عصري فياض - عيون الفقراء..

عندما تصعد الشمس إلى كبد السماء، ويزاحم شعاعها ثنايا الأزقة والطرقات الضيقة في المخيم، فإن العيون المحرومة التي يسكنها الحزن الدائم، والوجوه الواجمة التي تحمل غبار المعاناة، مشتاقة دائما لسد أبسط الحاجات، وتبحث دائما عما يسد رمق أبسط الشهوات،لكنها تصطدم غالبا بضيق ذات اليد...

ورغم إمتداد الحال البائس هذا هنا ردحا من الزمان، إلا ان الكبار يخفون خلف إبتسامتهم المعذبة ألمهم خلف ستار من التعفف، والطفولة البرئية تتعامل مع واقعها، وما يجري حولها بتلقائية وعفوية،فإن مخالب العوز والفاقة قد حفرت لنفسها تحت عيون الصغير والكبير خطوطا سوداء شاحبة، وأن أنياب الفقر أطفأت حمرة الخدود الغضة...

تلك هي حال الفتى اليتيم عمّار، إبن الاربعة عشر ربيعا، الذي يسير بقدميه الطريتين المرتجفتين، عائد من مدرسة الوكالة الى منزله المزروع في احدى الحواري الضيقة، يسير وفي محياه الحيرة والقلق والتساؤل المحموم :- ترى ماذا سأقول لشقيقي الصغير عندما يسألني عن قطع الحلوى التي ينتظرها مني كالعادة بعد عودتي إلى البيت؟؟!!

إستجمع قواه وهو يقف أمام باب بيتهم الحديدي المتأرجح، ثم دفعه ودخل، فوجد أمه منكهة في غسل الملابس،... رحبت به، ثم نفضت يديها من الماء والصابون، ونهضت لتحضر له الطعام،.... أما شقيقه الصغير الذي لم يتجاوز السنتين، فقد إندفع نحوه ولقف الحقيبة القديمة البالية التي القاها عمار من يدية فسأله بلغة طفولية ثقلية:وين الحبة؟؟

لم يجب عمار، لعل الصغير ينسى، لكنه الطفل فتح الحقيقة بلهفة، فلم يجد فيها شيئا، ولم يجد مبتغاه..فضرب الارض بقدمه وشرع بالبكاء، فأخذت أمه توبخه بعد أن وضعت صحن الطعام المغطى برغيف الخبر لعمار أرضا، وأمسكت بيد الصغير لتبعده، وهي تتلو عليه موشح من موشحات التهديد والوعيد...

شعر عمار بالحزن وهو يقسم الرغيف نصفين ليشرع بأكل محتوى الصحن، بينما لاذ الصغير خلف أمه ليداري خيبته المتكررة، فإسترق نظرة باكية نحو اخيه عمار تحمل لوما عظيما، فوقعت النظرة في عينييّ عمار الذي يحب شقيقه الاصغر حباً عظيما،فرمى بقسمة الخبز ووقف ممسكاً عن الطعام، ... نظر الى زاوية البيت، فرأى الكيس، أسرع نحوه، وحمله وإنطلق غير آبه بنداءات أمه...

دقائق وصل ساحة المخيم، نظر الى الحانوت الذي يشترى معادن النحاس والالمنيوم والواقع على يسار وقفته،وإلى بائع الفطائر على الجهة المقابلة.. قال في نفسه :- لن أعود إلا بعد أن أعرج عليكما ....

سار في الشوارع نحو مرج بن عامر الممتد إمتداد الافق،قاصدا مكب النفايات والخردا، وبعد أقل من ساعة وصل، فراحت يداه الصغيرتان تقلبان الأكوام بحثا عن قطعة نحاس هنا، أو قطعة المنيوم هناك، وما أن حل المساء،حتى كان ظهره الموجوع يحمل كيسا محشوا بالمعادن الثقلية، يسير بها نحو الحانوت والفطائر...

وقبل أن تكتمل الساعة من مشوار الحمل الثقيل، وصل الساحة وقد غابت الشمس، فنظر الى بائع الفطائر، فوجده محاطاً بعدد من الصبية والناس،وصوت نداءه يملىء المكان،عَجَّل عمار في خطواته نحو الحانوت، فدخله، والقى بحمله بين يدي صاحبه، وعيناه ترقبان بائع الفطائر... أفرع صاحب الحانوت الكيس وفرز محتواه وراح يزين كل معدن على حدا، وعمّار يتقلّب توترا ، أنهى الرجل مهمته ، وأخرج النقود قيمة هذا البيع، وأعطاها لعمار الذي بلع ريقه، وحمل الكيس تحت إبطه، وركض نحو الحلواني، فقدم له المال وهو يقول له : أريد كيلو فطائر

فرد الحلواني قائلا : الله جبر .... نفقنا عمي

تراجعت يد عمار خائبة، وحمل خاطرة المكسور عائدا للبيت، والحزن يجتاحه من رأسه حتى قدميه، لقد خاب ،.... ومع اشتداد الظلمة ورحيل الشفق وبقايا النور، دخل عمار بيتهم وهو لا يستطيع النظر في عيون صغيره،فنثر النقود أرضا،وإندفع نحو الغرفة، يخفي دموعه تحت الغطاء....

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى