د. سليمان ناصر إبراهيم عبد الله - سماحة جمــل الطين

يا حليلو سمح ونضيف!!..​
هكذا جاءت كلمات أم سلمة وهي تصف سيف بن النضيف. الشاب الوسيم الذي طالما حلم والده بأن يكون وريث الكرم الذي تربع والده على عرشه في القرية. وولي عهد مملكة الشجاعة التي كان والده تمثالها الذي يعرف به الناس معني الشجاعة والرجولة. ولكن لم يكن سيف كذلك فهو لم يحمل من والده سوى اسم النضيف هذا. وبينما هو دون سن البلوغ ذهب والده ذات مرة بعد أن هطلت الأمطار ليملأ كركور التبلدية التي كانوا يتخذونها مستودعا لتخزين المياه التي تقيهم عطش الصيف المهين . إذ لا يمكن لرجل كريم مثل النضيف يرتاد بيته الداني والقاصي أن يكتفي في يومه وليلته بقربتين من الماء. يأتي بهما الأولاد بعد مسيرة أربعة ساعات ذهابا وأيابا. فكان لزاما عليه أن يملأ تبلديته تلك حتي تعينه علي ممارسة عادته في اكرام ضيوفه وإغاثة الملهوفين. اعدت الزوجة الأصيلة بتول الزاد لزوجها وابنته زينوبة . وجهز النضيف حماره الدنقلاوي فأسرجه ووضع عليه الفروة وحمل زاده وردف ابنته زينوبة خلفه وإنطلقا قاصدين التبلدية. كان طوال الطريق يتحدث مع بنته زينوبة مظهرا حبه لها , وفخره بها رغم صغر سنها. حدثها عن أجدادها وتاريخهم وكيف أنهم أسسوا القرية بعد معارك مع أعداءهم . حدثها عن نسبها وأماكن تواجد أهلها وأصلهم . حدثها عن الكرم ودوره في سيادة أسرتها. حدثها عن الزواج وما يتمني لها. ولم يدري أن تلك هي وصاياه الأخيرة لزينوبة . وصل الي زراعته وربط حماره واتجه الي التبلدية وزينوبة تحمل الزاد من خلفه. تسلق التبلدية لينظف الكركور قبل أن يصب عليه الماء . فلما نزل بداخله لدغه (الدابي الأزرق) ذلكم الثعبان الذي لا ينجو من لدغته أحد أصيب بها . فسمعت زينوبة صوت والدها وهو يتأوه , فبادرت منادية أياه:​
(يااابا .. ياابا .. يابا مااالك)؟.​
وأما هو فقد أيقن بأن بقاؤه بالداخل لدقائق سيصعب من مهمة ذويه من بعده. فبادر بالخروج من الكركور مسرعا . ولكن عندما حاول النزول من التبلدية , كان السم قد سري في جسده . فلم يتمالك نفسه فسقط واخبر زينوبة قائلا:​
(لدغت جيبي الحمار قبال نغييب).​
أحضرت زينوبة الحمار وهي تبكي , فساعدها بحمل نفسه علي الحمار وقال لها:​
- أسرعي.​
فلما وصل الي طرف القرية سقط من الحمار وهو يتصبب عرقا وقد أغمي عليه تماما . فحمله الناس الي بيته. وخرج الناس الي بيت النضيف , وكان من أولهم حاج حسين حاملا عكازه . كان كلما مر علي بيت صاح بقوله:​
( ها ناس البيت سلام عليكم , ماشين علي النضيف دا جابوه من الوادي لديغ وقالو حالتو خترة (خطرة).​
فسرعان ما ينهض أهل ذلكم البيت مسرعين الي بيت النضيف . فتجمع كل أهل القرية في بيت النضيف. (جيبوا حجر السم , أغلوا المرَّاية , ها نسوان جيبن الشيح ...) هذه هي كلمات كبار القرية والخبراء. وهذا هو الطب المتوفر لديهم . فإسعافهم حجر السم وطبيبهم اكثرهم خبرة والمرَّاية ووكيلهم قولهم: الله كريم. ولكن فشلت كل المحاولات وقبل أن تغيب شمس ذلكم اليوم كان النضيف قد خلع ثوب الحياة وطلق عالم الظاهر ورحل بلا عودة.​
لبست كل القرية ثوب الحداد عدا سيف الذي كان كأنه في مسرح ينظر الي الناس وهم يبكون فيبكي وحسب. فمنذ هذا اليوم الي الشهر الثالث يحرم علي القرية الفرح. وأما أهل البيت فلن تسمع لهم صوت فرح ولن تشتم لهم رائحة طيب حتي يحول الحول علي وفاة النضيف. نصب الناس خيام الفراش(المأتم) وتكاسر الناس من القري المجاورة, وجاء أهله من الأماكن المتفرقة, وجاء والوليدات من المدينة عن بكرة أبيهم .وناح النسوان بقولهن: ( أخوي الكان للضيوف عشاي , وأخوي الكان للعروض غطاي , أخوي أسد الكداد للنمور لاواي .....) وهكذا مرت ثلاثة أيام ورفع الفراش. ثم الاربعين والثلاثة أشهر وكرامة السنة. كان سلوان الناس في فقدهم قولهم ( الخلف ما مات) في إشارة الي سيف. ولكن سيف لم يكن النضيف الخليفة . فقد كان بموت والده قد خلي له وجه الأرض ليفعل ما يريد من هوى نفسه. فصحب أسوء شباب القرية أخلاقا (ناس الكاتل حيلو) كما يسميهم الناس. وأصبحوا ينتقلون من أندية الي أنداية(الحانة) . فتقطع قلب والدته من الهم والحزن. فجمعت له أخواله وأعمامه , ولكن لم يكن يحترمهم حتي يسمتع الي كلامهم. فحاولوا معه كثيرا ثم تركوه. فأصبح أسبوعيا يبيع نعجة أو حملا حتي يستمتع هو وأصحاب السوء بشرب المريسة والعرقي ويجلسون الي الفداديات وبنياتهن. هكذا مرت الأيام ونفدت أموال النضيف التي كانت تعد لإكرام الضيوف. وقد تهدم الديوان الذي كان يقصده الناس في أسفارهم من قرية الي قرية. أصبح من يزر ديار النضيف كأنه يزور المقابر فلا أحد يكرم أو يجود. فالوالدة قد أقعدها المرض والحزن. وأما زينوبة فقد تزوجها الفكي حمد الذي يكبرها بعشرين سنة بإصرار من زوجته حسنية إكراما لوالدها النضيف الذي كان يكيل لهم صنوف الإكرام والجميل. وأما سيف فهو لا يأت البيت إلا للنوم وهو مخمور لا يعي ما يقول. وبعد نفاد ثروته أصبح لا أحد يسقيه الخمر لأن الضأن قد فني والبقر قد أخذها عمران في دين سيف بإسم كرامة السنة لوالده , بعد أن قال بأنه سوف يحاسبه بعد أن يكفي ضيوفه. لكن سيف كان قد أخذا المبلغ من أعمامه وأخواله ولم يدفعه لعمران ولم يعرف بذلك أحد إلا بعد ثلاث سنوات عندما أصبح البيت خاليا فخاف عمران من ضياع ماله . تحرك عمران أخيرا وأخبر أعمام سيف فاعطوه البقر بعد إقرار سيف. عندها سدت الأبواب في وجه سيف. لم يجد نقودا ليصرفها علي الخمر والنساء. ظل محتارا في أمره, فهو لم يتعلم أيَّ عمل في حياته. فسلك مسلكا صعبا وهو يبدو له سهلا. سرق سيف ذهبا لخالته أمونة كانت تكنزه إتقاءا لنكبات الدهر. وكان أثر أقدام السارق واضحة علي عتب البيت .فقام الناس الي الفزع وتحزموا يقصوت أثار أقدام السارق .فعرفها بعضهم ولكنهم واصلوا البحث عنه , فوجدوه مختبئا تحت أشجار كثيفة في قرية قرب قريتهم فقبضوا عليه وشد شيخ تلكم القرية التي وجدوه بقرها وثاقه.فهذه الأرض ليست بالهاملة , فلابد أن يستخدم الشيخ سلطاته. وإن كان أصحاب المال هم أهل السارق. فهذه قوانينهم العرفية ولا يحق لأيّ شخص مهما كان أن يتجاوزها, وإن كان السارق أبن الشيخ نفسه فلابد أن يربط في راكوبة الشيخ الكبيرة . ويتم إكرام أهل الفزع مهما كانت المسافة قريبة (فهذه القرية ليست بمقابر حتي تعبر بدون إكرام الفزع)وخاصة بعد اللحاق بالسارق والقبض عليه فلا عذر البتة في التعجل بالرجوع. جاءت فتيات القرية وفتيانها ليروا الحرامي كما يقولون . وكان سيف شخص وسيم ومعدنه من أبيه وأميه إيضا نفيس . ولكن نفسه والخمر وصحبة السوء هي من ألقت به في هذه الحال. فقالت احدي الفتيات متحسرة ( ولد سمح زي دا بسرق؟) فردت عليها إحدي الحبوبات بقولها: ( سمح!!! لكن سماحة جمل الطين).. فقال الحاج حسن باكيا صديقه النضيف ومتحسرا علي حال سيف الذي كان يفترض له وراثة والده في الكرم والعز والشرف:​
الزول إن تبع نفسو الجمال ما بفيدو​
ما بفيدو الأصل وكتين يكسر قيدو​
زي حاج النضيف الخملى يبقي وليدو​
يرزح في القيود يبقي الحرامي نديدو.​

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى