشرات الاوراق النقدية، وإنطلق مسرعا نحو الخارج....لكن حراس الملهى لحقوا به ...... أحمد بخطواته يشق الرصيف،وبين كل خطوة وخطوة صورة لاحد من افراد أسرته البائسة الذين ينتظرون "خاتم سليمان " وها هو قد جاء ...... الحراس يقتربون منه أكثر فأكثر ..... ينعطف أحمد هاربا الى الجانب الاخر من الشارع ، وقبل أن يصل مبتغاه،يلفه القدر الذي تربص له بين عجلات تلك الشاحنة التي قذفته بعيدا،فتطايرت من بين يديه النقود ،وتدحرجت القاروة البلاستيلكية موشحة بالدم الاحمر،فعلت روحه الى بارئها ترافقها تكبيرات العيد .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى