ياسر جمعة - كانت تأتي ومعها دائمًا البهجة!

الحزن، أو الخزي، من عدم قدرتي على حسم أمري فيما يخص حياتي المزرية، سجنني في صمت سميك.. حالك، بينما ظلت هي تنظرني من مجلسها بجواري، صامتةً كذلك، حتى حل أول المساء، الذي أخاف، منذ الصغر، ولا أعرف لمَ!

اقتربت، لمست خدي بأطراف أصابعها، وراحت تحكي لي عن هذا الرجل الذي كان يتحدث مع الهياكل العظمية لأسرته وأصدقائه، وقد جمعهم منذ مدةٍ في منزله، يتحدث معهم ويسمعهم من حيث يجلسون في المقاعد الخربة، وكذلك يسمع، مرتابًا، النباح الذي يصدر عن الهيكل العظمي لكلبه الضخم.
هل كانت تبعدني عن خوفي المسائي أم تدفعني نحوه أكثر؟
قالت: كان يعيش هنا، في مدينتنا هذه.
حذف خيالي كلمة "كان" فرأيته يجوب الطرقات، بين المنازل المتهدمة، كل صباحٍ، ليلملم العظام المتناثرة من تحت الأنقاض، ثم يحملهم في مفرشٍ من البلاستيك القديم ويعود إلى منزله، وهناك، وفي استغراقٍ تامٍ، يبدأ في تركيب الأجزاء على بعضها، ثم يقوم بربطها بشرائط من القماش المتسخ، وما يلبث أن يحمل الهيكل، الذي لا يكون متناسقًا في أجزائه دائمًا، في حرصٍ ليضعه بجوار الهياكل بالداخل، وهكذا يعود ليحمل آخر، بينما كان كل مرة يبتسم لهيكل الكلب الرابض عند الشرفة ويصفر له!
كنت أنتظر، حينما اتصلت بها بعد العصر، أن تقرأ لي أحدث قصائدها، أو نتشارك في إعداد وجبةٍ، أو تحممني بيديها، أو نتجرد من كل ثيابنا وندخل الفراش!
قالت: لم يفقد الأمل أبدًا في أنهم، بحديثه إليهم، ستدب فيهم الحياة، وبالأمل ذاته بقيَ يستعيد أصواتهم، ويقلدها، وهو يحكي حكاياتهم، التي كان يطورها كل ليلةٍ، حتى ينام.
حاولت أن أعيد كلمة "كان" التي حذفها خيالي منذ قليلٍ لحكايتها ولم أستطع، حاولت أن أستريح للمسات أناملها لوجهي، حاولت أن أستكين لقربها مني، كما كان يحدث دائمًا، حيث أجلس في جانب كنبة الأنتريه، حاولت.. حاولت ولم أستطع، لذا انكمشت على نفسي متوهمًا خروجي من مخاوفي.. من حزني.. من لحظتي هذه، غير أنها لم تمهلني، جذبتني إلى صدرها وقالت: كانت الأمور مختلفةً جدًا في أحلامه. ارتجفتُ متوجسًا كمن يعلم أنه سيسقط في بئرٍ لا قرار لها، فربتت على ظهري وقبلت جبيني.
كان هو الهيكل العظمي الوحيد، الذي جمعوا أجزاءه من بلاد متباعدة، حيث صاروا يجتمعون عنده كل ليلةٍ، ليحكيَ كلٌّ منهم جزءً مما يتخيلون أنها حكايته، ظلوا يفعلون هذا على أمل أن تدبَّ فيه الحياة مرةً أخرى، دون أن يعلموا أن موته، وتوزيع أجزائه في أنحاء الأرض بهذا الشكل المحسوب، هو الطلسم الذي وهبهم الحياة الأبدية، وكان يندهش، في أحلامه، من أن حياته هي اللعنة التي يسعون إلى تحقيقها!
كان صوت نبضاتها، بعد أن صمتت، يدوِّي في أذني، لذا تململتُ منزعجًا منه، ومن رغبتي في الابتعاد عنها، ومن خوفي المسائي، ومن الماضي الذي يكبلني، ومن الحياة التي لا أفهمها، ومن نفسي، وكأنها قرأت ما بي، تركتني أخرج من حضنها وأعتدل في جلستي، فيما ظلت تنظر في عيني عميقًا.. عميقًا، ثم، قبل أن تهمَّ بالوقوف سألتني: ألا ترى معي أن حياتهم، إن عادت لهم، ستكون لعنته التي يسعى إلى تحقيقها دون أن يعلم أنها كذلك؟ وفي بساطة وعادية من ملِّ المكوث وحيدًا، لملمت أشياءها وذهبت، فبقيت معلقًا مع سؤالها، وحكايتها الغريبة قبله، في الظلام.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى