أحس بخدر شديد يسري في جسده، فأنفلت العود الصغير من بين أنامله بعد أن حفر في الأرض شقا يتسع لدفن ضفدع. تحسس بيده خده المتورم غير الحليق، ثم انساب بكفه نحو الخد الآخر الحليق، ليلمس نعومته العذبة، قال لنفسه: في الوجه خدان، في الرأس وجه، في الخد الأيمن أورام تتكوم، ألام تتكدس، شعر لا يحلق، في الخد الأيسر تنساب نعومة ظل تداعبه نسيمات ورديه.
مد جسده للأمام، فظهر جلده شديد اللمعان تحت سياط الشمس اللاهبه. نفرت أوردته من تحت الجلد، امتزج سمار بشرته بخضرة عروقه، نفرت عروقه بشده، تصلب جلده، تحسس بكف يده بطنه بشكل دائري، ضغط قليلا مكان المعدة، جحظت عيناه، ضغط من جديد، تربد وجهه، بدت تقاسيم وجهه تأخذ شكلا أسطوريا، تليفت أعصابه، وبدا العرق يتفصد من جبهته ومن تحت أذنيه. أحتضن بطنه بشدة، اصبحت حاجته للتقيؤ ماسه. هم بالنهوض لكنه عاد واجل ذلك لمرة أخرى.
رفع عينيه للسماء وكفه اليسرى تغلق فمه المتثائب، بدت السماء أشد عمقا وزرقة، أحس بإنبجاس نباتات شائكة في أعماقه، أشتدت وخزاتها، احتضن خصره بيديه بشكل دائري، شعر بحاجه ماسة للتقيؤ من جديد، ضغط بيديه على معدته، بقوه، كان يضغط بشكل تناغمي وكأنه يعزف لحنا، أو يضرب طبلا، طريقته بالضغط تدل على خبره طويله. دارت عيناه في الحديقه، فظهرت النباتات وهي تنشق عن اخضرار كثيف. تأمل الأخاديد الدقيقه التي تخلفها الديدان عادة أثناء مسيرتها فوق، وتحت الأرض حسب ما يحلو لها.
شعر بأنه يطفو فوق دوائر مائيه كالتي تتكون حين يلقي شخص ما حجرا في بركة، أو نهر، دوائر ذات مركز واحد، حاول أن يتكىء بظهره على الجدار، لكنه لم يجده مكانه. عاد شعوره اليه بضرورة التقيؤ، اتجه صوب المغسله، أنزل رأسه، وضع أصبعيه في فمه وأخرجهما بسرعة متناهية، ليفسح الطريق أمام السيل المندفع من داخله.
نظر إلى المواد الخارجه من جوفه، خليط مركب، تتداخل فيه الألوان، وتمتزج الروائح، نظر من جديد وكأنه يتفحص مشهدا خرافيا. أحس زئبقيتها دون أن يلمسها، صدمت أنفه الأبخره المتصاعده منها، أحس بأنها رائحه معهودة، تفوح من كل مكان يتواجد فيه، وكأنها رائحة ملتصقة بوجوده متمسكة ببقائه. أصبحت هذه الرائحه معهودة له. لم يتذمر منها، وان كان في بداية الأمر قد شعر بالتذمر الشديد، هو في الحقيقة - وللحقيقة فقط – لا يعرف ان كان تذمر منها سابقا أم لا، ان كان قد تعود عليها أم لا، ان كان يستحسنها أم لا. كل مشاعره مبهمه، مغمضه، بفعل حالة التشتت، التفرق، بين محاولات التحديد المضنية التي عاشها وهو يحاول بكل مضاء عزيمته أن يوجد الصله بين تواجده وبين هذه الرائحه، لكنه كان دائما يفشل، فقط يفشل.
امتدت يده نحو صنبور الماء، أراد أن يغرق هذا الخليط، ان يغيبه من أمامه، لكن شعورا غريبا أوقف يده عن الحركة. تأمل الخليط من جديد، أحس بأنه جزء منه، راوده شعور بابتلاعه، إلا أن التقزز دفعه لفتح صنبور الماء بسرعة عصبيه، لكن وهو مغمض العينين.
في الحقيقة هو لا يعرف، ولا يستطيع أن يعرف، أو يحدد، تماما، ان كان هناك أصلا شعور بالتقزز في نفسه، فالخليط كما هو متيقن، جزء منه، من ذاته، مكون أساسي داخل تركيبته الصعبة. هل كان متقززا فعلا حين غيب الخليط في جوف المغسله؟ فشل كعادته في الحصول على إجابة، فقط فشل.
دفع نفسه للخارج، ليس هناك مكان يود التوجه إليه، لكنه لا يريد أن يبقى وحيدا، هذا كل ما في الأمر. ابتلعه الزحام، وسارت به قدماه دون أن يتحكم بهما الدماغ. توقف قليلا أمام الإشارة الضوئية، تفرس الوجوه المحيطة به. بدت رجراجه غير واضحة المعالم أو التفاصيل، بدون لون، بدون نكهه، بدون رائحه، عدا الرائحة المعهودة التي يشتمها أينما تواجد، وجوه ملفعه بموجات ضباب مثقل غير متوازن. أحس زئبقيتها دون أن يلمسها. قفزت الفكرة إلى رأسه مرة واحده، الشبه بين هذه الوجوه، والقيء الذي ابتلعته مياه المغسلة واحد، إنبجست النباتات في جوفه انبجاسا مفاجئا حادا، وخزته بقوه.
انتشرت وخزاتها انتشارا سريعا، ممضا، أحس بحاجه للتقيؤ من جديد، حاجته للتقيؤ كانت ملحه، ماسه، شديدة الضرورة، تلفت حوله، رأى القيء يغطي مساحات الأفق كلها، ورذاذه كان ينتشر، يتناثر في كل مكان. بدت الجدران وهي تحتضن طحالب خضراء، داكنة الخضرة وكأنها سوداء من شدة الدكون. فرك عينيه بقوه، حدق في الأفق البعيد فوجده كما قبل، مشبع بالقيء المتناثر رذاذه على كل شيء. انتابه إحساس قاتل، إحساس بأن المدينة بكل ما فيها، بافقها، بامتداداتها، بنواتها، بذراتها، بدأت تغوص في جنون عاصفة يهيجها القيء. وبدت له وجوه المدينة كلها تستفرغ. لم يتبق شيء أو مكان، حتى الحجارة، الطحالب الداكنة الخضرة، الأرصفة، خطوط المشاة، الإشارات الضوئية، كل هذه، كل شيء، دخل في عملية الاستفراغ.
توغل بأعماقه شعور الرهبة، الرعب، تحركت النباتات في جوفه، انتفض انتفاضة حادة ممزوجة بصراخ تردد صداه في أفق المدينة.استرعى صراخه الناس، تلفتوا إليه، تلفت إليهم. افتقد مرة واحده صورة الأفق، الطحالب، الوجوه، الإشارات الضوئية، الحجارة، خطوط المارة، جميع هذه كانت على حالها، بلا قيء، بلا رائحه، بلا زئبقيه. حاول أن يربط اللحظة باللحظة، الدقائق التي مضت بالدقائق التي بين يديه، كي يستجمع صورة المدينة وهي تغوص بعجز متناه في جنون عاصفة من القيء، لكنه فشل في ذلك، فشل فقط. لكن هذه المرة أحس بأن الفشل لم يكن في ذاته فقط، بل في المدينة بأسرها، بل بالمدن، بالعواصم، في كل شيء وشيء. أحس بحاجته للتقيؤ، لكنه أمسك بطنه بيده، وحنجرته باليد الأخرى، وضاع في خضم السيل البشري المتلاحق والسريع.
دخل أحد المطاعم وطلب وجبة غداء، أشعل دخينه، تحسس جيبه، فبدا الاضطراب واضحا مع الاصفرار الذي كسا وجهه. وقف، اتجه صوب الخارج وهو يقول لصاحب المطعم: أجل الغداء، سأعود، فقط ساشتري علبة دخائن. دار طويلا في السوق، لكن لا جديد، الحوانيت، باعه متجولون، سيارات، مذياع نائح هنا، مذياع نائح هناك، آلات بشريه تتحرك باتجاهات متعاكسه، متضاربه، بين التجار، والأقفال.
خلع ملابسه وارتدى منامته، شق نافذته قليلا كي يترك نسيمات تضرب وجهه. كان بحاجه لنداوة النسيم، طراوته. مسح وجهه بيديه وأرسل عينيه لعتمة بدأت تنسل من خيوط النهار الراحل، أحس قليلا بالانتعاش، نظر صوب الحديقة فبدت الأشجار وهي تعانق هفيف النسيم، تتمايل بتؤده، بانسياب يشبه انسياب البط في الماء. تطلع نحو الأفق فوقع في دائرة ضياع من الهلام.
بدأ يحصي النجوم، مئه وعشرون، مئتا نجمه وواحدة، تطلع إلى القمر، راح يتأمل الخارطة المرسومة بضيائه، أحس بأنها تشبه خارطة الوطن العربي. تداعت أفكاره. فأحس برغبة شديدة بأن يتلو ( اقتربت الساعة وأنشق القمر ). تأمل من جديد، تلاشت الخارطة، تلاشى القمر، التهمته سحابة عابره، امتصته، تداعت أفكاره من جديد. أحس رغبة عارمه لأن يتلو (والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم ).
نظر من جديد، أضاع عدد النجوم التي أحصاها. أحس بحاجته للتقيؤ من جديد، تحركت النباتات في جوفه، بأمعائه، بأوردته، وخزته كعادتها بقوة، فأحس سمها يجري بشرايينه، يجري بدورته الدموية. تخاطرت دماغه مع الموت، مع العجز، مع عزرائيل. أندفع كثور محموم نحو المغسلة الموضوعة خارجا في الحديقة، ولما خفض رأسه وجدها عاجه بالبعوض والذباب والحشرات الصغيرة.
حمل علبة البن ليعد لنفسه فنجانا من القهوه، شعر أنها خفيفه، فتحها ونظر في داخلها. لا بأس، إنها تساوي مقدار فنجان إذا ما كشطت حوافها بواسطة سكين حاد. فتح نافذة المطبخ ليسلي نفسه إلى حين غليان الماء. تسربت إليه موجه خفيفه من هواء ناعم لامست وجهه وشاربه. مد يده ممسدا حاجبيه، أنزلها، حدق بها فألفاها تحمل شعرتين، من الحاجب ؟ أو الرمش ؟ لا يعلم. حاول أن يميز بين الشعرتين، أن يجد بينهما فرقا، اختلافا، حتى يستطيع أن يجزم بأنهما ليسا من نفس المكان. بل واحده من الرمش، والأخرى من الحاجب. فكرة الفصل بين الشعرتين أخذت منه وقتا طويلا. تعامل مع هذه المسالة وكأنها ستنهي مشاكل الكون. أو كأنها ستشفيه من دائه المستبد فيه. وأخيرا قرر أن بين هاتان الشعرتان اختلافا واضحا –هكذا أقنع نفسه – معنى هذا أنهما ليسا من نفس المكان، بل واحده من الحاجب والأخرى من الرمش. المسألة هذه أضحت مستعصيه، تمحورت حول بؤرتها، حول نواتها، كل مناحي تفكيره، كل قدراته العقلية.
لو كانت هذه المسألة تعني، أو تعود إلى منفعه واحده، لكان استغراقه فيها مقبولا، مبررا، يركب على العقل. أصبح دماغه ثقيلا، يخض داخل جمجمته، يتأرجح بين الاهتزاز والاهتزاز. ضاق صدره لدرجه أنه أحس بأن كل مكوناته سوف تطير خارج إطارها.
رفع عينيه، أرسل نظره للأفق البعيد، كانت الظلمة تمعن بنصل خنجرها في بقايا نهار يرحل. حدق بالشعرتين من جديد، حدق طويلا، ثم نفخ عليهما نفخة قويه، فغابتا عن ناظريه. عبثاّ حاول تحديد مكانهما. ولم يفق من سهومه إلا حين فارت المياه وانسكبت على عين الغاز محدثة نفس الصوت المألوف حين ينسكب الماء على قطعة حديد ساخنة.
وضع كأس البن، حمل المذياع وبدأ يدير موجاته بحثا عن نشرة أخبار. ظل يدير المفتاح دون وعي. هو يريد أن يسمع أخبارا جديدة عن عالم يعيش فيه طوال حياته دون أن يفهمه، دون أن يقيم أي صله بينه وبين أحداثه. كثيرا ما فكر في هذا الأمر وسأل ذاته: ما الذي يربطني بهذا الوجود، بهذا المحيط المتدفق اللاواعي، اللامسؤول. الحياة تسير بطريقه معقده، معقده إلى حد النزول بهوة سحيقة، عميقة الدجنة والد موس حين تحاول التواصل مع مجرياتها. كل شيء يسير بطريقة غير واضحه، غير مفهومه، والناس. كل الناس، يحسبون أنفسهم واعين تماما لمسيرة الحياة. بل أنهم يدعون، وببساطه، بساطه تامة، أن حقائق الحياة، الوجود، تسكن أعماقهم منذ زمن بعيد، بعيد.
تنبه لمفتاح المحطات بين يديه. أداره من جديد، ولما لم يجد ما يريد – إن كان يعرف ما يريد أصلا – وقف غاضبا، متوردا، تكثف جلده، تصلب، تناثرت حبات العرق على جبهته ووجهه، تكثفت، تجدولت خلف الأذنين وفوق الذقن، انسابت لاذعة، كاويه. أطفأت بريق عينيه الملتهب. مسح عينيه بكم منامته، فظهرت عيناه وهما تحملان توقدا. دارت في المحاجر دورة كاملة. تأمل المذياع، حقد عليه، وجه لكمه للحائط، لكمه قاسيه به، لكن لم يصدر عن الحائط أي أنين ينم عن ألم. وسكنت حركة المذياع سكون الموت نفسه.
احتسى كأس القهوه المثلج مرة واحده، خلع منامته وارتدى ملابسه المكوية الأنيقة، فابتلعه ظلام الممر الجانبي لفترة قصيرة قبل أن يظهر تحت أضواء الشارع. تسلقت قدماه الرصيف، وأخذت ساقاه تتأرجح بين وجه الرصيف وهفيف النسيم الطري الناعم.
جلس على أحد المقاعد العامة، أخفى رأسه بين كفيه وأجهش ببكاء متواصل، صامت، بكى بحرقه، بلوعه، بانجذاب عظيم نحو الحزن، الهلع، الكآبة، دون أن تنزل من عينيه أية دمعه. تحركت النباتات في جوفه، ببطء قاتل، ممل، ولكن بألم حاد. كان الألم يتحرك في جوفه كشفرات ترتطم بحشاياه، بأحشائه. اشتد بكاؤه، اشتدت لوعته، تعاظمت كآبته. فتأكد، بل أيقن أن النباتات التي في جوفه تنتعش، فتطل برؤوسها حين يبكي بصورة غير معهودة. لأن دموعه تنساب في داخله فترويها. لذلك انقطع عن البكاء وقرر الذهاب للطبيب فورا.
ظهرت علامات الدهشة وعدم التصديق واضحة على نظرات الطبيب المخفية تحت نظارتيه. لكنه تمشيا مع الحالة النفسية منح مريضه عنوان طبيب مشهور، ونصحه بالذهاب إليه لأنه خبير بمثل هذه الأمور.
تمدد على سرير الكشف عاريا كما ولدته أمه. بدا جلده ملونا، مكدما، غريبا، متموجا. يبث القشعريرة في البدن. اقترب الطبيب من الجسد، حاول أن يتحسسه، لكنه تراجع. بدا وكأنه جلد حرشفي، كجلد تمساح هرم، وظهر الشعر الكثيف المزروع فوق الجلد كأنه ابر تحمل رؤوسا سامه.
وقف الطبيب مذهولا، عاجزا. استجمع قوته بعد دقائق، كدسها، وعاد ليقترب من السرير. أغمض عينيه، مد يده نحو الجسد المطروح فوق سرير الكشف. انفلت الجسد سريعا، وقف وسط الغرفة ويديه تطوقان خصره. كان يدور، ويدور، ويدور، بسرعة جنونيه. انبجست النباتات في جوفه. قاوم رغبته العارمة في التقيؤ. أغلق فمه بباطن يده. وكثور ذبح من الوريد إلى الوريد، اندفع نحو المغسلة، فانفلت من داخله نفس الشيء الزئبقي كبركان ثائر. تأمل ما خرج منه، تفحصه بدقه، بنهم، أحس بأنه جزء منه، جزء من ذاته، لا يمكن التفريط به أو التنازل عنه. تدفق الإحساس فيه لإعادة هذا الخليط إلى جوفه، بكل ألوانه، بكل حرارته، بكل الأبخرة المتصاعدة منه. بكل ما فيه من تقزز، و نتن.
مد رقبته للمغسلة وفمه المفتوح يسيل لعابا دبقا، ثقيلا. الخواطر تتزاحم في رأسه، تتعارك، تتصارع، الشعرتان، أيهما من الحاجب ؟ الخارطة المرسومة بضياء القمر، الأقفال، المذياع النائح، المذياع الطرب، حرقة بكائه ولوعته، الغداء، القهوة، الوجوه الرجراجه، كل هذه الأمور وغيرها دخلت رأسه حزمة واحده كبريق يخترق دجنة الليل. أنتفض جسده، كانت انتفاضه واضحه، كانتفاضة ذيل الأفعى المقطوع عن جسدها.
أدار عينيه نحو الطبيب، فبدت شبحيه، غامضة، مسكونة بالرعب الممزوج بالمجهول. بدت وكأنها غطست بالدم. تراخى جسد الطبيب تماما، بعفوية، مادت الأرض تحته، اجتاحه رعب هائل وتلبدت الرؤية أمامه.
كان المريض يغالب فكرة قاتله، استرجاع ما خرج منه. كان لا يزال يتأمل الخليط بطريقة مركزه. مد فمه المفتوح نحو المغسلة، خفض رأسه أكثر، ازداد اتساع فتحة فمه، وأستمر اللعاب الدبق يسيل، لكن بكميه أكبر. وصلت شفتاه قريبا من وجه الخليط فامتزج اللعاب به، التصق به التصاقا. وفي لحظة واحده، حاسمه، رفع رأسه وفتح صنبور الماء على أعلاه.
بدا مرهقا تماما، متعبا، وكأنه قادم من عالم أخر، عالم لا يوجد فيه غير العذاب. والطبيب كان لا يزال على حاله، يقف عاجزا، محشوا بالقهر والشفقة. حاول جاهدا أن يتصور ما حدث، أن يعيد لحظه من لحظات الألم، كي يستشعر شيئا حول حالة المريض. لم ير بحياته مثل هذا المشهد، أو حتى لم يسمع به. ما رآه اليوم، ما شاهده الآن، حالة جديدة، لم يدرسها في مناهج تعليمه، ولم يرو له أحد عن حاله شاذة كهذه. وظل واقفا، مسمرا، لا يتقن سوى الوقوف الساهم. وبصعوبة انتشل صوته من أعماقه انتشالا. سأل مريضه: هل يحدث هذا كثيرا معك؟ فأجابه: نعم، وأوضح أنه يود دائما، وفي كل مره، إعادة ما يتقيأ إلى جوفه من جديد، بسبب شعور غريب يجعله يحس بأن ما يخرج منه، هو جزء منه، من ذاته، من تكوينه، وأن التفريط به ليس حق من حقوقه.
بدأ يشعر منذ زمن بدوخان لذيذ وغثيان جميل، لكنه لم يستطع أن يحدد ماهية الألم الذي يحدث في جوفه، وكذلك الأطباء. وظل يعاني من حاجته للتقيؤ بشكل يومي. تمدد فوق السرير، تسمرت عيناه في سقف الغرفة، ودون أن يشعر بالنعاس ذهب في سبات عميق، وغاب في حلم لذيذ.
رأى أنه يجلس في سيارة متجها إلى مكان ما، وفيما هو جالس ينتظر سير السيارة، جلست بجانبه امرأة. لاحظته وهو يخفي بطنه بيده، ومغلقا فمه بالأخرى. سألته: إن كان يشعر بدوخان لذيذ وغثيان جميل؟ فتعجب من سؤالها له وهو لا يعرفها. سألته: إن كان يشعر بحاجه ماسه للتقيؤ بين الحين والأخر ؟ وان كان يشعر برغبة شديدة لإعادة ما يتقيأ إلى جوفه.
لم يصدق أذناه. نظر إلى المرأة، كانت تلبس ثوبا مطرزا، وجهها يختلط السواد فيه بسمار مخضر، يتوسطه أنف ضخم بفتحتين كبيرتين منفرتين، يدخل الهواء بهما كزوبعة صغيره، ويخرج منهما كعاصفة متساوقة مع حجميهما، تتناثر على كل قسماتها أوشام متداخلة، بلا ترتيب، بفوضويه. وفي أنفها تتعلق حلقه فضيه ضخمه. يداها وقدماها غاصة بالأوشام وكأنها قادمة من احتفال شيطاني كبير. عيناها كانتا تسبران أعماقه بطريقة عجيبة. كل ما فيها كان غريبا، مثيرا للدهشة. لكنه بينه وبين نفسه كان مشدودا نحوها، لأنه وبطريقه ما تيقن بأنها تملك قدره خارقه على استشراف الغيب. شرح لها كل ما يحس به. ابتسمت له وقالت: زرني غدا صباحا قبل شروق الشمس على هذا العنوان. ودست بيده قصاصه ورق بخط صبياني.
تقلب بنومه، فانتفض واقفا، وبسرعة مذهله كان على المغسلة يقذف من جوفه براكين ثائرة، غسل وجهه ويديه. حدق بما في المغسلة، تذكر الحلم، فتمنى لو ظل نائما حتى يشفى، أو على الأقل، أن يعرف الداء الذي به. راودته نفسه في ابتلاع القيء من جديد، قرب رأسه، فتح فمه، لكنه تراجع في اللحظة الأخيرة، وفتح صنبور الماء على أعلاه. فذاب القيء وتلاشى.
عاد إلى سريره، حاول أن ينام، كان يبحث عن بقية حلم قطعته عليه النباتات المنبجسه في أعماقه، في جوفه. لكن عبثا كل محاولاته كانت تذهب. النباتات المتحركة في جوفه، والقلق، نهاية حلمه. خلع منامته، ابتلعه الهدوء المسيطر. جالت خواطره كل طرقات المدينة وعادت إليه خاوية، خاليه من الدفء، من دفء امرأة بدويه تتعلق بأنفها المثقوب حلقة فضيه، ووجه يعج بأوشام متناثرة متنافرة. سأتجه لصديقي سمير، قال في نفسه. لا، سأتجه لصديقي يوسف، لا، لا، بل إلى صديقي سليمان، لا، بل يجب أن أتجه لبيت أخي.
سار وكله يدور في فراغ هائل نحو بيت أخيه. رفع يده ليطرق الباب، لكنه لم يستطع، ما هذه الزيارة الليلة المفاجئة؟ سأل نفسه؟ وعاد من فوره، ليدور في دائرة فراغ، داخل فراغ.
تسللت خيوط الفجر لتلامس جسده السائر وسط فراغ كامل. أحس بشيء من الدفء، حاول أن يبتسم، لكنه أمسك نفسه خوفا من اندفاع القيء، وظل يسير بقدميه في كل جنبات المدينة. أحس بالنباتات وهي تتحرك في جوفه. أمسك بطنه بيده وانفلت نحو حافة الشارع. رفع يده عن بطنه فاندفع القيء من فمه بشده غريبه.
أفاقت المدينة على شعاع الشمس. تدفقت الحياة، وعجت الشوارع بالبشر. وعلى طرف رصيف كانت جموع الناس تحتشد وهي تدمدم، تقدم طفل صغير، شق الحشود، فوجد المدينة تنظر إلى جسد مكوم فوق القيء، جثه هامدة لا حراك فيها يعلوها الذباب والبعوض، وتنهش جوانبها الجرذان المنتشرة هنا وهناك في المدينة.
مأمون أحمد مصطفى
فلسطين- مخيم طول كرم
1982 الكويت
مد جسده للأمام، فظهر جلده شديد اللمعان تحت سياط الشمس اللاهبه. نفرت أوردته من تحت الجلد، امتزج سمار بشرته بخضرة عروقه، نفرت عروقه بشده، تصلب جلده، تحسس بكف يده بطنه بشكل دائري، ضغط قليلا مكان المعدة، جحظت عيناه، ضغط من جديد، تربد وجهه، بدت تقاسيم وجهه تأخذ شكلا أسطوريا، تليفت أعصابه، وبدا العرق يتفصد من جبهته ومن تحت أذنيه. أحتضن بطنه بشدة، اصبحت حاجته للتقيؤ ماسه. هم بالنهوض لكنه عاد واجل ذلك لمرة أخرى.
رفع عينيه للسماء وكفه اليسرى تغلق فمه المتثائب، بدت السماء أشد عمقا وزرقة، أحس بإنبجاس نباتات شائكة في أعماقه، أشتدت وخزاتها، احتضن خصره بيديه بشكل دائري، شعر بحاجه ماسة للتقيؤ من جديد، ضغط بيديه على معدته، بقوه، كان يضغط بشكل تناغمي وكأنه يعزف لحنا، أو يضرب طبلا، طريقته بالضغط تدل على خبره طويله. دارت عيناه في الحديقه، فظهرت النباتات وهي تنشق عن اخضرار كثيف. تأمل الأخاديد الدقيقه التي تخلفها الديدان عادة أثناء مسيرتها فوق، وتحت الأرض حسب ما يحلو لها.
شعر بأنه يطفو فوق دوائر مائيه كالتي تتكون حين يلقي شخص ما حجرا في بركة، أو نهر، دوائر ذات مركز واحد، حاول أن يتكىء بظهره على الجدار، لكنه لم يجده مكانه. عاد شعوره اليه بضرورة التقيؤ، اتجه صوب المغسله، أنزل رأسه، وضع أصبعيه في فمه وأخرجهما بسرعة متناهية، ليفسح الطريق أمام السيل المندفع من داخله.
نظر إلى المواد الخارجه من جوفه، خليط مركب، تتداخل فيه الألوان، وتمتزج الروائح، نظر من جديد وكأنه يتفحص مشهدا خرافيا. أحس زئبقيتها دون أن يلمسها، صدمت أنفه الأبخره المتصاعده منها، أحس بأنها رائحه معهودة، تفوح من كل مكان يتواجد فيه، وكأنها رائحة ملتصقة بوجوده متمسكة ببقائه. أصبحت هذه الرائحه معهودة له. لم يتذمر منها، وان كان في بداية الأمر قد شعر بالتذمر الشديد، هو في الحقيقة - وللحقيقة فقط – لا يعرف ان كان تذمر منها سابقا أم لا، ان كان قد تعود عليها أم لا، ان كان يستحسنها أم لا. كل مشاعره مبهمه، مغمضه، بفعل حالة التشتت، التفرق، بين محاولات التحديد المضنية التي عاشها وهو يحاول بكل مضاء عزيمته أن يوجد الصله بين تواجده وبين هذه الرائحه، لكنه كان دائما يفشل، فقط يفشل.
امتدت يده نحو صنبور الماء، أراد أن يغرق هذا الخليط، ان يغيبه من أمامه، لكن شعورا غريبا أوقف يده عن الحركة. تأمل الخليط من جديد، أحس بأنه جزء منه، راوده شعور بابتلاعه، إلا أن التقزز دفعه لفتح صنبور الماء بسرعة عصبيه، لكن وهو مغمض العينين.
في الحقيقة هو لا يعرف، ولا يستطيع أن يعرف، أو يحدد، تماما، ان كان هناك أصلا شعور بالتقزز في نفسه، فالخليط كما هو متيقن، جزء منه، من ذاته، مكون أساسي داخل تركيبته الصعبة. هل كان متقززا فعلا حين غيب الخليط في جوف المغسله؟ فشل كعادته في الحصول على إجابة، فقط فشل.
دفع نفسه للخارج، ليس هناك مكان يود التوجه إليه، لكنه لا يريد أن يبقى وحيدا، هذا كل ما في الأمر. ابتلعه الزحام، وسارت به قدماه دون أن يتحكم بهما الدماغ. توقف قليلا أمام الإشارة الضوئية، تفرس الوجوه المحيطة به. بدت رجراجه غير واضحة المعالم أو التفاصيل، بدون لون، بدون نكهه، بدون رائحه، عدا الرائحة المعهودة التي يشتمها أينما تواجد، وجوه ملفعه بموجات ضباب مثقل غير متوازن. أحس زئبقيتها دون أن يلمسها. قفزت الفكرة إلى رأسه مرة واحده، الشبه بين هذه الوجوه، والقيء الذي ابتلعته مياه المغسلة واحد، إنبجست النباتات في جوفه انبجاسا مفاجئا حادا، وخزته بقوه.
انتشرت وخزاتها انتشارا سريعا، ممضا، أحس بحاجه للتقيؤ من جديد، حاجته للتقيؤ كانت ملحه، ماسه، شديدة الضرورة، تلفت حوله، رأى القيء يغطي مساحات الأفق كلها، ورذاذه كان ينتشر، يتناثر في كل مكان. بدت الجدران وهي تحتضن طحالب خضراء، داكنة الخضرة وكأنها سوداء من شدة الدكون. فرك عينيه بقوه، حدق في الأفق البعيد فوجده كما قبل، مشبع بالقيء المتناثر رذاذه على كل شيء. انتابه إحساس قاتل، إحساس بأن المدينة بكل ما فيها، بافقها، بامتداداتها، بنواتها، بذراتها، بدأت تغوص في جنون عاصفة يهيجها القيء. وبدت له وجوه المدينة كلها تستفرغ. لم يتبق شيء أو مكان، حتى الحجارة، الطحالب الداكنة الخضرة، الأرصفة، خطوط المشاة، الإشارات الضوئية، كل هذه، كل شيء، دخل في عملية الاستفراغ.
توغل بأعماقه شعور الرهبة، الرعب، تحركت النباتات في جوفه، انتفض انتفاضة حادة ممزوجة بصراخ تردد صداه في أفق المدينة.استرعى صراخه الناس، تلفتوا إليه، تلفت إليهم. افتقد مرة واحده صورة الأفق، الطحالب، الوجوه، الإشارات الضوئية، الحجارة، خطوط المارة، جميع هذه كانت على حالها، بلا قيء، بلا رائحه، بلا زئبقيه. حاول أن يربط اللحظة باللحظة، الدقائق التي مضت بالدقائق التي بين يديه، كي يستجمع صورة المدينة وهي تغوص بعجز متناه في جنون عاصفة من القيء، لكنه فشل في ذلك، فشل فقط. لكن هذه المرة أحس بأن الفشل لم يكن في ذاته فقط، بل في المدينة بأسرها، بل بالمدن، بالعواصم، في كل شيء وشيء. أحس بحاجته للتقيؤ، لكنه أمسك بطنه بيده، وحنجرته باليد الأخرى، وضاع في خضم السيل البشري المتلاحق والسريع.
دخل أحد المطاعم وطلب وجبة غداء، أشعل دخينه، تحسس جيبه، فبدا الاضطراب واضحا مع الاصفرار الذي كسا وجهه. وقف، اتجه صوب الخارج وهو يقول لصاحب المطعم: أجل الغداء، سأعود، فقط ساشتري علبة دخائن. دار طويلا في السوق، لكن لا جديد، الحوانيت، باعه متجولون، سيارات، مذياع نائح هنا، مذياع نائح هناك، آلات بشريه تتحرك باتجاهات متعاكسه، متضاربه، بين التجار، والأقفال.
خلع ملابسه وارتدى منامته، شق نافذته قليلا كي يترك نسيمات تضرب وجهه. كان بحاجه لنداوة النسيم، طراوته. مسح وجهه بيديه وأرسل عينيه لعتمة بدأت تنسل من خيوط النهار الراحل، أحس قليلا بالانتعاش، نظر صوب الحديقة فبدت الأشجار وهي تعانق هفيف النسيم، تتمايل بتؤده، بانسياب يشبه انسياب البط في الماء. تطلع نحو الأفق فوقع في دائرة ضياع من الهلام.
بدأ يحصي النجوم، مئه وعشرون، مئتا نجمه وواحدة، تطلع إلى القمر، راح يتأمل الخارطة المرسومة بضيائه، أحس بأنها تشبه خارطة الوطن العربي. تداعت أفكاره. فأحس برغبة شديدة بأن يتلو ( اقتربت الساعة وأنشق القمر ). تأمل من جديد، تلاشت الخارطة، تلاشى القمر، التهمته سحابة عابره، امتصته، تداعت أفكاره من جديد. أحس رغبة عارمه لأن يتلو (والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم ).
نظر من جديد، أضاع عدد النجوم التي أحصاها. أحس بحاجته للتقيؤ من جديد، تحركت النباتات في جوفه، بأمعائه، بأوردته، وخزته كعادتها بقوة، فأحس سمها يجري بشرايينه، يجري بدورته الدموية. تخاطرت دماغه مع الموت، مع العجز، مع عزرائيل. أندفع كثور محموم نحو المغسلة الموضوعة خارجا في الحديقة، ولما خفض رأسه وجدها عاجه بالبعوض والذباب والحشرات الصغيرة.
حمل علبة البن ليعد لنفسه فنجانا من القهوه، شعر أنها خفيفه، فتحها ونظر في داخلها. لا بأس، إنها تساوي مقدار فنجان إذا ما كشطت حوافها بواسطة سكين حاد. فتح نافذة المطبخ ليسلي نفسه إلى حين غليان الماء. تسربت إليه موجه خفيفه من هواء ناعم لامست وجهه وشاربه. مد يده ممسدا حاجبيه، أنزلها، حدق بها فألفاها تحمل شعرتين، من الحاجب ؟ أو الرمش ؟ لا يعلم. حاول أن يميز بين الشعرتين، أن يجد بينهما فرقا، اختلافا، حتى يستطيع أن يجزم بأنهما ليسا من نفس المكان. بل واحده من الرمش، والأخرى من الحاجب. فكرة الفصل بين الشعرتين أخذت منه وقتا طويلا. تعامل مع هذه المسالة وكأنها ستنهي مشاكل الكون. أو كأنها ستشفيه من دائه المستبد فيه. وأخيرا قرر أن بين هاتان الشعرتان اختلافا واضحا –هكذا أقنع نفسه – معنى هذا أنهما ليسا من نفس المكان، بل واحده من الحاجب والأخرى من الرمش. المسألة هذه أضحت مستعصيه، تمحورت حول بؤرتها، حول نواتها، كل مناحي تفكيره، كل قدراته العقلية.
لو كانت هذه المسألة تعني، أو تعود إلى منفعه واحده، لكان استغراقه فيها مقبولا، مبررا، يركب على العقل. أصبح دماغه ثقيلا، يخض داخل جمجمته، يتأرجح بين الاهتزاز والاهتزاز. ضاق صدره لدرجه أنه أحس بأن كل مكوناته سوف تطير خارج إطارها.
رفع عينيه، أرسل نظره للأفق البعيد، كانت الظلمة تمعن بنصل خنجرها في بقايا نهار يرحل. حدق بالشعرتين من جديد، حدق طويلا، ثم نفخ عليهما نفخة قويه، فغابتا عن ناظريه. عبثاّ حاول تحديد مكانهما. ولم يفق من سهومه إلا حين فارت المياه وانسكبت على عين الغاز محدثة نفس الصوت المألوف حين ينسكب الماء على قطعة حديد ساخنة.
وضع كأس البن، حمل المذياع وبدأ يدير موجاته بحثا عن نشرة أخبار. ظل يدير المفتاح دون وعي. هو يريد أن يسمع أخبارا جديدة عن عالم يعيش فيه طوال حياته دون أن يفهمه، دون أن يقيم أي صله بينه وبين أحداثه. كثيرا ما فكر في هذا الأمر وسأل ذاته: ما الذي يربطني بهذا الوجود، بهذا المحيط المتدفق اللاواعي، اللامسؤول. الحياة تسير بطريقه معقده، معقده إلى حد النزول بهوة سحيقة، عميقة الدجنة والد موس حين تحاول التواصل مع مجرياتها. كل شيء يسير بطريقة غير واضحه، غير مفهومه، والناس. كل الناس، يحسبون أنفسهم واعين تماما لمسيرة الحياة. بل أنهم يدعون، وببساطه، بساطه تامة، أن حقائق الحياة، الوجود، تسكن أعماقهم منذ زمن بعيد، بعيد.
تنبه لمفتاح المحطات بين يديه. أداره من جديد، ولما لم يجد ما يريد – إن كان يعرف ما يريد أصلا – وقف غاضبا، متوردا، تكثف جلده، تصلب، تناثرت حبات العرق على جبهته ووجهه، تكثفت، تجدولت خلف الأذنين وفوق الذقن، انسابت لاذعة، كاويه. أطفأت بريق عينيه الملتهب. مسح عينيه بكم منامته، فظهرت عيناه وهما تحملان توقدا. دارت في المحاجر دورة كاملة. تأمل المذياع، حقد عليه، وجه لكمه للحائط، لكمه قاسيه به، لكن لم يصدر عن الحائط أي أنين ينم عن ألم. وسكنت حركة المذياع سكون الموت نفسه.
احتسى كأس القهوه المثلج مرة واحده، خلع منامته وارتدى ملابسه المكوية الأنيقة، فابتلعه ظلام الممر الجانبي لفترة قصيرة قبل أن يظهر تحت أضواء الشارع. تسلقت قدماه الرصيف، وأخذت ساقاه تتأرجح بين وجه الرصيف وهفيف النسيم الطري الناعم.
جلس على أحد المقاعد العامة، أخفى رأسه بين كفيه وأجهش ببكاء متواصل، صامت، بكى بحرقه، بلوعه، بانجذاب عظيم نحو الحزن، الهلع، الكآبة، دون أن تنزل من عينيه أية دمعه. تحركت النباتات في جوفه، ببطء قاتل، ممل، ولكن بألم حاد. كان الألم يتحرك في جوفه كشفرات ترتطم بحشاياه، بأحشائه. اشتد بكاؤه، اشتدت لوعته، تعاظمت كآبته. فتأكد، بل أيقن أن النباتات التي في جوفه تنتعش، فتطل برؤوسها حين يبكي بصورة غير معهودة. لأن دموعه تنساب في داخله فترويها. لذلك انقطع عن البكاء وقرر الذهاب للطبيب فورا.
ظهرت علامات الدهشة وعدم التصديق واضحة على نظرات الطبيب المخفية تحت نظارتيه. لكنه تمشيا مع الحالة النفسية منح مريضه عنوان طبيب مشهور، ونصحه بالذهاب إليه لأنه خبير بمثل هذه الأمور.
تمدد على سرير الكشف عاريا كما ولدته أمه. بدا جلده ملونا، مكدما، غريبا، متموجا. يبث القشعريرة في البدن. اقترب الطبيب من الجسد، حاول أن يتحسسه، لكنه تراجع. بدا وكأنه جلد حرشفي، كجلد تمساح هرم، وظهر الشعر الكثيف المزروع فوق الجلد كأنه ابر تحمل رؤوسا سامه.
وقف الطبيب مذهولا، عاجزا. استجمع قوته بعد دقائق، كدسها، وعاد ليقترب من السرير. أغمض عينيه، مد يده نحو الجسد المطروح فوق سرير الكشف. انفلت الجسد سريعا، وقف وسط الغرفة ويديه تطوقان خصره. كان يدور، ويدور، ويدور، بسرعة جنونيه. انبجست النباتات في جوفه. قاوم رغبته العارمة في التقيؤ. أغلق فمه بباطن يده. وكثور ذبح من الوريد إلى الوريد، اندفع نحو المغسلة، فانفلت من داخله نفس الشيء الزئبقي كبركان ثائر. تأمل ما خرج منه، تفحصه بدقه، بنهم، أحس بأنه جزء منه، جزء من ذاته، لا يمكن التفريط به أو التنازل عنه. تدفق الإحساس فيه لإعادة هذا الخليط إلى جوفه، بكل ألوانه، بكل حرارته، بكل الأبخرة المتصاعدة منه. بكل ما فيه من تقزز، و نتن.
مد رقبته للمغسلة وفمه المفتوح يسيل لعابا دبقا، ثقيلا. الخواطر تتزاحم في رأسه، تتعارك، تتصارع، الشعرتان، أيهما من الحاجب ؟ الخارطة المرسومة بضياء القمر، الأقفال، المذياع النائح، المذياع الطرب، حرقة بكائه ولوعته، الغداء، القهوة، الوجوه الرجراجه، كل هذه الأمور وغيرها دخلت رأسه حزمة واحده كبريق يخترق دجنة الليل. أنتفض جسده، كانت انتفاضه واضحه، كانتفاضة ذيل الأفعى المقطوع عن جسدها.
أدار عينيه نحو الطبيب، فبدت شبحيه، غامضة، مسكونة بالرعب الممزوج بالمجهول. بدت وكأنها غطست بالدم. تراخى جسد الطبيب تماما، بعفوية، مادت الأرض تحته، اجتاحه رعب هائل وتلبدت الرؤية أمامه.
كان المريض يغالب فكرة قاتله، استرجاع ما خرج منه. كان لا يزال يتأمل الخليط بطريقة مركزه. مد فمه المفتوح نحو المغسلة، خفض رأسه أكثر، ازداد اتساع فتحة فمه، وأستمر اللعاب الدبق يسيل، لكن بكميه أكبر. وصلت شفتاه قريبا من وجه الخليط فامتزج اللعاب به، التصق به التصاقا. وفي لحظة واحده، حاسمه، رفع رأسه وفتح صنبور الماء على أعلاه.
بدا مرهقا تماما، متعبا، وكأنه قادم من عالم أخر، عالم لا يوجد فيه غير العذاب. والطبيب كان لا يزال على حاله، يقف عاجزا، محشوا بالقهر والشفقة. حاول جاهدا أن يتصور ما حدث، أن يعيد لحظه من لحظات الألم، كي يستشعر شيئا حول حالة المريض. لم ير بحياته مثل هذا المشهد، أو حتى لم يسمع به. ما رآه اليوم، ما شاهده الآن، حالة جديدة، لم يدرسها في مناهج تعليمه، ولم يرو له أحد عن حاله شاذة كهذه. وظل واقفا، مسمرا، لا يتقن سوى الوقوف الساهم. وبصعوبة انتشل صوته من أعماقه انتشالا. سأل مريضه: هل يحدث هذا كثيرا معك؟ فأجابه: نعم، وأوضح أنه يود دائما، وفي كل مره، إعادة ما يتقيأ إلى جوفه من جديد، بسبب شعور غريب يجعله يحس بأن ما يخرج منه، هو جزء منه، من ذاته، من تكوينه، وأن التفريط به ليس حق من حقوقه.
بدأ يشعر منذ زمن بدوخان لذيذ وغثيان جميل، لكنه لم يستطع أن يحدد ماهية الألم الذي يحدث في جوفه، وكذلك الأطباء. وظل يعاني من حاجته للتقيؤ بشكل يومي. تمدد فوق السرير، تسمرت عيناه في سقف الغرفة، ودون أن يشعر بالنعاس ذهب في سبات عميق، وغاب في حلم لذيذ.
رأى أنه يجلس في سيارة متجها إلى مكان ما، وفيما هو جالس ينتظر سير السيارة، جلست بجانبه امرأة. لاحظته وهو يخفي بطنه بيده، ومغلقا فمه بالأخرى. سألته: إن كان يشعر بدوخان لذيذ وغثيان جميل؟ فتعجب من سؤالها له وهو لا يعرفها. سألته: إن كان يشعر بحاجه ماسه للتقيؤ بين الحين والأخر ؟ وان كان يشعر برغبة شديدة لإعادة ما يتقيأ إلى جوفه.
لم يصدق أذناه. نظر إلى المرأة، كانت تلبس ثوبا مطرزا، وجهها يختلط السواد فيه بسمار مخضر، يتوسطه أنف ضخم بفتحتين كبيرتين منفرتين، يدخل الهواء بهما كزوبعة صغيره، ويخرج منهما كعاصفة متساوقة مع حجميهما، تتناثر على كل قسماتها أوشام متداخلة، بلا ترتيب، بفوضويه. وفي أنفها تتعلق حلقه فضيه ضخمه. يداها وقدماها غاصة بالأوشام وكأنها قادمة من احتفال شيطاني كبير. عيناها كانتا تسبران أعماقه بطريقة عجيبة. كل ما فيها كان غريبا، مثيرا للدهشة. لكنه بينه وبين نفسه كان مشدودا نحوها، لأنه وبطريقه ما تيقن بأنها تملك قدره خارقه على استشراف الغيب. شرح لها كل ما يحس به. ابتسمت له وقالت: زرني غدا صباحا قبل شروق الشمس على هذا العنوان. ودست بيده قصاصه ورق بخط صبياني.
تقلب بنومه، فانتفض واقفا، وبسرعة مذهله كان على المغسلة يقذف من جوفه براكين ثائرة، غسل وجهه ويديه. حدق بما في المغسلة، تذكر الحلم، فتمنى لو ظل نائما حتى يشفى، أو على الأقل، أن يعرف الداء الذي به. راودته نفسه في ابتلاع القيء من جديد، قرب رأسه، فتح فمه، لكنه تراجع في اللحظة الأخيرة، وفتح صنبور الماء على أعلاه. فذاب القيء وتلاشى.
عاد إلى سريره، حاول أن ينام، كان يبحث عن بقية حلم قطعته عليه النباتات المنبجسه في أعماقه، في جوفه. لكن عبثا كل محاولاته كانت تذهب. النباتات المتحركة في جوفه، والقلق، نهاية حلمه. خلع منامته، ابتلعه الهدوء المسيطر. جالت خواطره كل طرقات المدينة وعادت إليه خاوية، خاليه من الدفء، من دفء امرأة بدويه تتعلق بأنفها المثقوب حلقة فضيه، ووجه يعج بأوشام متناثرة متنافرة. سأتجه لصديقي سمير، قال في نفسه. لا، سأتجه لصديقي يوسف، لا، لا، بل إلى صديقي سليمان، لا، بل يجب أن أتجه لبيت أخي.
سار وكله يدور في فراغ هائل نحو بيت أخيه. رفع يده ليطرق الباب، لكنه لم يستطع، ما هذه الزيارة الليلة المفاجئة؟ سأل نفسه؟ وعاد من فوره، ليدور في دائرة فراغ، داخل فراغ.
تسللت خيوط الفجر لتلامس جسده السائر وسط فراغ كامل. أحس بشيء من الدفء، حاول أن يبتسم، لكنه أمسك نفسه خوفا من اندفاع القيء، وظل يسير بقدميه في كل جنبات المدينة. أحس بالنباتات وهي تتحرك في جوفه. أمسك بطنه بيده وانفلت نحو حافة الشارع. رفع يده عن بطنه فاندفع القيء من فمه بشده غريبه.
أفاقت المدينة على شعاع الشمس. تدفقت الحياة، وعجت الشوارع بالبشر. وعلى طرف رصيف كانت جموع الناس تحتشد وهي تدمدم، تقدم طفل صغير، شق الحشود، فوجد المدينة تنظر إلى جسد مكوم فوق القيء، جثه هامدة لا حراك فيها يعلوها الذباب والبعوض، وتنهش جوانبها الجرذان المنتشرة هنا وهناك في المدينة.
مأمون أحمد مصطفى
فلسطين- مخيم طول كرم
1982 الكويت