دلني أحد بلدياتي على هذا البيت لأسكنه، وقتها قابلتني صاحبة البيت في ريبة، نظرتْ إلى ملابسي في دهشة، فهي تُسَكِّنْ عادة الذين يأتون من قراهم ليعملوا شهور الصيف في الإسكندرية، ويتركون أكواخ السطح في الشتاء، يعودون إلى قراهم يعملون في الزراعة. لكنني أرتدي القميص والبنطلون، وأضع نظارة طبية على عيني. قالت:
- ماذا تعمل؟
- طالب في كلية
مصمصتْ شفتيها عجباً وقالتْ:
- وما الذي رماكْ علينا؟!
- لا أجد سكنًا.
- ستسكن مع اثنين غيرك.
أحسستُ بالخوف من التجربة، فصمتُ، كيف أنام مع آخرين لا أعرفهم؟! صاحت في حدة:
- قل لي، وافقت أم لا؟
أومأتُ برأسي مضطرا، فسارت وسرتُ خلفها، صعدنا درجات السلم، وصعدت السطح الكبير الممتلئ بالأكواخ.
فتحتْ قفل باب الكوخ المواجه للسلم، وأفسحتْ مكاناً لأدخل قبلها، كانت هناك أشياء ملقاة على الأرض، وملابس معلقة على مسامير مثبتة على الأعمدة الخشبية.
رميتُ حقيبتي على الأرض، ففردتْ يدها أمامي، فأخرجتُ الأجرة - قروش قليلة - وضعتُها في يدها، فأمسكتْ طرف ثوبها الحريري المزركش وهزت جسدها وسارت تتبختر.
فردتُ جسدي على حصيرة فوق أرض السطح الأسمنتية، أحسستُ بالراحة، ساعات طويلة لم أرتح فيها، أسير من مكان لآخر باحثاً عن مكان أنام فيه في هذه المدينة التي أأتيها لأول مرة.
لا أدري كيف نمت، أيقظتني الجلبة، شابان يرتديان الملابس البلدية، يقفان أمامي، أحدهما يحمل طبلة مغطاة بقطعة قماش من العبك المتسخ.
قرفصتُ على الأرض، فابتسما لي:
- أنت الساكن الجديد؟
جاءتْ فتاة نحيفة وأمها من الكوخ المجاور يحملان الأطعمة، سألتْ الفتاة:
- ستتناولان الطعام هنا، أم في كوخنا؟
قال الشاب الذي مازال يحمل الطبلة:
- هنا، لكي يشاركنا الساكن الجديد طعامنا.
أردتُ أن أعتذر، أو أن أرفض بإصرار، لكن الفتاة النحيفة الطويلة انحنت على ركبتيها، ولامست ساقيّ قائلة:
- لن نمد أيادينا إلا إذا أكلت معنا.
وضعوا " الطبلية " التي كانت مرتكنة على حافة الكوخ، ووضعوا أطعمة كثيرة. كانوا يضحكون ويسخرون من أشياء كثيرة طوال الوقت؛ مِنْ صاحبة البيت البدينة المتصابية، ومن رجال ونساء لا أعرفهم.
عرفتُ أن المرأتين ترقصان، وأحد الشابين يدق على الطبلة، والآخر يرقص بالصاجات. إنهم لا يعملون في مكان محدد. يطوفون الشوارع. إذا ما وجدوا أنوارًا تنبيء عن وجود حفل؛ يَدْخلون البيت ويدقون الطبلة والصاجات وترقص المرأتان، ويلحون على الموجودين في الحصول على " النقطة "، حتي يجنوا منهم مبالغ كثيرة.
جاءت أم الفتاة بالوابور من الكوخ الآخر، أشعلته وهي تضحك وتهز جسدها وعينيها، بُهرت الفتاة عندما علمت أنني طالب في كلية؛ فجلستْ بجواري، التصقت بجسدي، والشابان الآخران يتابعنها في ابتسام. قالت الأم وهي تضع الماء على النار لتعد الشاي:
- تعرف الحساب؟
- أعرفه.
- من الآن، ستحسب النقود التي نجمعها كل يوم، وتقوم بقسمتها بيننا بنفسك.
أخرج الشاب الطبلة من مكمنها، أمسكها في حرص، فنظروا إليها باهتمام، المرأة التي تعد الشاي لفت رقبتها ولم تعدلها إلا بعد أن وضع الشاب الطبلة بين ساقيه، إنها أغلى شيء يمتلكونه.
دق الشاب عليها، فهزت الفتاة جسدها فرحة، وهي تتابعني.
صبت المرأة الشاي في أكواب صغيرة، وركنت ظهرها على حافة الكوخ الصفيحي، ومدت ساقيها في تلذذ، ورشفتْ الشاي بصوت مسموع؛ وهي تتابع الشاي في الكوب خشية أن ينفد فجأة.
بعد وقت قصير أحست المرأة بالرغبة في النوم فشدت ابنتها لتدخل الكوخ معها، لكن الفتاة لم ترغب في ذلك، تريد أن تتحدث معي. عندما سارت نحو الباب، لوحت لي بيدها.
**
مرت الأيام مسرعة، أذهب إلى الكلية كل يوم، وأعود قبل العصر بقليل، أفتح القفل وأدخل الكوخ، أضع ورق الجرائد على الطبلية وأستذكر، لا أتناول طعامي إلا بعد أن يعودوا مساءً، أشتري "الهريسة" للفتاة، أخفي الشيكولاتة التي قد يهديها له أحد أصدقائي؛ وأعطيها لها.
سمعتُ صوت احتكاك أحذيتهم بدرجات السلم، لكنني لم أسمع صوت ضحكهم وغنائهم ككل ليلة، سمعتُ صوت دخول المفتاح في قفل الكوخ المجاور، لم يأتوا إليْ ككل ليلة، لم يرموا في قفطاني ما جمعوه من الناس لأعده وأقسمه بينهم، لم أسمع لهم صوتاً. قمتُ فزعاً.
كانت الفتاة باكية، والمرأة تربط رأسها بإيشاربها من شدة الألم والحزن، والشابان ينظران إلى الأرض في حزن.
- ما الذي حدث؟
لم يجب أحد، تابعتهم في دهشة. رأيتُ شكل الطبله متغيرا، قماشة العبك المتسخ ملقاة في إهمال فوق الحصير المتآكل الأطراف، انحنيتُ ومددت يدي ناحيتها، أمسكتُها بحرص. أخرجتُ الطبلة من مكمنها، كانت مكسورة.
- من الذي كسرها؟
لم يجبني أحد، لكن الفتاة والمرأة انخرطتا في البكاء، والشاب الذي كان يدق عليها بكي في حرقة فتبعه الآخر.
قلتُ:
- لماذا كل هذا الحزن؟
صاحت المرأة في صوت كالعديد:
- من أين لنا بثمنها؟
وأكملت الفتاة:
- ما نجمعه من الناس ننفقه على أكلنا وشرابنا.
- والعمل؟!
خرجتُ في الصباح إلى كليتي وتركتُ الشابان نائمين كالعادة، لكنه عندما عدتُ ككل يوم، وجدتُ صاحبة البيت أمام باب شقتها ممسكة بطرف ثوبها قائلة:
- جيرانك تركوا الكوخين، انتظر جيران آخرين خلال يومين أو ثلاثة.
- ماذا تعمل؟
- طالب في كلية
مصمصتْ شفتيها عجباً وقالتْ:
- وما الذي رماكْ علينا؟!
- لا أجد سكنًا.
- ستسكن مع اثنين غيرك.
أحسستُ بالخوف من التجربة، فصمتُ، كيف أنام مع آخرين لا أعرفهم؟! صاحت في حدة:
- قل لي، وافقت أم لا؟
أومأتُ برأسي مضطرا، فسارت وسرتُ خلفها، صعدنا درجات السلم، وصعدت السطح الكبير الممتلئ بالأكواخ.
فتحتْ قفل باب الكوخ المواجه للسلم، وأفسحتْ مكاناً لأدخل قبلها، كانت هناك أشياء ملقاة على الأرض، وملابس معلقة على مسامير مثبتة على الأعمدة الخشبية.
رميتُ حقيبتي على الأرض، ففردتْ يدها أمامي، فأخرجتُ الأجرة - قروش قليلة - وضعتُها في يدها، فأمسكتْ طرف ثوبها الحريري المزركش وهزت جسدها وسارت تتبختر.
فردتُ جسدي على حصيرة فوق أرض السطح الأسمنتية، أحسستُ بالراحة، ساعات طويلة لم أرتح فيها، أسير من مكان لآخر باحثاً عن مكان أنام فيه في هذه المدينة التي أأتيها لأول مرة.
لا أدري كيف نمت، أيقظتني الجلبة، شابان يرتديان الملابس البلدية، يقفان أمامي، أحدهما يحمل طبلة مغطاة بقطعة قماش من العبك المتسخ.
قرفصتُ على الأرض، فابتسما لي:
- أنت الساكن الجديد؟
جاءتْ فتاة نحيفة وأمها من الكوخ المجاور يحملان الأطعمة، سألتْ الفتاة:
- ستتناولان الطعام هنا، أم في كوخنا؟
قال الشاب الذي مازال يحمل الطبلة:
- هنا، لكي يشاركنا الساكن الجديد طعامنا.
أردتُ أن أعتذر، أو أن أرفض بإصرار، لكن الفتاة النحيفة الطويلة انحنت على ركبتيها، ولامست ساقيّ قائلة:
- لن نمد أيادينا إلا إذا أكلت معنا.
وضعوا " الطبلية " التي كانت مرتكنة على حافة الكوخ، ووضعوا أطعمة كثيرة. كانوا يضحكون ويسخرون من أشياء كثيرة طوال الوقت؛ مِنْ صاحبة البيت البدينة المتصابية، ومن رجال ونساء لا أعرفهم.
عرفتُ أن المرأتين ترقصان، وأحد الشابين يدق على الطبلة، والآخر يرقص بالصاجات. إنهم لا يعملون في مكان محدد. يطوفون الشوارع. إذا ما وجدوا أنوارًا تنبيء عن وجود حفل؛ يَدْخلون البيت ويدقون الطبلة والصاجات وترقص المرأتان، ويلحون على الموجودين في الحصول على " النقطة "، حتي يجنوا منهم مبالغ كثيرة.
جاءت أم الفتاة بالوابور من الكوخ الآخر، أشعلته وهي تضحك وتهز جسدها وعينيها، بُهرت الفتاة عندما علمت أنني طالب في كلية؛ فجلستْ بجواري، التصقت بجسدي، والشابان الآخران يتابعنها في ابتسام. قالت الأم وهي تضع الماء على النار لتعد الشاي:
- تعرف الحساب؟
- أعرفه.
- من الآن، ستحسب النقود التي نجمعها كل يوم، وتقوم بقسمتها بيننا بنفسك.
أخرج الشاب الطبلة من مكمنها، أمسكها في حرص، فنظروا إليها باهتمام، المرأة التي تعد الشاي لفت رقبتها ولم تعدلها إلا بعد أن وضع الشاب الطبلة بين ساقيه، إنها أغلى شيء يمتلكونه.
دق الشاب عليها، فهزت الفتاة جسدها فرحة، وهي تتابعني.
صبت المرأة الشاي في أكواب صغيرة، وركنت ظهرها على حافة الكوخ الصفيحي، ومدت ساقيها في تلذذ، ورشفتْ الشاي بصوت مسموع؛ وهي تتابع الشاي في الكوب خشية أن ينفد فجأة.
بعد وقت قصير أحست المرأة بالرغبة في النوم فشدت ابنتها لتدخل الكوخ معها، لكن الفتاة لم ترغب في ذلك، تريد أن تتحدث معي. عندما سارت نحو الباب، لوحت لي بيدها.
**
مرت الأيام مسرعة، أذهب إلى الكلية كل يوم، وأعود قبل العصر بقليل، أفتح القفل وأدخل الكوخ، أضع ورق الجرائد على الطبلية وأستذكر، لا أتناول طعامي إلا بعد أن يعودوا مساءً، أشتري "الهريسة" للفتاة، أخفي الشيكولاتة التي قد يهديها له أحد أصدقائي؛ وأعطيها لها.
سمعتُ صوت احتكاك أحذيتهم بدرجات السلم، لكنني لم أسمع صوت ضحكهم وغنائهم ككل ليلة، سمعتُ صوت دخول المفتاح في قفل الكوخ المجاور، لم يأتوا إليْ ككل ليلة، لم يرموا في قفطاني ما جمعوه من الناس لأعده وأقسمه بينهم، لم أسمع لهم صوتاً. قمتُ فزعاً.
كانت الفتاة باكية، والمرأة تربط رأسها بإيشاربها من شدة الألم والحزن، والشابان ينظران إلى الأرض في حزن.
- ما الذي حدث؟
لم يجب أحد، تابعتهم في دهشة. رأيتُ شكل الطبله متغيرا، قماشة العبك المتسخ ملقاة في إهمال فوق الحصير المتآكل الأطراف، انحنيتُ ومددت يدي ناحيتها، أمسكتُها بحرص. أخرجتُ الطبلة من مكمنها، كانت مكسورة.
- من الذي كسرها؟
لم يجبني أحد، لكن الفتاة والمرأة انخرطتا في البكاء، والشاب الذي كان يدق عليها بكي في حرقة فتبعه الآخر.
قلتُ:
- لماذا كل هذا الحزن؟
صاحت المرأة في صوت كالعديد:
- من أين لنا بثمنها؟
وأكملت الفتاة:
- ما نجمعه من الناس ننفقه على أكلنا وشرابنا.
- والعمل؟!
خرجتُ في الصباح إلى كليتي وتركتُ الشابان نائمين كالعادة، لكنه عندما عدتُ ككل يوم، وجدتُ صاحبة البيت أمام باب شقتها ممسكة بطرف ثوبها قائلة:
- جيرانك تركوا الكوخين، انتظر جيران آخرين خلال يومين أو ثلاثة.