سيد الوكيل - أثقل من روحي عليّ.. قصة قصيرة

ما كان عليك أن تغيري طريقك، وتدخلي من شارع جانبي، وتعرضي نفسك هكذا لغزل صفيق من سائق تاكسي، يخرج رأسه من النافذة ويقول.. العب يا ملعب.. يعض شفتيه ويكسر عليك ناحية اليمين، هكذا اضطرارك لصعود الرصيف يجيء قسراً، فيما تكاد رجفتك تسقط طفلك الذي على صدرك .


ما لعينيك لا تقولان كل شيء، ألم يكن الظلام فسيحاً لنا، ولغة لا نخطئ هجاءها وثياباً لا تخفي رجفتنا الأولى، قلت، جسدك أثقل من روحي علي فنزول النهر ليس بالهين، فلا تفزعك تكة ترباس الباب، ووقع خطوات النازل على السلم في رحبة الظلام.

خبيئة الرب النور في شفتيك فقاسميني السر، وانطقي بكلامي ولا تقولي أبداً.. روحي متضايقة.. ولاتفري من بين يدي فتمزقي حرير الخيط الذي شدنا، فيحط طائرك المبلل بارتجافك، لا تخافي، أنا أعرف خطوات المعلم جرجس، وأميزها بين كل سكان البيت، ثقيلة ومترنحة، وهو يطأ الدرج بجسمه الضخم، طاوياً جلبابه الفضفاض بيد، وبالأخرى يعتمد الدرابزين ويزحف بكفه عليه، فتحدث خواتمه الثلاثة الفضية الكبيرة صريراً يقشعر له بدن أمي، فيضحك عليها أبى ويقول.. إنه المعلم جرسة .

ولا هذا صوت باب شقتكم، فكيف لا تدركين هذا، والنازل ـ على أية حال ـ غريب لا طقوس له، وما كان صعودك الا قسراً، فليس بد من أن نختبئ في بئر السلم حتى يمر، وليس بد من أن يدق قلبك، يدق.. يدق، حتى أضع كفي على نهدك فينام، فهل كان لازماً أن تذهبي إلى الكنيسة يوم الأحد هذا؟

قالت.. روحي متضايقة .

أقسم.. جسدك أثقل على من روحي، فأبق طريقاً بيننا، ولا تبالي بأمك، دعيها تشغل شالها الأسود الذي لا ينتهي، تعده لجنائز الكنيسة التي لا تنتهي، فلا أظن أنها رأتنا ونحن نخفق بعنف وراء ستار الكريتون، فالنور يعشي عينيها، والظلام لا يشف إلا لنا، وبيننا وبينها ستار، يفصل بين نصفي الصالة الواسعة لنا، أنا وأنت، وأمك فوق كنبتها هناك ممدودة الساقين، وبطانية قديمة لا تفارقها، والتليفزيون خفيض الصوت جداً، يعكس ضوءه الأبيض والأسود في إيقاع غير منتظم، ويلتمع في بؤر الانحناءات العتيقة لسطح نظارتها السميك، ولو كانت تستطيع أن تشوف لأبعد من إبرتي الغزل لشافت أقدامنا تلتصق، وتفرك الواحدة الأخرى، ونصطفق، فالستار، صحيح لا يشف، لكنه قصير قدر هكذا، فلا تقولي.. روحي متضايقة.. فما بيننا، لغة لا نخطئ الهجاء فيها.

قالت.. إن اسمه عادل، وإنه حاصل على دبلوم تجارة، وإنه زميل زوج أختها عايدة.. قالت.. قصير وأبيض وبنظارة.. مشي معايا مرة واحدة.. من سانت تريزا لبيت أختي عايدة.. وقالت إنه لم يصعد معها للشقة.
هذه النار ليست صناعتنا، وليست كحرق بعرض سكين، فكيف تدمرين جسدك هكذا وتقولين.. روحي متضايقة؟

أمي هي التي اقترحت أن تساعديها في حياكة ملابس الناس، أمي هذه تقتلني، تحرضك لترمي الكتب، تغريك بالفساتين الجديدة، وبولد من سنك، وأمك أقسم أنها.. أو على الأقل.. حتى لا أكون كاذباً .. أحست خفقنا وراء الستار وتشاغلت عنا بشالها الأسود، ثم أنت.. أنت أيضاً، عشقت صوت ماكينة الخياطة، وملمس القماش الجديد، ورائحة ملابسي الداخلية.

قالت.. حطيت ثلاث شمعات، واحدة لي وواحدة لعادل، وواحدة لك، مع أنى أحياناً .. أنا الذى أكفكف انفلات شعرك، وأحس به خصلات طويلة وناعمة، تنزلق في كفي، أعيدها فتنزلق، وتلامس رأس الماكينة وتخر عسلية على كتفيك وجيدك الحليب، تخايل ذهب القرط المدلي، فأقبلك هنا، هنا بالضبط، فيهش الشعر على وجهي وتميلين برأسك وتضمين كتفك إليه، .. جتتي مش خالصة.

ـ أتحبين عادل .. أتحبينه حقاً؟

ـ الإضاءة ضعيفة هنا.

الحقيقة أن الماكينة كانت تدور، وسن الإبرة ينغرس في القماش الجديد ويخرج، ويرمي وراءه مزيداً من الغرزات الصغيرة، كسرب النمل كلما حادت عن طريق خط لها تعود، تقولين خياطة الحرير هكذا.. صعبة .. قبليني إذن قبلة المساء الأخيرة، فمن يلامس الحروق القديمة لا تخيفه شمعة أو لا تتسللي مرة أخرى إلى حجرتى، ولا تتشممي ملابسي المعدة للغسيل.. ثم أني أحذرك.. عندما تجلسين على ماكينة الخياطة لا تدعي شعرك ينفلت و لا تدعي فستانك ينحسر فوق ركبتيك فجسدك أثقل من روحي علي، وإذا قال السائق عبارة مكشوفة في طريق جانبي. فحاذري أن يسقط ابنك من فوق صدرك أو تخطئي تقدير ارتفاع الرصيف.

من مجموعة ( للروح غُناها ) إصدار سلسلة مختارات فصول، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهر، 1997


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى