متثاقلة تحت حملها، وشنط السفر، شنطة حمراء على كتفها، وأخرى سوداء تشدّ كتفيها بقوة إلى الوراء، ترتدي شعرها المسدل على كتفيها كنهر على جبينها، خان المنديل الأحمر الذي يحضن شعرها، وهربت الخصلات تقبل جبينها وهي فخورة بحريتها، ومن وراء نظارته عينان تبحثان عن شيء ما، حبّتا زيتون عسليّ تتدلّيان من بين ظلال الرمشين اللذين يحرصان على حمايتها برفة وبلحظها بين الفينة والأخرى. حذاؤها البنيّ المفتوح من جنبيه يحرص على أن يطأ الأرض، ويثبتها بها لئلّا تطير في فضاء المطار، عندها من سيردها تستقلّ طيارة التيه، تبيع الحاضر وتشتري الحلم، تسير على غير هدى، تدخل المحلات التجارية القابعة في بهو المطار، تبحث بين البضائع المعروضة على شيء ما ، كلّ من رآها سألها بابتسامة: هل يستطيع مساعدتها؟
تردّ بابتسامة وإيماءة من الرأس:
لا، شكرًا.
ما تبحث عنه ليس معروضًا على رفوف المحلات في المطار، ما تبحث عنه لا يبتاع في أيّ مزاد، ما تبحث عنه هذه المخلوقة التي جاءت إلى هذا العالم بغلطة ارتكبها في ليلة ما والداها.
أول تحيّة كانت للحياة في صرخة، وكأنّها تبكي وجعها قبل الأوان، مثل موج البحر أفكارها وأحاسيسها تائهة دون ذلك الطيف الذي تبحث عنه.
حاولت أن تجده في وجوه المسافرين، وفي جوازات السفر تبحث عن ذاتها، ولكن دون جدوى.
جالت في المقاهي، احتست القهوة والكابتشينو، لعلّها ترتق جرح ضياع وتيه، لعلّ الشتاء يتغيّر إلى ربيع، حتى السماء باحت بالمطر حزنًا على الرحيل تشاركها السماء البكاء، وتمطر كالرحيل بغير أوان.
لم يجبرها أحد على هذا العشق بل سارت إليه بخطى متسارعة حين ابتسمت لها الحياة أخيرًا برجل حلّ في قلبها ضيفًا دائمًا سكن بل أسكنته وأعطته إقامة أبدية، وهي تعرف أنّها فتحت باب جهنّم على قلبها، تعلم مخاطر فعلتها، تجمعها معه سويعات قليلة، وتباعد بينهما الكرة الأرضية التاريخ والجغرافيا، سويعات وثلاث قبلات كانت الحياة، صرخت بوجهه ألا تفهم، هذا ما تبقى لي وأنا في مطارات الحنين مسافرة بلا هدف، أحمل تذاكر العشّاق من بلد إلى بلد، أهرب منّي، أطاردني علّني أجدني، أحملك كالطفل في أحشائي، وأحمل نغمة الصوت مجنونة، أعاني شغب المشاعر امرأة خاطرة في بال الذكرى.
أنّبها ضميرها، وهي تلمح من خلف الزجاج الفاصل بينها وبين ذاك الرجل الأسمر الذي كانت أقصى أمانيه أن يجلس معها لساعات يتأمّل وجهها، ويسمع صوتها وضحكتها، لم يكن من الرجال المتطلبين أبدًا، يرضيه أن ترمقه بنظرة، أو تقول له نكتة سخيفة، وكانت تستجدي الكلمات، وتكسر برودة الجلسات الطويلة المليئة بشتى أنواع الأحاديث عن العمل والشغل والثرثرة الفارغة، وهي تعرف جيدًا أنّه ينتظر الفرصة تلو الفرصة كي يقفز من حجرة صمته، ليقول بصراحة: أعشقك، ويعود إلى صمته الطويل، كأنّه أحد أعمدة الهياكل المرمية على ضفاف النيل، صامتة لو أتيح لها أن تتكلّم لقالت الكثير، وكتبت عن الإجحاف الذي مورس بحقّها من أقرب الأقربين من أبناء البلد، رجت في سريرتها أن يتركها وشأنها، فهي في البعد عنه بمقدار قربها من حبيب روحها وعشقها الأوحد، كيف تخبره أنّ قلبها مشغول بسواه، وهي تعلم أنّها ستقضي عليه؟
تركته خلف الزجاج، وسارت في خطى بدت له فراشة تنتقل من زهرة إلى زهرة، وكم تمنّى أن يقفز فوق السور يخطفها إليه، ويهرب لها إلى آخر الدنيا، وهي في دوّامة، وأقصى أمنياتها اتّصال هاتفيّ عبر الأسلاك يحملها على أجنحة العشق السرمدية من شقيق الروح.
اخلاص فرنسيس
* من المجموعة القصصية "على مرمى قُبلة"
تردّ بابتسامة وإيماءة من الرأس:
لا، شكرًا.
ما تبحث عنه ليس معروضًا على رفوف المحلات في المطار، ما تبحث عنه لا يبتاع في أيّ مزاد، ما تبحث عنه هذه المخلوقة التي جاءت إلى هذا العالم بغلطة ارتكبها في ليلة ما والداها.
أول تحيّة كانت للحياة في صرخة، وكأنّها تبكي وجعها قبل الأوان، مثل موج البحر أفكارها وأحاسيسها تائهة دون ذلك الطيف الذي تبحث عنه.
حاولت أن تجده في وجوه المسافرين، وفي جوازات السفر تبحث عن ذاتها، ولكن دون جدوى.
جالت في المقاهي، احتست القهوة والكابتشينو، لعلّها ترتق جرح ضياع وتيه، لعلّ الشتاء يتغيّر إلى ربيع، حتى السماء باحت بالمطر حزنًا على الرحيل تشاركها السماء البكاء، وتمطر كالرحيل بغير أوان.
لم يجبرها أحد على هذا العشق بل سارت إليه بخطى متسارعة حين ابتسمت لها الحياة أخيرًا برجل حلّ في قلبها ضيفًا دائمًا سكن بل أسكنته وأعطته إقامة أبدية، وهي تعرف أنّها فتحت باب جهنّم على قلبها، تعلم مخاطر فعلتها، تجمعها معه سويعات قليلة، وتباعد بينهما الكرة الأرضية التاريخ والجغرافيا، سويعات وثلاث قبلات كانت الحياة، صرخت بوجهه ألا تفهم، هذا ما تبقى لي وأنا في مطارات الحنين مسافرة بلا هدف، أحمل تذاكر العشّاق من بلد إلى بلد، أهرب منّي، أطاردني علّني أجدني، أحملك كالطفل في أحشائي، وأحمل نغمة الصوت مجنونة، أعاني شغب المشاعر امرأة خاطرة في بال الذكرى.
أنّبها ضميرها، وهي تلمح من خلف الزجاج الفاصل بينها وبين ذاك الرجل الأسمر الذي كانت أقصى أمانيه أن يجلس معها لساعات يتأمّل وجهها، ويسمع صوتها وضحكتها، لم يكن من الرجال المتطلبين أبدًا، يرضيه أن ترمقه بنظرة، أو تقول له نكتة سخيفة، وكانت تستجدي الكلمات، وتكسر برودة الجلسات الطويلة المليئة بشتى أنواع الأحاديث عن العمل والشغل والثرثرة الفارغة، وهي تعرف جيدًا أنّه ينتظر الفرصة تلو الفرصة كي يقفز من حجرة صمته، ليقول بصراحة: أعشقك، ويعود إلى صمته الطويل، كأنّه أحد أعمدة الهياكل المرمية على ضفاف النيل، صامتة لو أتيح لها أن تتكلّم لقالت الكثير، وكتبت عن الإجحاف الذي مورس بحقّها من أقرب الأقربين من أبناء البلد، رجت في سريرتها أن يتركها وشأنها، فهي في البعد عنه بمقدار قربها من حبيب روحها وعشقها الأوحد، كيف تخبره أنّ قلبها مشغول بسواه، وهي تعلم أنّها ستقضي عليه؟
تركته خلف الزجاج، وسارت في خطى بدت له فراشة تنتقل من زهرة إلى زهرة، وكم تمنّى أن يقفز فوق السور يخطفها إليه، ويهرب لها إلى آخر الدنيا، وهي في دوّامة، وأقصى أمنياتها اتّصال هاتفيّ عبر الأسلاك يحملها على أجنحة العشق السرمدية من شقيق الروح.
اخلاص فرنسيس
* من المجموعة القصصية "على مرمى قُبلة"