أثر طعنة حقنة لتطعيم السحائي عن طريق الخطأ في مؤخرتي أصبحت أعرج منذ طفولتي الباكرة، هذه العاهة المستديمة حرمتني من أن أحقق حلمي بالالتحاق جندي في الجيش مثل بقية اندادي، لم يكن لدي كثير من الخيارات العملية المتاحة بسبب تواضع مستواي التعليمي، استوعبني المستشفى الحكومي عامل نظافة من شرخ الشباب، فرحتي كانت عظيمة بتبوء هذه الوظيفة بعد العطالة المملة و القاتلة، بسببها اقتربت أن انجرف إلى عالم الجريمة او أكون خريج سجون لكن جذبني الخير إلى الاتجاه الصحيح، أعمل بجد و إخلاص لا أجد حرج في نظافة الدماء المتجلطة و الصديد و استفراغ المرضى و الحمامات المتسخة بالبراز و البول من إهمال الأطفال و العجزة المسنين ثم فتح المنهولات و المجاري و جمع الأوساخ، ذو همة و نشاط عالي لا يكبل يدي الكسل طويل البال روحي لا تعرف الملل و لا أعرف طريق التسكع، أحب الناس و المرح مع الرقص و الغناء بلغتي الأم، كل الموظفين يعرفوني جيدآ، لكنهم غالباً لا ينظرون إلى جانب إنسانيتي المضيئة، معظمهم شعورهم نحوي ليس سوى مجرد آلة لخدمة أغراضهم، بالأخص الطبيبة الشابة آلاء المغرورة هي تملك كل شيء من مال و جمال بنت دلوعة ، لا ترى العمال أبعد من انفها بالنسبة لها دورهم مثل إطارات السيارات التي لا تشتكي من مشاوير السائق، نشأ بيني و بينها عداء سافر خصام من لا شيء، نادتني بعجرفة وتعالى أشارت بسببتها، تعال يا ابو كرنكي أتيت إليها بكل أدب و احترام، هي تمد مخارج الحروف بصورة لحنية حادة هكذا حديثها مع الآخرين.
قالت : لو سمحت يمكن أن تنظف سيارتي لدى مشوار هذا المساء.
رفضت الأمر جملة و تفصيلا، اخبرتها بكل صراحة لقد انتهى زمن دوامى من العمل انا أعمل لدى الحكومة لا شأن لي بالأمور الخاصة، لحظتها شعرت بأن هذا الكلام جرح لكبريائها، دخلت معي في احتكاك توقف في لد الخصام، عكرت مزاجي جلست تحت الشجرة الظليلة في انتظار أحد زملائي، سمعتها تتحدث لزميلتها شذى.
قالت كلمت العب المفترى ابوكرنكي عشان يغسل لي العربية رفض تخيلي؟!
لزكتها شذى حاولت أن تلفت انتباها بأنني خلفها، حينها شعرت بجروح عميقة تعطل الكلام من لساني، بأي صفة أكون عبدآ و نحن شركاء في كتابة تاريخ هذه البلاد العزيزة، دون ما أشعر دفعني الغضب الأعمى، وجدت نفسي بالقرب منها فاجاتها بصفعها في خدودها الندية حتى اجهشت بالبكاء، تدخل طبيب أسمر وسيم الطلعة من قسم الباطنية و الجراحة اسمه هيثم وبخها، ناصرني و وقف بجانبي و اجبرتها على الإعتذار لشخصي، عدي الحادث عندي كسجابة عابرة لكنها ضمرت شئ من الكراهية في قلبها.
سنين من العمل المتواصل و المرهق لم انقطع من العمل، إلا بعد ما سمعت بخبر وفاة أختي الأرملة في مناطق النزاع بطلقة طائشة و هي حبلى في شهرها السابع، تركت خلفها طفلان يتيمان ، توافدوا زملائي العمال الكادحين و الموظفين أصحاب الياقات البيضاء للتعزية في منزلي، إلا الطبيبة آلاء غابت من وجوه الحضور.
بعد أيام رجعت إلى عملي المعتاد الحزن العميق في دواخلي قص أجنحة مرحى، أصبح وجهي كئيبآ، أفكر في أطفال أختي لجلبهم إلى المدنية، لم يكن لدي ثمن التذكرة لابعث لهما لا أملك أكثر من قوت يومي، بينما كنت سارحآ في محنتي، دكتور هيثم أتى مثل الوحي نشلني من إحباطي و تكفل بثمن التذكرة، رجل شهم محبوب لدى العمال داعمآ لهم في كل كبيرة و صغيرة، يدافع عن حقوقهم المهضومة و المسلوبة فصار جزء منهم و إليهم، بعد حادثة الطبيبة آلاء نشأ بيني و بينه علاقة قوية امتدت على المستوى الاجتماعي.
من منطقة الحرب حضر الطفل بمبو رفقة أحد اقربائي إلى المدينة، بينما اختارت أخته البقاء مع عمتها، أول ما رأيت أبن أختي اندفعت نحوه بحماس و شوق بكيت بحرقة، لكنه ظل جامدآ كالحجر لم يحركه شفقي و لا دموعي الغزيرة، طفل بائس الوجه صارم الملامح صاحب عيون ضيقة كآن الحرب سرقت منه طفولته البريئة، لا يمكن أن يشتكي و هو جائع يحب العنف اللفظي و الجسدي، اعامله باستثناء و بعاطفة جياشة، هو يتيم الأبوين أحب أن أدافع عنه أجد له العذر لحماقته المتكررة. لا أميل إلى ضربه وقت الخطأ حتى التوبيخ لينآ عكس معاملتي إلى أبنائي، مما خلق مناوشات و جفوة كبيرة بيني وبين زوجتي كادت أن تصل للطلاق.
في عامه الأول بمبو وجد صعوبة بالغة في إتقان اللغة العربية بينما يجيد التحدث بلغته الأم بطلاقة و سلاسة، يلتبس عليه المعاني فيخلق عدواة من العدم مع الجميع، عمل كمساري بفعل أسلوبه الجاف مع الركاب طرد من العمل ثم عمل ماسحآ للاحذية، بايعاز من دكتور هيثم وصاني أن ادخله المدرسة ليتعلم، يقول لي دائماً انت أذكى مني و من هؤلاء الأطباء لكن لم تعطيك الحياة فرصة، لذا عليك أن تعطي هذا الولد فرصة لينال حظه من التعليم، ربما يكون له شأن عظيم في المستقبل.
دخل بمبو المدرسة الابتدائية يبدو أكبر حجماً من أقرانه، استخرجت له شهادة تسنين لم أكن أعلم عمره الحقيقي بالضبط، قالت لي جدتي أنه مولود يوم المعركة الطاحنة خلف الجبل بين الجماعة المسلحة و القوات الحكومية.
في السنة الأولى من التحصيل المدرسي اكتشفت غبائه اللامحدود درجاته في كل المواد معنونة بشكل دائري بالقلم الأحمر، في العام الثاني والثالث تقدم غبائه قليلآ من مواخرة الفصل إلى أحسن السيئين لكنه لم يخرج من دائرة الفشل، لقد اتعبني كثيراً من مشاغباته في الحي و في المدرسة، ورطني في كثير من المشاكل و لكن صابر على أفعاله التي لا تنتهي، كنت في مقر عملي أنظف أرضية المستشفى غارقآ في همومي تلاشى الغناء الجميل من صوتي، لفت انتباهي دكتور هيثم دائماً يسأل عن احوالي رغم الفارق التعليمي الشاسع هو من أعز أصدقائي، سألني عن الطفل بمبو أخبرته منتظر يكمل المرحلة الابتدائية ثم يلتحق بالجيش أو ينضم الى أي جماعة مسلحة، اجابني البدايات دائماً صعبة توجد فوارق كبيرة بين المدينة و مناطق الحرب، عليك أن تشجعه الاستثمار الحقيقي في القلم و ليس في السلاح، بكل أذن صاغية سمعت حديثه القيم أصبحت اشجعه بكل حماس.
في أواخر العام الرابع استلمت خطاب استدعاء من المدرسة بخصوص ابن اختي، غشاني حرج بالغ بسبب عصبيته الزائدة، اتذكر يومها عندما دفع مدير المدرسة حتى سقط ارضآ و انكسرت نظارته، أوشك أن يفصل من المدرسة بسوء السلوك، لولا استراحامي إلى إدارة المدرسة و إقراري بأن لا يتكرر منه هذا الفعل مرة أخرى، ذهبت إلى المدرسة مكب الوجه أول ما دخلت إلى مكتب مدير المدرسة استقبلني المدير ببشاشة من غير العادة مما خفف من شكى و رهبتي، بعد الضيافة عرج إلى الموضوع قدم لي التهنئة، فاجاني بأن بمبو تحصل على أعلى درجة في المدرسة بالعلامة الكاملة و هذه النتيجة ثمار مثابرتكم و اجتهادكم، أكاد لا أصدق أول مرة في حياتي اتذوق طعم النجاح اقتربت أن أطير من نشوة الفرح، من تاريخ ذلك اليوم تفجرت عبقرية و مواهب أبن أختي من واحة لواحة تأثيره كان كبيراً على أبنائي.
رجعت إلى مقر عملي منتشيآ كأني مولود من جديد، أود أن أخبر صديقي الدكتور هيثم فهو الداعم الأول لهذا النجاح الباهر، أيام اسأل عنه في كل المكاتب لم أجد له اثرآ تلفونه مغلق، غاب من المشهد من يوم إضراب الأطباء، عائلته المكلومة و أصدقائه دونوا بلاغات اختفاء في ظروف غامضة، اختفى صديقي من مسرح الحياة كشمعة بعثرتها رياح الذنوب و لم نلتقي مرة أخرى.
تركت العمل بفضل تفوق أبنائي في شتى الضروب، ظل النجاح منحني الراحة من ما سرقه الشقاء من تعب العمر، بفضل صديقي الغائب الحاضر بمبو الفنان بريشته البديعة يصنع الجمال دهشة،يمنح وجه المدينة القآ و فنا، بينما انداده في مناطق الحرب أياديهم على زر البنادق تلطخت بالدماء، قتل و إنتهكات بين الجانبين وسعت دائرة الحرب، لم يهبط رسول السلام مازالت الحرب مستمرة لحين إشعار آخر.
(تمت)
إدريس على بابكر.
قالت : لو سمحت يمكن أن تنظف سيارتي لدى مشوار هذا المساء.
رفضت الأمر جملة و تفصيلا، اخبرتها بكل صراحة لقد انتهى زمن دوامى من العمل انا أعمل لدى الحكومة لا شأن لي بالأمور الخاصة، لحظتها شعرت بأن هذا الكلام جرح لكبريائها، دخلت معي في احتكاك توقف في لد الخصام، عكرت مزاجي جلست تحت الشجرة الظليلة في انتظار أحد زملائي، سمعتها تتحدث لزميلتها شذى.
قالت كلمت العب المفترى ابوكرنكي عشان يغسل لي العربية رفض تخيلي؟!
لزكتها شذى حاولت أن تلفت انتباها بأنني خلفها، حينها شعرت بجروح عميقة تعطل الكلام من لساني، بأي صفة أكون عبدآ و نحن شركاء في كتابة تاريخ هذه البلاد العزيزة، دون ما أشعر دفعني الغضب الأعمى، وجدت نفسي بالقرب منها فاجاتها بصفعها في خدودها الندية حتى اجهشت بالبكاء، تدخل طبيب أسمر وسيم الطلعة من قسم الباطنية و الجراحة اسمه هيثم وبخها، ناصرني و وقف بجانبي و اجبرتها على الإعتذار لشخصي، عدي الحادث عندي كسجابة عابرة لكنها ضمرت شئ من الكراهية في قلبها.
سنين من العمل المتواصل و المرهق لم انقطع من العمل، إلا بعد ما سمعت بخبر وفاة أختي الأرملة في مناطق النزاع بطلقة طائشة و هي حبلى في شهرها السابع، تركت خلفها طفلان يتيمان ، توافدوا زملائي العمال الكادحين و الموظفين أصحاب الياقات البيضاء للتعزية في منزلي، إلا الطبيبة آلاء غابت من وجوه الحضور.
بعد أيام رجعت إلى عملي المعتاد الحزن العميق في دواخلي قص أجنحة مرحى، أصبح وجهي كئيبآ، أفكر في أطفال أختي لجلبهم إلى المدنية، لم يكن لدي ثمن التذكرة لابعث لهما لا أملك أكثر من قوت يومي، بينما كنت سارحآ في محنتي، دكتور هيثم أتى مثل الوحي نشلني من إحباطي و تكفل بثمن التذكرة، رجل شهم محبوب لدى العمال داعمآ لهم في كل كبيرة و صغيرة، يدافع عن حقوقهم المهضومة و المسلوبة فصار جزء منهم و إليهم، بعد حادثة الطبيبة آلاء نشأ بيني و بينه علاقة قوية امتدت على المستوى الاجتماعي.
من منطقة الحرب حضر الطفل بمبو رفقة أحد اقربائي إلى المدينة، بينما اختارت أخته البقاء مع عمتها، أول ما رأيت أبن أختي اندفعت نحوه بحماس و شوق بكيت بحرقة، لكنه ظل جامدآ كالحجر لم يحركه شفقي و لا دموعي الغزيرة، طفل بائس الوجه صارم الملامح صاحب عيون ضيقة كآن الحرب سرقت منه طفولته البريئة، لا يمكن أن يشتكي و هو جائع يحب العنف اللفظي و الجسدي، اعامله باستثناء و بعاطفة جياشة، هو يتيم الأبوين أحب أن أدافع عنه أجد له العذر لحماقته المتكررة. لا أميل إلى ضربه وقت الخطأ حتى التوبيخ لينآ عكس معاملتي إلى أبنائي، مما خلق مناوشات و جفوة كبيرة بيني وبين زوجتي كادت أن تصل للطلاق.
في عامه الأول بمبو وجد صعوبة بالغة في إتقان اللغة العربية بينما يجيد التحدث بلغته الأم بطلاقة و سلاسة، يلتبس عليه المعاني فيخلق عدواة من العدم مع الجميع، عمل كمساري بفعل أسلوبه الجاف مع الركاب طرد من العمل ثم عمل ماسحآ للاحذية، بايعاز من دكتور هيثم وصاني أن ادخله المدرسة ليتعلم، يقول لي دائماً انت أذكى مني و من هؤلاء الأطباء لكن لم تعطيك الحياة فرصة، لذا عليك أن تعطي هذا الولد فرصة لينال حظه من التعليم، ربما يكون له شأن عظيم في المستقبل.
دخل بمبو المدرسة الابتدائية يبدو أكبر حجماً من أقرانه، استخرجت له شهادة تسنين لم أكن أعلم عمره الحقيقي بالضبط، قالت لي جدتي أنه مولود يوم المعركة الطاحنة خلف الجبل بين الجماعة المسلحة و القوات الحكومية.
في السنة الأولى من التحصيل المدرسي اكتشفت غبائه اللامحدود درجاته في كل المواد معنونة بشكل دائري بالقلم الأحمر، في العام الثاني والثالث تقدم غبائه قليلآ من مواخرة الفصل إلى أحسن السيئين لكنه لم يخرج من دائرة الفشل، لقد اتعبني كثيراً من مشاغباته في الحي و في المدرسة، ورطني في كثير من المشاكل و لكن صابر على أفعاله التي لا تنتهي، كنت في مقر عملي أنظف أرضية المستشفى غارقآ في همومي تلاشى الغناء الجميل من صوتي، لفت انتباهي دكتور هيثم دائماً يسأل عن احوالي رغم الفارق التعليمي الشاسع هو من أعز أصدقائي، سألني عن الطفل بمبو أخبرته منتظر يكمل المرحلة الابتدائية ثم يلتحق بالجيش أو ينضم الى أي جماعة مسلحة، اجابني البدايات دائماً صعبة توجد فوارق كبيرة بين المدينة و مناطق الحرب، عليك أن تشجعه الاستثمار الحقيقي في القلم و ليس في السلاح، بكل أذن صاغية سمعت حديثه القيم أصبحت اشجعه بكل حماس.
في أواخر العام الرابع استلمت خطاب استدعاء من المدرسة بخصوص ابن اختي، غشاني حرج بالغ بسبب عصبيته الزائدة، اتذكر يومها عندما دفع مدير المدرسة حتى سقط ارضآ و انكسرت نظارته، أوشك أن يفصل من المدرسة بسوء السلوك، لولا استراحامي إلى إدارة المدرسة و إقراري بأن لا يتكرر منه هذا الفعل مرة أخرى، ذهبت إلى المدرسة مكب الوجه أول ما دخلت إلى مكتب مدير المدرسة استقبلني المدير ببشاشة من غير العادة مما خفف من شكى و رهبتي، بعد الضيافة عرج إلى الموضوع قدم لي التهنئة، فاجاني بأن بمبو تحصل على أعلى درجة في المدرسة بالعلامة الكاملة و هذه النتيجة ثمار مثابرتكم و اجتهادكم، أكاد لا أصدق أول مرة في حياتي اتذوق طعم النجاح اقتربت أن أطير من نشوة الفرح، من تاريخ ذلك اليوم تفجرت عبقرية و مواهب أبن أختي من واحة لواحة تأثيره كان كبيراً على أبنائي.
رجعت إلى مقر عملي منتشيآ كأني مولود من جديد، أود أن أخبر صديقي الدكتور هيثم فهو الداعم الأول لهذا النجاح الباهر، أيام اسأل عنه في كل المكاتب لم أجد له اثرآ تلفونه مغلق، غاب من المشهد من يوم إضراب الأطباء، عائلته المكلومة و أصدقائه دونوا بلاغات اختفاء في ظروف غامضة، اختفى صديقي من مسرح الحياة كشمعة بعثرتها رياح الذنوب و لم نلتقي مرة أخرى.
تركت العمل بفضل تفوق أبنائي في شتى الضروب، ظل النجاح منحني الراحة من ما سرقه الشقاء من تعب العمر، بفضل صديقي الغائب الحاضر بمبو الفنان بريشته البديعة يصنع الجمال دهشة،يمنح وجه المدينة القآ و فنا، بينما انداده في مناطق الحرب أياديهم على زر البنادق تلطخت بالدماء، قتل و إنتهكات بين الجانبين وسعت دائرة الحرب، لم يهبط رسول السلام مازالت الحرب مستمرة لحين إشعار آخر.
(تمت)
إدريس على بابكر.