د. سيد شعبان - وشم أخضر

تحت هذا الركام من برد شناء يضرب البيت في غير توقف، كل الحجرات موصدة، الصغار ينامون في تلاحم كانما هم أعمدة خرسانية مائلة مشى الزمن فيها بمعاوله، اختبأ ديك الدجاج الذي ظل طوال الصيف يصيح بندائه طوال الليل، تارة يؤذن للصلاة، وأخرى يغازل الإناث القابعات في القن، لقد فقدت الحياة خارج البيت دفقها، إنهم يختبأون تحت الأسرة، بل في زوايا النسيان تقبع ألف حكاية عن غريب دخل قريتنا وتمدد في عطفاتها استلب من الصغار أقلام الرصاص والممحاة، كتب اسمه في سجل أصفر تضمه خزانة المدرسة الإبتدائية، كان الشيخ أبوقمر يحرص أن يدون المواليد الجدد لا يسهو عن والد وما ولد، لم تكن أم الغريب من ناحيتنا، وحتى أبوه ليس من برنا، عجيب أن يغفل الشيخ عن هذا، قمع سكر لابن مستورة عريف الفصول جعله يمحو الأسطر، ويثبت اسم ابن التائهة، لقب نفسه بالأصيل!
دارت الأقاويل مثل رغيف الشحات، كل مرة تروى بشكل مغاير، في هذه المرة ذكروا أن ابن مستورة يبيع الورقة من السجل الأصفر بخمس بيضات، والأكثر قدما بثلاث بطات، تعب الجميع من معرفة سر ابن الأصيل وحكاية ابن مستورة، مات الشيخ أبو قمر، وظلت الحكاية تلف من مكان لمكان، أخيرا وجدوا في الزاوية المهجورة جنب ماكينة الطحين المسكونة بالعفاريت البيض، طبعا عندنا الجن ألوان وأنواع، واحدة تضرب العكاز، وأخرى حاز، والثالثة ماز، وعند موردة الشيخ صفوان حجرة كبيرة عندها حد فاصل بين أرض الملك وزمام النهر، ابن الأصيل باع الحجة المكتوبة على جلد العنزة" قمرين"الملفوفة لخواجه يرطن بالعبري، كل طوبة معروضة للبيع في زمن غابت عنه يد الشيخ أبوقمر، آه يابلد ترب المجرية اندفنت تحت خرسانة الغجر، اختفى سجل المدرسة عن العيون، جاءت عربة سوداء تشق الشوارع وتضرب بزمارتها الكريهة مثل بوق اليهودي التائه في روايات الأجداد، اندثرت أماكنهم التي خطت عليها أقدامهم الموحولة بالمكر والخداع، حتى إن ذاكرة أمي ما تزال تحكي نتفا عن مليكة صاحبة أرض بشارة، لقد لفظتهم الحقول مثل نبات شيطاني غريب كنا نجتثه من بين أعواد القطن،ترن أصداء جلبتهم في أذني ليلة المطر الشديد، نهارها كان زلزالا كبيرا، تصدعت الجدران، تساقط السقف، من تحت الركام خرجت عمامة الشيخ أبو قمر، في باطنها لفافة حمراء، صفحة منقوش فيها سر البلد، أرض الوسية لها صاحب، والبقر الأصفر الفاقع لونه زينة للناظرين حرام ذبحه يوم العيد، شربة ماء من النيل، قطعة خبز من غلة أرض الدوارة فيها عرق العجين رغيف يشبع بطون الغلابة المنفيين في أرض الله الواسعة، الحكاية إن السر كبير، والجرح أكبر، وألف إبليس يسكن جوار اليتامى، يسكنهم جحره، يلاعبهم بحيله، الغجريات من مولد سيدي العريان يرتدين البراقع بوشم أخضر، تعبت الحيل من بلاهة البشر، لو كان لديهم عقل؛ لسمعوا صوت الديك في القن، دخلوا الجحر ونسوا باب الخروج، المفتاح ضربه الصدأ، وانمحت سنونه، يوم الجمعة اليتيمة، ذبح ابن الأصيل حمارة الخواجة بيبي، وزع لحمها على اليتامى، دفن رأسها في طبن الوحل المطروح جنب النهر.
يبلغ التدليس أوجه حتى يعلو تلة الخرابة، يتخذ ابن مستورة بيتا من أحجار جدار الوسية، تشع منه أنوار وزينة، تتجمع حوله الكلاب الضالة، عظمة كبيرة انكشفت من كتف مغطى بكفن من جلد عنزة برية، فيها علامة مخفية بإصبع مغموس في قنينة حمراء، العصا والمسبحة والكتاب، جرت الحكاية في نهر الكفر المتواري وراء همومه، هرب ابن الأصيل بالحجر.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى