د. جورج سلوم - المعلم.. الكلب!

أصعب المواقف في حياتك عندما ترى نفسك مرفوضاً أو ملفوظاً.

لستَ مكروهاً من الجميع ، لنقل فقط أنك غير محبوب وغير مرحّبٍ بك ، ثقيلاً في مجلس المتناغمين مع بعضهم بحيث تراهم يسكتون إن حاولت الجلوس بينهم ، وكأنهم يقولون لك غادِرْنا بدل أن نطردك .

لم يطردني أحد حتى الآن من حضرته ، لكني أعتبر نفسي مطروداً سلفاً ، كأني إسفينُ إزعاجٍ دُقَّ بخاصرتهم ، أو لقمة غير مستساغة الطعم يغصّون بها ، أو حشوة من بقايا طعام علقت بأسنانهم ، صغيرة تافهة لكنها تشعرك بوجوب التخلّص منها .

لذا اقتصرت حواراتي معهم على إجاباتٍ جِدُّ مقتضبة ، ينتظرون جواباً قصيراً وكفى ، بلا استطرادات ، ولا روايات ، مستثنى بإلا لوحدي دوناً عن الآخرين الذين ينتقلون من رواية إلى أخرى ويجدون من ينصت لهم بآذان مفتوحة ، وابتسامات ، وإيماءات من الرأس والعيون بمعنى تابع وأسهب ، وما زلنا معك قلباً وقالباً .

-ليسَ مهضوماً ، ولا يمكن ابتلاعه حتى مع برميل من المياه الغازية .. وأظنّهم يقولونها بعد أن أخرج ، لأسمع ضحكاتهم وقهقهاتهم تلحق بي وتشيّعني ..وأخرج حاملاً نعشي لوحدي في جنازتي الصامتة إلا من دموع تنفر وأكبتها .

لم أقوَ حتى على سرد طرفة ، لأني أعرف أنهم لن يضحكون ، وجرّبت ، وما أحسنت روايتها كما يجب ، لأني تلعثمت واستسرعت واستنقصت من مفرداتها في عجلتي الكلامية قبل أن يقاطعني أحدهم ، ويبترني ، فتحوّلَت طرفتي الطريفة إلى مأساة يرثون فيها راويها ويأسفون لحاله . ومن كان يسمعني كانت عيونه تتأمّل ضعفي وخجلي وترددي ، ومن ضبط نفسه على مضض كان لا ينظر إليّ كمتحدّث ، وإنما يهزّ قدميه بعصبيّة أو ينظر بهاتفه الجوال لثوان يتحمّل فيها ما أقول .

وفعلاً ، قالتها إحداهن بوجهي كتعقيبٍ على طرفتي ، وعندها ضحك الجميع على تعقيبها :

-في المرة القادمة ، اكتبها كتابة وأرسلها لنا على الواتس فنضحك أكثر ، ونتفاعل معك ، ونرسل لك وجوهاً ضاحكة !

كانت طرفة جميلة وجديدة تلك التي انتقيتها لأسهِمَ بها في مجلسهم ، مضحكة ومثيرة كقنبلة كوميدية ألقيها في وسطهم ، بحيث أني عندما تخيّلت نفسي أرويها ضحكتُ لوحدي ، وقهقهت في مشيتي التوحّدية بين المشاة ، حتى التفتَ البعض لي ، وظنوا أنني أكلّم نفسي !

كيف أكون مقنعاً في محيطي ؟

قرأت كتاب كيف تكسب الأصدقاء ، وكيف تجذب الناس كالمغناطيس ، وكيف تجعل الجميع يقولون لك نعم ..



كيف لي أن أقنعك أنت بشراء بضاعتي ، ما دمت ترفضني كشخص ، ولا تسمح لي بمقابلتك كما يجب ؟

كيف لي أن أقنع تلك المرأة بمرافقتي إلى غرفتي بلا مقابل ؟

أنت قلتها بعظمة لسانك الآن ..هناك مقابل ، وثمنٌ يتوجّب دفعه ، أو رغبة من الآخر بحيث يرى فيكَ ضالّته ، أو قوّةٌ فيك تقود الآخر رغماً عنه ليستمع إليك صاغراً ، وينفّذ أوامرك ذليلاً ، وينتظر رضاك .

تلك هي الأسرار الثلاثة لانقياد المرأة إليك ..جرّبها ..وقد تفلح .

أما سواد الرجال فيجب أن تكون بينكم مصلحة مشتركة أو هدف أو خدمة تقدّمها ، هذا هو منطق العصر ، ويقولون إن الطيور على أشكالها تقع ، فابحث عن المتوحّدين أمثالك والمنعزلين أو المعتزلين في الصوامع والجحور والأوكار .. أو في المصحّات النفسية .



وعرضت مالي على المرأة التي أحبّ ، ولم أجنِ منها إلا سخريتها وصدودها . وأغدقت على امرأة رخيصة فعرضت عليّ جسدها بكبسة زر وانتظرت إقدامي ، لكني كنت أريدها روحاً فقط فاستغربت تصرّفي ، اعتبرتني عاجزاً أو مجنوناً ..استمعَت لي بصمت المنتظر أجرته ، نعم ، لكنها لم تتفاعل مع كلماتي .

وعرضت بضاعتي في السوق ، فأعرضوا عنها مع أنها بنصف ثمن مثيلاتها ..وقالوا يجب أن تصيح مروّجاً لها ، وصحت كالديك في الظهيرة فلا يستمع أحد لصياحه ..فالديك في الظهيرة هو مجرّد دجاجة للذبح !

فلنقدّم إذن خدمةً مجانية للآخرين ولنتفاعل إيجابياً مع الخلق ، وساعدت عجوزاً في عبور الطريق ، وساعدت جاري في نقل أثاث بيته ، وحملت أسطوانة الغاز لطفل كان يدفعها واستلمها مني أبوه على باب البيت ، شكروني نعم ، لكن في اليوم التالي لم يلقِ أحدهم عليّ سلاماً .

وما زادتني محاولاتي تلك إلا تردداً وتوحّداً ..وقال طبيبي إنه أحد أشكال التوحّد ، ذاك الذي أعانيه ، وما العلاج إلا زيادة ثقتي بنفسي وانخراطي بمجتمعي الذي يلفظني . وقال شيخي أنني بحاجة لصلاة الجماعة التي تصلح الحال وتؤلّف بين القلوب ..بإذن الله .

لي جار عنده كلب صغير ، وعندما تزوّج طردت زوجته ذاك الكلب ، وكنت أراه يئنّ وينبح بخفوت على باب المنزل ولا يفتحون له ، ووضعتُ له خفية بعضاً من طعام جنيب بابهم فسكن عنينه .

ثم أدخلته بيتي عندما وجدته على بابي ينتظر طعامي في اليوم الثاني ، وأطربني استماعه لحديثي وكأنه يفهم ما أقول ، ولم يقاطعْني أبداً، بل كان يهزّ برأسه طالباً مني المزيد من القول والثرثرة ، وشعرت بأنه يبتسم لي لو رويت له طرفة ، ويضحك لضحكي ويثور لانفعالي ويواسيني ويلاعبني ويهزّ بذيله ويتنطّط حولي مداعباً ، ويلعقني بلسانه الذي لم ينهرني أبداً .

في جولتي اليومية في الحديقة العامة أتريّض مع كلبي الصدوق ، كنت لا أشعر بالحاجة لمن يؤنسني وحدتي ، وصرت لا أبحث في وجوه الناس عن صديق ، إذ تكفيني دغدغة صدره ليغمض عينيه راضياً مرضياً ، وأناغيه كمن يناغي رضيعاً فيزداد مني اقتراباً . لا بل صرت أسمع استحساناً من العابرين لجمال كلبي وينعتونه بالذكاء .

إذن هذا هو النقص في شخصيتي يا قوم ، هذا هو التحليل المخبري الذي اكتشف مرضي ، عندي عوز في الهورمون الكلبي في دمي !

فعلاً ، أنت قلتها ، تأمّل كيف يقتنون الكلاب المنزلية ويدللونها ويتقبّلونها ، وهي لا تعمل شيئاً ولا تحرث أرضهم ولا تنقل أمتعتهم ، ولم يضربهم أحد بسوط وما قالوا لهم صهٍ ، لا بل تدين المحاكم الأوربية من يقمع كلباً ..ذلك الكلب هو من أكمل النقص في شخصيتك يا هذا ..تعلّم منه فتغدو مقبولاً ومحبوباً .

في أحد الصباحات الربيعية ، غاب عن ناظري في الحديقة بينما كنت تائهاً في صفحات كتابي الذي أقرأ ، واستفقت من غفلتي وناديته ، ثم انطلقت للبحث عنه خائفاً من فقده ، ووجدته يحوم حول كلبة جميلة يلاطفها ويصولان ويجولان معاً رغم محاولات صاحبتها أن تسحبها منه .

يومها ، جلست مع صاحبة الكلبة لأكثر من ساعة ولم تملّ حديثي ، وتحمّلَت ثقالة كلماتي التي بدأتُ بها بكلمات الإعجاب بذكاء كلبتها ، وتحمّلَت سماجة عباراتي عندما أبديت إعجابي بها أيضاً ، وأثنت على روعة حديثي وخفّة دمي ، وما قاطعتني ، وما خالفتني برأي مهما كان متطرّفاً .

ولولا المطر الذي داهمنا وقتها ما كان لجلستنا أن تنتهي .

تذكّرت بعدها تلك التي نصحتني بأن أكتب بدل أن أقول ، وفعلاً وجدتُ نفسي في الكتابة ورأيتها علاجاً لوحدتي وتوحّدي، وها أنا الآن أكتب ، وأقرأ بعض سطوري لكلبي النائم على أريكتي ، أقرأ بلا تلعثم وأعطي مخارج الحروف حقّها كأيّ خطيبٍ محنّك ، فينظر الكلب إليّ بعين واحدة ، ويهزّ رأسه ويتثاءب ويعاود الغطيط ، وأفهمها بأنه موافق ..وأنه رقيب وجمهور نائم ، فأتابع الكتابة سعيداً على منبر أوراقي .

تعلّمت من كلبي المحبوب الكثير ، فأذني كأذن الكلب صارت تسمع الكثير ، وأهز برأسي موافقاً على كل ثرثرة وتفاهة ، وأهشّ وأبشّ مرحّباً بالآخرين وأتنطط حولهم كمن يشتاق لرؤيتهم ، لا بل أجلسوني بعدها بأحضانهم ، واعتبروا نباحي ضرباً من موسيقى فريدة ، وحاول البعض ترجمة نباحي على أنه فلسفة مبتكرة ، وغدوت متكلّماً ويسمعون ، صرت عنصراً أساسياً في حفلاتهم وأدخل بلا دعوة ، وأشركوني في طعامهم ، ودغدغوا شعيرات صدري لأغفوا على سيقانهم ، ورضيوا بأن ألعقهم في وجناتهم وشفاههم . هه هه ..وضحكوا لذيلي القصير يرتطم بهم .

كفاني فخراً ، وما كنت أريد من مجتمعي اندماجاً أكثر من ذلك .

طوبى لذاك الكلب ..معلّمي !

*************

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى