حاميد اليوسفي - نقلْ فؤادكَ حيثُ شئتَ من الهوى

[SIZE=22px]اللوحة 1[/SIZE]
وقعت هذا الأسبوع أحداث كبيرة ، فرضت على أحمد الجلوس أمام التلفاز . أشرطة الأخبار تتوالى كل يوم بالبنط العريض :
ـ تضامن شعبي واسع في الداخل مع تحرير الجيش المغربي لمعبر الكركرات بدون إراقة قطرة دم ، ووسائل التواصل الاجتماعي تشتعل بالأعلام والشعارات والأغاني الوطنية وتبصم بالعشرة على مغربية الصحراء .
ـ إقدام العديد من البلدان على فتح قنصليات لها بمدينة الداخلة .
ـ أمريكا الدولة العظمى تعترف بمغربية الصحراء ، وتُقرر فتح قنصلية بمدينة الداخلة .
ـ مُحرك البحث (غوغل) يزيل الخطوط من الخريطة التي تفصل بين الصحراء ومغربها .
ـ المغرب يقرر إعادة فتح مكتب الاتصال مع إسرائيل .
ـ ملك المغرب يتصل بالرئيس عباس ويُطمئنه على أن المغرب لا زال ملتزما بمواقفه السابقة من القضية الفلسطينية .
ـ قلق وتوتر وارتباك يُخيم على الجارتين الجزائر واسبانيا .

اللوحة 2
أحمد لم ينعت أحدا بالخيانة . أحبّ أن يبقى في المنطقة الرمادية لبعض الوقت . لا بد أن يسأل ويتأمل ويُفكر ، قبل أن يتخذ الموقف المقنع .
نعم أحبّ المغرب ثم فلسطين ولازال ، لكن المغرب هو وطنه الأم . ولكي يميز بين حب وحب ، فهو يعتقد أحيانا بأن حب الأوطان قد يشبه حب النساء ؟ الله يرحم أبا تمام ، أليس هو القائل ؟
نقلْ فؤادكَ حيثُ شئتَ من الهوى
ما الحـبُّ إلا للحــبــيبِ الأولِ
كمْ منزل في الأرضِ يألـفه الفتى
وحنـــيــنُه أبـــداً لأولِ مـــنـــزلِ
يُحس في بعض المنعطفات الحرجة بأنه يحصل معه ما حدث لجمهور نابولي مع مارادونا ، عندما لعبت الأرجنتين ضد إيطاليا في مدينة نابولي ، وحرّضهم دييغو على تشجيع بلده ، لكنّهم يوم المقابلة حملوا لافتة كتبوا عليها :
" مارادونا نابولي تحبّك ، ولكن إيطاليا هي وطننا " .

اللوحة 3
ـ اليهود المغاربة ينشطون على وسائل التواصل الاجتماعي ، ويُعبرون عن فرحتهم بلهجة مغربية ، موشومة بلكنة عبرية تسيل رقة عن عودة العلاقات إلى ما كانت عليه قبل 2002 . البعض يحن إلى زمن المرحوم الملك الحسن الثاني ، ويُردد بلكنة عبرية أغنية حميد الزاهر :
" را مراكش يا سيدي كل فارح ليك / را مراكش كل يهتف بيك / بقدومك يا البطل يا الحسن الثاني / لا شاب في الدار لا شابة في الدار خارجة وتشوف السلطان ..."
ـ تبادل الصور والأشرطة التي يقدمون فيها البيعة لملوك المغرب بعد الاستقلال .
ـ إشادة واسعة بموقف المغفور له محمد الخامس الذي رفض تسليم اليهود المغاربة لمعسكرات الاعتقال النازية ، وأصدر ظهائر لحمايتهم .
والبعض ردد قولته الشهيرة :
" أنا لست ملكا للمسلمين فقط ، وإنما أنا ملك لكل المغاربة "
ـ لم يحتفل جزء من يهود إسرائيل ب"التطبيع" مع الإمارات والبحرين والسودان بنفس الحماس والفرح والرقص والغناء الذي استقبلوا به خبر إعادة مد الجسور بينهم وبين المغرب .

اللوحة 4
انهالت عليه صور من الماضي دفعة واحدة .
الصورة الأولى
مارس أبناء عمته التجارة في الدرب أثناء العطل المدرسية . وذهب صحبتهم مرة أو مرتين وهو طفل صغير إلى الملاح لشراء حلوى (الكوك) . لأول مرة شاهد نساء ورجالا يهود مسنين والفقر باد على لباسهم وسحناتهم يمرون من الزقاق . وقف أمام دكان رجل يهودي مفتوح على البيت ، يستقبل الأطفال ، يبتسم ويضحك مع البعض ، ويُقدّم لهم عينة لتذوقها ، ثم يطلب من زوجته أن تجمع لهم السلع التي يطلبونها في عُلب صغيرة من (الكارطون) بأثمان مناسبة .
حلوى (الكوك) هشة ولذيذة لا يُثقن صنعها سوى اليهود ، يٌعاد بيعها للأطفال في الدرب ، وتسمح للتجار الصغار بتحقيق هامش من الربح.
الصورة الثانية
منذ الطفولة وهو يتغذى من ثقافة شعبية تحتقر بشكل مُبَطّن اليهود ، وتنظر إليهم على أنهم زمر للخوف والكذب والنفاق والغدر والطمع . إذا قام أحد الأطفال في البيت بعمل مُشين ، وهرب خوفا من العقاب ، تتوعّده النسوة وتصفنه باليهودي :
ـ واخّا عليك أليهودي حتى ترجع .
الصورة الثالثة
سمع عمّته تُشبه أحد أبناء الحي بعد هزيمته في معركة مع أحد أقرانه ، بأنه طويل وخاو مثل درب اليهود . سيفهم فيما بعد بأن خواء الدروب التي كان يسكنها أبناء اليهود ، ربما يعود إلى الخوف من التعرض للاعتداء ، خاصة بعد الهزائم التي مُنِي بها العرب في حروبهم مع إسرائيل.
الصورة الرابعة
سمع أيضا من الكبار بأن رائحة نساء اليهود والنصارى كريهة . لكنه رأى نساءهم وبناتهم نظيفات وأنيقات وجميلات يلمعن في الأزياء العصرية كالنجوم ، وعيون بعضهن زرق مثل مياه المحيط ، وبناء أجسامهن سبحان الخالق الناطق ، ويتمنى أي رجل من المحيط إلى الخليج ، لو حظي بقضاء ليلة مع إحداهن ثم يحكمون عليه بالموت بعد ذلك .
بحكم الصراع العربي الإسرائيلي ، ربما حدث نفس الشيء عند اليهود ، فتغذى أطفالهم من ثقافة شعبية تنظر إلى العرب المسلمين أيضا من نفس الزاوية .
الصورة الخامسة
توسط جده لوالده رحمهما الله ، ليشتغل مع يهودي مغربي ، علّمه صناعة المصابيح التقليدية . وهي الصنعة التي أنقذته من التشرد والفقر في أزقة مراكش زمن الأربعينات من القرن الماضي . وظل حتى وفاته يقتني ما يحتاجه من سلع من متجر يهودي بالملاح ، يبيع إلى جانب مواد ال(دروغري)* مختلف أشكال الزجاج والنحاس .
بالقرب من ملتقى الطرق الذي يفصل بين عرصة المعاش والملاح ورياض الزيتون ، وأمام الحديقة يقع متجران ، يبيعان نفس السلع ، أحدهما ليهودي والآخر لمسلم . متجر يكتظ بابه بالزبائن ، ومتجر شبه خال . سأل مرة والده :
ـ لماذا لا تشترون ما تحتاجون إليه من سلع من متجر المغربي المسلم فهو يُشبهنا وأخونا في الدين ؟
نظر إليه والده بشيء من الإحراج وقال :
ـ نعم هو مسلم ويُشبهنا ، ولكنه ليس كذلك في التجارة . السلع في متجر اليهودي ، تتميز بجودة عالية ، وثمن أقل مع تسهيلات في الأداء . يكفي أن يُجرّبك المرة الأولى ، وبعد ذلك يمدّك بأي كمية من السلعة ، مقابل أن تُسدد له ثمنها فيما بعد . أما المسلم ، فسلعته أقل جودة ، وأعلى سعرا ، ويرفض مدّ الصناع بأي شيء قبل أداء الثمن .
اختلط عليه الأمر ، ولم يعد يُميّز أيهما اليهودي ، وأيهما المسلم !؟ ولا يعرف من سيذهب إلى الجنة ، ومن سيذهب إلى النار ! لكنه تأكد فيما بعد بأن الله سبحانه هو من سيحدد ذلك.

اللوحة 5
في نهاية التعليم الإعدادي بدأ يتشكل لديه وعي مغاير عبر الجرائد التي يقرؤها لوالده في الدكان أو البيت . والده يحب الأخبار التي تُدونها الجرائد عن جمال عبد الناصر وعلال الفاسي والمهدي بن بركة وشيخ العرب وياسر عرفات وحرب فيتنام ، وهزيمة 67 وحرب أكتوبر .
وسيتطور هذا الوعي بشكل تدريجي عندما انتقل إلى الثانوية ، ثم الجامعة عبر تذوق الغناء الملتزم ، وقراءة أدب المقاومة ، والمشاركة في المظاهرات المؤيدة للشعب الفلسطيني ، والأخبار التي تنتشر بين الطلبة عن بعض مثقفي ومناضلي اليسار من اليهود المغاربة أمثال ابراهام السرفاتي وسيون أسيدون وادمون عمران المليح ، وغيرهم ممن ناصروا ودافعوا عن القضية الفلسطينية .
مع هؤلاء بدأ يميز بين اليهودية والصهيونية . وعندما قرأ عن اليهود المغاربة في بعض كتب التاريخ لاحظ اختلاف بين الباحثين ، فالبعض يؤكد بأن المغاربة اعتنقوا اليهودية بعد الوثنية ، والبعض يقول بأن اليهود نزحوا إلى المغرب ، واستقروا به في عهد الفينيقيين ، ويربط البعض الآخر ذلك بعهد الرومان . وأن أجمل فترة قضوها في عهد دولة المرابطين مع يوسف ابن تاشفين ، فتقلد البعض منهم شؤون الوزارة ، واهتم البعض الآخر بالعلم والمعرفة . وأنهم تعايشوا مع المسلمين في المغرب ، وظلوا محافظين على ديانتهم . وقد هاجر في القرن 15 عشرات الآلاف من اليهود والمسلمين من الأندلس إلى المغرب ، بسبب الاضطهاد الذي عانوه من الكنيسة التي فرضت عليهم التخلي عن ديانتهم واعتناق المسيحية .

اللوحة 6
رفضتَ احتلال الصهاينة لأرض فلسطين وادعاء أنها أرض الميعاد ، وتضامنتَ عاطفيا منذ زمن مُبكّر مع الشعب الفلسطيني الذي اقتُلع من أرضه وهُضمت حقوقه .
لم تنسَ احتجاجك مع الطلبة في الجامعة ضد اتفاقية كامب ديفيد .
لم تنسَ صيف 82 عندما حاصر الجنرال شارون بيروت ، وطالب باستسلام منظمة التحرير الفلسطينية أو دك المدينة على رؤوس سكانها .
لم تنسَ رقاب الأطفال المحروقة بصواريخ (الاربيجي) في مواجهة دبابات العدو ، وقد غطت صورهم بعض المجلات القادمة من وراء البحار .
لم تنسَ المقاومتين الفلسطينية واللبنانية حين وقفتا شهرا بالكامل ، وحدهما في وجه أقوى جيش في الشرق الأوسط .
لم تنسَ كيف خدّرت كأس العالم الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج.
لم تنسَ خروج مظاهرة في الجزائر تحتفل بفوز فريقها على ألمانيا ، وبيروت تحترق .
لم تنسَ أنك أجهشت بالبكاء وأنت تتابع على شاشة التلفاز رحيل المقاومة الفلسطينية من بيروت وسط الزغاريد والدموع الممزوجة بمرارة الهزيمة .
لم تنسَ الخناجر التي مزقت بطون أطفال ونساء وشيوخ مخيمي صبرا وشاتيلا بعد مغادرة الفدائيين .
لم تنس أنك لا تقوى إلى اليوم على الاستماع لقصيدة مديح الظل العالي* كاملة .

اللوحة 7
مر أمام عينيه شريط طويل مثل أنهار من الدم الفلسطيني المغدور .
ناصر حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولة مستقلة أو مشتركة يتقاسم فيها السلطة مع اليهود . أحب ياسر عرفات ورأى فيه القائد الذي يستحق صفة الزعيم . كلما اعتقد بأن النصر على مرمى حجر ، يُصاب بخنجر في الظهر ، وخيبة أمل ، وهزيمة جديدة ، ثم ينتفض من الرماد مثل طائر الفينيق . مرت عشرات السنين . وَهَنَ عظمُ اليسار ، وما تبقى منه سوى البيارق والشعارات وصور شهدائه . اغتيل عرفات ، احترق غصن الزيتون وسقطت البندقية في أحضان فرق تقدم منطق الجماعة ـ الأمة على منطق الدولة ـ الوطن . وحدثت تطورات مؤلمة . سقط العراق ، وما توهمه الناس ربيعا تحول إلى حريق أتى على الأخضر واليابس . تفككت ليبيا . احترقت سوريا واليمن ، ولبنان على حافة الإفلاس ثم الانهيار ، والجزائر تحولت إلى قنبلة موقوتة تهدد بالانفجار على جنرالاتها في كل لحظة .
اعتقد بأن الوضع العربي يشبه حذاء مقلوبا ، أُريد له ألا يعود إلى وضعه الطبيعي ، وبأن أرض فلسطين لو جرى في عروقها الدم الإفريقي أو الآسيوي أو الأمريكي اللاتيني ، لحصل شعبها على حقوقه المشروعة منذ زمن بعيد .

اللوحة 8
عندما تتخلى عن وطنك الأم ، وتنتقل للعيش في وطن آخر ، يمنحك جنسية ومسقط رأس وجواز سفر وبُندقية لتسرق بيتا وأرضا . ثم يهمسون في أذنيك هذه هي أرض الأنبياء ، ووعد الله المنصوص عليه في المزامير المقدسة ، ويُجنّدوك للصلاة ، والحرب من أجلها ، تُصبح لصا بشرعية أممية .
بعد صراع طويل وثلاثة حروب أو أربعة ، تتلذذ بأنه كان لك ذكريات وآباء وأجداد وقبور وأولياء صالحون في أوطان أخرى .
ما أصعب أن يغمض الإنسان عينيه في ومضة عابرة ، ويقبل رغما عنه أن يحمل حقيبتين واحدة مليئة بالأحقاد المتبادلة ، والأخرى بالحنين والذكريات ، وتحت البذلة يضع مسدسا كاتما للصوت !

اللوحة 9
فجأة لمعت كالبرق في ذهن أحمد صورة "لينا" الطفلة النابلسية التي خرجت من الامتحان ووجدت مسيرة شعبية في الشارع . اختبأت في أحد البيوت ، فلحق بها جندي صهيوني ، كسر باب البيت ثم أطلق رصاصاته على صدرها . وفي اليوم التالي خرجت نابلس في تشييع جنازتها وخرجت كل مدن وقرى الضفة والقطاع في مظاهرات واحتجاجات .
أغمض عينيه ، بدا له وكأن صوت المغني قادم من زمن بعيد ، يتسلل إلى أعماق وجدانه ، وهو ينخفض حزنا ويعلو غضبا :
لينا كانت طفلة تصنع غدها
لينا سقطت ، لكن دمها كان يغني ...*


المعجم :
ـ (الدروغري) : متجر لبيع الصباغة ولوازم الكهرباء والماء والبناء ومواد أولية للصناع التقليديين وغيرها من السلع .
ـ مديح الظل العالي قصيدة لمحمود درويش كتبها وفلسطين محاصرة في بيروت
ـ *مقطع من أغنية كتب كلماتها حسن ظاهر ، لحنها وغناها أحمد قعبور
مراكش 21 دجنبر 2020

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى