شعبان عبدالكريم - النقش الأخير..

لحظات مرعبة مرت عليها حين فتحت عينيها وهى لا تذكر شيئاً، تجلس بجوار نافذة قطار لا تعرف وجهته ، حقيبة يد سوداء على حجرها، الذعر الذى تشعر به ليس فقط مصدره ذلك الرجل الذى يجلس بجوارها ويميل نحوها بين لحظة وأخرى يسر إليها بكلمات تشعرها أنها ليست ملك نفسها، في الوقت الذى لا تشعر فيه بأنها تمتلك شيئا غير هذه الذات التي تحرك حواسها وتستطلع بها ما حولها، لا تذكر شيئاً.
لا اسم.
لا ذكريات.
لا مكان تقصده أو ترجع إليه .
كان الرجل يمد يده بلطف ويمسك القطعة الذهبية المدلاة من السلسة التي حول عنقها ويقربها لمستوى بصرها، كلماته بصوت الفحيح تطوقها، تغمض عينيها، تلوى رأسها نحو النافذة ثم ترنو إلى الأفق ، كلمات ترتاح إليها وبدت لها مألوفة:
يا رب يا رب .. يا أم النور
ـ ما بك؟
جاء سؤاله مباعتاً ومخيفاً
ـ أنا لا أذكر شيئاً.. أنا لا أعرفك.
ـ تدعين الجنون؟
عيناه جمرتان تتقدان وهو ممسك بيدها، انتفضت من كرسيها، المشهد بدا غريباً ومفاجئا لركاب القطار الذين بدأ عددهم يتناقص منذ غادر القطار محطة نجع حمادي نحو الجنوب.
ـ أنا زوجها يا جماعة.
السيدة التي كانت خلف كرسيها بادرته بقولها:
دعني أجلس معها من فضلك.
قام بعيداً يصيح:
لا أعرف ماذا أصابها؟
ـ منذ ركبنا القطار وأنت تكتمين بكاءك.. ما بك يا ابنتي؟
ـ أنا لا أذكر شيئاً وخائفة وأشعر بحزن يكاد يطبق على صدري، حزن لا أعرف سببه.
ـ "سننزل المحطة القادمة يا شيرين".
جاء صوته ودوداً هذه المرة، لكنها ما زالت مذعورة والسيدة الحنون لا تدري كيف تتصرف؟
أمسك حقيبة يدها بعصبية وقال:
هذه زوجتي ويمكنكم أن تتأكدوا من بطاقتها الشخصية، اسمي مدون عليها..
حين حاول إخراج البطاقة من الحافظة سقطت قصاصة من الورق كانت محشوة بين البطاقة والحافظة، التقطها وراح يقرأها، كان مكتوباً فيها "عند المسلة وفي نفس المكان الذى التقينا فيه أول مرة وفى نفس الميعاد من كل عام أنتظرك يا شيرين.. المخلص حبيب".
ـ الآن عرفت لماذا تفعلين ذلك يا فاجرة؟
صرخت فيه السيدة الحنون ودفعه الركاب إلى آخر العربة، وهو يسب ويلعن .
فى الصورة المثبتة على البطاقة وجه ملائكي أبيض
وعينان خضراوان وشعر ذهبي مسترسل بينما تبدو هي كبقايا من ذلك كله.
ـ ياه يا ابنتي، ماذا حدث لك؟
استيقظت الطفولة النائمة داخلها دفعة واحدة فرمت برأسها في حضن السيدة الحنون وراحت تبكى.
حين توقف القطار في قنا جاء هو متردداً بين العنف واللين يقول:
هيا بنا يا شيرين ربنا يهديك.
غاصت في مقعدها وتشبثت أكثر بالسيدة، فرجع متحيراً، السيدة الحنون وضعت وجه الشابة بين يديها ورفعتها لتلتقي عيونهما، قالت:
ـ من ذلك الذى ينتظرك عند المسلة يا شيرين؟
ـ مسلة؟ ماذا تعنى المسلة؟
شردت السيدة قليلاً ثم قالت وكأنها عثرت على الحل:
ربما إذا رأيتها تتذكرين...!
أمام البوابة الضخمة لمعبد الأقصر المسلة منتصبة شامخة ترنو إلى الزمن من طرف خفى ، كمن يهزأ به، وجوه كثيرة تمر من أمام المسلة، غير أن وجهاً واحداً ظل ثابتاً أمامها بدا لها مألوفا كلما اقتربت، فجأة التصق الوجه بالجدار حتى صار مطبوعاً عليه.
ـ هذه صورة منقوشة على المسلة.
هكذا علقت السيدة الحنون .
ـ لكني رأيته من لحظات كما أراك، رأيته من لحم ودم.
ـ "اسم الله عليك" تعال يا بنتي أسلمك لواحد مسئول عنكم.
ـ تقولين عنكم وهل هناك فرق بيننا؟
ـ لا يا ابنتي ... ولكن أنا من دين وأنت من دين ثان.
في كنيسة العذراء بدا لها كلام الرجل ذي اللحية والعمامة السوداء رقيقاً لكنه غير مفهوم، غير أن الصورة المعلقة على الجدار لفتت انتباهها أكثر، كانت الصورة لرجل يسحب حماراً تعتليه سيدة وديعة تحمل رضيعها، الرجل له نفس الوجه الذى رأته قبل أن ينطبع على جدار المسلة.
ـ هذا يوسف النجار.. الرجل الذى رعى المسيح وأمه، والمسيح وحده يا ابنتي هو القادر على أن يشفيك ويهديك.
حقاً كانت صورة الطفل في حضن أمه تريح أعصابها لكن صورة يوسف النجار ملكت عليها نفسها.
ـ ابقى معنا يا ابنتي هنا أو اذهبي للدير.
يد تمسكها من فروة رأسها وصوت كالرعد يزمجر: لا تخرج من هنا يا أبانا.
بردة فعل لا إرادية نزعت السلسة التي كانت تطوق عنقها ورمت بها في وجهه وتركته وهو يحاول الإفلات من قبضة الأب الحنون ذي العمامة السوداء.
هامت على وجهها، الرجل الذى اصطدمت به في شارع السوق السياحي قال :
لم أنت خائفة يا ابنتي؟
لم تجبه، أفضت إلى "كورنيش" النيل
شعور بالحرية راح يغمرها ، أمام صفحة النهر وقبل الغروب وقفت تستند على سور "الكورنيش" تسمع همهمة السكون وصخب التلاشي.
أشباح تطل عليها من جبل "القرنة" ، دوامة موج في النهر تلف رأسها ، صوت من قلب الدوامة توشك أن تستجيب له، صوت يرج المكان:
الله أكبر.. الله أكبر.
كان الصوت ينبعث من مكبر صوت فوق أعمدة المعبد، بالتحديد من فوق عمود في نهاية المعبد من الناحية الشرقية يختلف في شكله عن بقية الأعمدة وبجواره قبة مكورة، انساحت في باحة المعبد تؤم الصوت، اعترضها جدار شاهق ، في أعلى الجدار نافذة مزينة بالأرابيسك الذى كانت فتحاته الواسعة تسمح برؤية من يطل من خلفها، كان هو نفس الوجه الذى رأته قبل أن يلتصق بجدار المسلة والذي رأته معلقاً فى كنيسة العذراء غير أنه هذه المرة يتزين بعمامة بيضاء، الصوت يتدفق إلى روحها:
"الرحمن الرحيم.. إياك نعبد وإياك نستعين.. اهدنا الصراط المستقيم...
الوجه يبتسم لها، أدركت أنها لابد أن تدور حول المعبد لتصل إليه، الإضاءة كانت خافتة، مرت في دورانها بطريق الكباش، المسلة المنتصبة كانت نقوشها تتدثر بالظلام، تماما كتلك النقوش التي تنكمش في ذاكرتها، أكملت دورانها، بدا لها العمود والقبة فوق المبنى كعروسين تحيط بهما الأنوار، درج السلم يقودها إلى بوابة مفتوحة على مصراعيها على الدرجة الأولى انقدح في ذهنها صوتها حين كانت تكتم بكاءها :
"أه يا حبيبي يكاد يقتلني الحنين"
يجاوبها صوته القادم من هوة سحيقة في ذاكرتها : "أنا في انتظارك يا شيرين "، والعذراء ترمى عليه رداءً أبيض.
على الدرجة الثانية صوت أبيها :
أقتلك وأشرب من دمك ، والعذراء ترمى عليها رداء أحمر.
على الدرجة الثالثة فحيح صوته :
"أنت ملكي أنا"
الجسد المرمري مستلق ، والعينان الخضراوان طامحتان إلى السماء وصوت واهن يخرج منها : "...في الأعالي وعلى الأرض السلام"
يجاوبها صوت المحراب: السلام عليكم ورحمة الله .


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى