هند زيتوني - أنا والغريبة في سوهو.. قصة قصيرة

لا أدري كيف انتهينا أنا وهي في غرفة واحدة بعد منتصف الليل في سوهو..؟ ترى لماذا كانت هناك..؟ كانت تترنّح ثملة في شوارع سوهو المكان الذي يحاول فيه الأمريكان تلويث ذاكرتهم لينسوا وجع الزمن.
أشارت إلي كي أتوقف لتصعد إلى سيارتي المتواضعة. ترددت في البدء وخفت منها. ولكن لم تسمح لي شهامتي ورجولتي أن أتجاهل طلبها، وهي امرأة ضعيفة. وقد تتعرض لأذى السكارى أو المتسولين المدمنين في تلك الليلة الباردة من الوقت المتأخر.
خففتُ سرعتي ثم توقفت وأشرت إليها لكي تدخل. فتحت الباب ورمت بجسدها على الكرسي، وكأنها كانت تدفع عنها غيبوبة وتكاد تسقط على الأرض. خلعت معطفي ورميته على كتفيها، كانت ترتجف من البرد، سألت نفسي: أليس لديها معطف؟ أم أنها نسيته في الحانة؟
سألتها بلطف وبلغة تفوح منها رائحة اللكنة الغريبة: إلى أين تريدين الذهاب يا سيدتي؟ أجابت بيأسٍ شديد: “I don’t know , I’m really tired”
هيمن علينا صمت وتوتر رهيبان. ولمست في أعماقها غربة روحية سحيقة.
وكثيراً من الوحشة والخوف والضياع، جعلتني أَحمَدُ الله كثيراً على الطمأنينة والسكينة التي أحملها في قلبي على الرغم من معاناتي وقسوة العيش وفقدان الوطن الذي أعاني منه في هذه البلاد.
كررت عليها السؤال: إلى أين تريدين الذهاب يا سيدتي؟ فوجدتها استسلمت لنومٍ عميق، وكأنها لم تنم منذ أيام. وقعت فريسةً للحظات بين الخوف الذي بدأ يدبّ في قلبي والشفقة التي سيطرت عليّ لأجل حالتها الصعبة ومرارة يأسها. فقد ذكرتني بنفسي حين امتطيت البحر وجازفت بحياتي من أجل القدوم إلى هذه البلاد بعد أن أصبحتُ لاجئاً؛ لا وطن لي ولا منزل آمن آوي إليه. ولكن يقال الوطن الذي يمنحك الحرية يصبح وطنك.
كان لا بدّ أن آخذ قراراً سريعا. ولَم أجد حلاً سوى أن آخذها معي لتقضي هذه الليلة في شقتي الصغيرة. وعند طلوع الفجر سأجعلها تغادر بلا إحراج. عندما وصلنا إلى البيت كان يرفرف عليّ طير التساؤل، من تكون هذه الغريبة؟ ولماذا ذهبت للحانة لتثمل بعد منتصف الليل؟
كانت فتاة جميلة لم يتجاوز عمرها العشرين ربيعاً. يعتلي كتفها وشمُ صغير على شكل فراشة ملوّنة. وضعتها على سريري وانتزعت حذاءها من قدميها الجميلتين. حاولت أن تفتح عينيها بجهد؛ ثم نظرت حوليها وأيقنت أنها في مكانٍ غريب.
سألتني: أين أنا؟ فأجبتها بأنها في شقتي المتواضعة في إيبور سيتي. قاطعتني بسرعة وسألت: ما اسمك؟
– اسمي سعيد منصور.
وكأن اسمي أيقظ فيها ذاكرة النسيان.
صاحت أنت عربي؟ هل أنت من داعش؟ هل ستقتلني أم ستأخذني رهينة؟ أجبتها ضاحكاً لا هذا ولا ذاك. هدأت نفسها قليلاً ثم طلبت كوباً من الماء. شربت قليلاً من الماء ونثرت بعض القطرات على وجهها، رأيتُ بعدها أنها بدأت تصحو من غيبوبتها و سكرتها. قلت لها سأصنع فنجانين من القهوة لنجلس ونتحدث لنكسر الجليد الذي بيننا. وعندما جلسنا سألتها هل تذوقت القهوة العربية من قبل؟ ردّت بتوتر أنت عربي وقهوتك عربية.
– كنت أظنُ أنهم لا يبيعون القهوة العربية هنا، ولكنني كنت مخطئاً فهي تملأ المحلاّت العربية.
سألتها بلطف: لم أتعرّف باسمك؟ هتفت اسمي (آنا ماريا) ثمّ حدجتني بنظرة عميقة وسألت: هل أتيت من سوريا بلد الحرب؟ أجبتها بحزن لا يخفى: نعم يا سيدتي، واضطر الناس للهروب من جحيم الحرب والموت. قالت بنبرة يشوبها الخجل: لقد كانت أمي ضد قدوم اللاجئين السوريين إلى أمريكا. لأنها تعتبر العرب إرهابيين. وقد رحبت جداً بالرئيس الجديد، لأنه سيمنع العرب من الدخول إلى الأراضي الأمريكية.
– لماذا كانت والدتك ضد قدوم العرب إلى هنا؟
– لأنها تظن بأنهم سيكونون عالةً علينا وسيقومون بالأعمال الإرهابية.
– يا إلهي ما هذا الحقد الدفين؟ ألم تقرأ والدتك عن إبادة الهنود الحمر ثم حرق اليابان بالقنبلة الذرية وتدمير فيتنام والعراق؟ وانتهاء الحرب بقتل الملايين هنا وهناك. أنا آسف لا أريد أن أحفر بالقبور. وأنت ضيفتي ولكن الكلام جعل الدماء تفور في عروقي.
– للأسف أمي عنصرية جداً. وقد زادت قناعتها بأن جميع العرب إرهابيون بعد الحادي عشر من أيلول. وهي تلقب العرب براكبي الجمل. أنا آسفة لم أكن اقصد إزعاجك. ولكنني كنت متعبة وأشعر بضغط نفسي شديد.
– لا عليك، تعودت على هذه الاتهامات والتجريح منذ زمنٍ بعيد.
– الإرهابيون في كل مكان وزمان يا سيدي.
– أنا عربي صحيح، ولكنني إنسان قبل كل شيء ولَم أؤذِ نملةً في حياتي.
– أعرف بأن العرب كرماء وقلوبهم تمتلئ بالطيبة والمحبة. فلولاك لكنت اليوم في عداد الأموات. فربما داستني حافلة أو قتلني لصٌ أو متسول في سوهو؟
– لا تكترثي يا سيدتي. هل أنتِ جائعة؟
أطرقت رأسها بخجل وكأنها كانت تريد أن تطلب شيئاً، ولكنها آثرت الصمت.
– سأحضر بعض الشطائر من الجبن والديك الرومي. هذا كل ما لدي في الثلاجة الآن. وسأحضر كوبين من الشاي، الجو بارد اليوم. سألتها مجدداً ماذا تعملين يا آنا؟ أجابتني: أنا طالبة في الجامعة وما زلت في السنة الثانية، أدرس الصحافة. منذ يومين وضعت أمي ورقة على باب غرفتي تريدني أن أرحل من البيت أو أدفع لها أجرة الغرفة التي أسكنها. لقد بحثت عن عمل ولَم أَجِد.
تنهّدت متسائلاً وهل يعقل لأم أن تطرد ابنتها من البيت لأنها لا تدفع الأجرة؟
– في بلادنا هذا أمر طبيعي يا سيدي، فعندما يبلغ الإنسان سن النضوج ويصبح قادراً على العمل يجب أن يتكفل بمصروفه. ويشارك في دفع الفواتير إن بقي في منزل عائلته.
– هذا لا يمكن أن يحدث في بلادنا. عاداتنا تختلف كثيراً عن عاداتكم.
– أنا معجبة جداً بارتباطكم الأسري وتقاليدكم الجميلة. كنت أتمنى لو نملك مثل هذه الروابط الاجتماعية. واعتقد لقد عرفت لماذا ذهبت للحانة لأحتسي النبيذ وأنسى همي.
– سأسأل لك غداً المحل الذي أعمل به، إذا ما زالوا يحتاجون عاملاً للمحاسبة.
ابتسمت آنا ماريا وشكرت له كل صنيعه الجميل.
في الصباح الباكر ذهبت معه إلى المحل لترى إعلاناً كبيراً ( مطلوب عامل محاسبة )، تحدث سعيد مع صاحب المحل، وأخبره بأن صديقته تبحث عن عمل. سألها صاحب المحل: هل تجيدين المحاسبة؟ أجابت على الفور: نعم يا سيدي أنا أجيد الحساب كثيراً.
رنّ الجوال الذي تحمله آنا ماريا، كانت أمها تسألها: هل وجدت عملاً؟ إجابتها وهي تنظر إلى سعيد وعلى وجها ابتسامة، لقد وجدت عملاً في محلٍ عربي. ولكنني لن أعود إلى منزلك سأسكن مع شخصٍ آخر.
صرخت الأم غاضبة: اذهبي إلى الجحيم كنت أعرف أنك تميلين إلى راكبي الجمل والدواعش وليس غريباً أن تصبحي إرهابية مثلهم. إياك أن تقتربي من منزلي وإلا سأطلب الشرطة. اليوم سأرمي أغراضك خارج المنزل وغداً سيأتي المستأجر الجديد ليأخذ غرفتك.
تمتمت آنا: أشعر بالراحة لأنني لن أرى وجه أمي الكئيب في الصباح، وأشعر بالشفقة على الساكن الجديد الذي سيراها كل يوم.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى