كان أسود الوجه وجسده قوي، طويل وعريض، وشعره أكرت، يضحك كثيرا وبصوت مرتفع يسمعه سكان الحارة وهم داخل بيوتهم، يمازح أصدقائه بصوت مرتفع، يناديهم بأسماء غاية في السخافة يخجلون منها، ويغضبون منه لأنه يناديهم بها. ويخطف الطاقية من فوق رؤوس الباعة الجائلين الذين يدخلون الحارة ويجري بها، وإذا ما جاء صاحبها لأخذها، يرميها لآخر.
كان أطول من والده - محمود - ومن أخوته الثلاثة الآخرين، وهو الوحيد بينهم الذي جاء اسود اللون مثل أمه (يقولون انه شديد الشبه بجده - والد أمه - الذي لم يأت من الصعيد، ومات هناك، وان ذلك الجد كان مملوكا في سوهاج، لذا إذا تشاجرت امرأة مع أم سيد، تعيرها بأبيها العبد الأسود ).
يعمل محمود - والد سيد ملك السودان - زبالا في حي سبورتنج، وسيد يعمل معه مثل سائر أخوته لكنه دائم الاختلاف مع أخويه، مرسي ومرزوق، أما الآخر - فهمي - فهو في سن لا تسمح له بمزاحمتهم والاختلاف معهم.
قسم الزبالة الذى يمتلكه محمود في سبورتنج صغير جدا، عدة شوارع تبدأ من كورنيش البحر حتى الترام، وهم كثر، بينما هناك زبالون بجواره، رقعة الزبالة التي يمتلكونها ويستفيدون من دخلها كبيرة جدا، وأسرتهم صغيرة، رجل وابنه، أو ابنان فقط. وقد اضطر محمود أن يبحث لنفسه عن مورد رزق آخر، فما يأتي به قسم الزبالة لا يكفي، خاصة أن الولد الكبير مرسي قد أنجب ومصاريفه زادت، وتوصل محمود إلى الحصول على مخلفات مصنع غزل قريب من قسم الزبالة التابع له. يملأ عربته ذات الجدران الخشبية العالية بخيوط كثيرة من كل لون ونوع، ويأتي بها إلى الحارة، يفك حماره ويخلع باب العربة المعلق بمفصلتين، ثم يقلب العربة في الحارة، وينحني بقامته الرفيعة، وتنحني حماته - وهي امرأة عجوز تشاركه عمله، وينحني الأولاد جميعا، يفرزون الخيوط كل نوع على حدة، ثم يبيعون الأنواع إلى تجار الخيوط في شارع إيزيس.
أولاد الحارة يعشقون الطائرات والدبابير الورقية التي تحتاج إلى خيوط لكي تطير في الجو وتحلق، فيسرع الأطفال إلى الأكوام المتراصة أمامهم، يخطفون قطعة خيط ويجرون بها، فيجري محمود خلفهم، ولا يتركهم حتى لو دخلوا بيوتهم، فيقف أمام البيت ويصيح ويلعن، لذا كان حضور عربة الخيوط معناه أن محمود سيتشاجر طوال الوقت، فأهل الأولاد سيدافعون عن أولادهم وسيردون شتمه لهم، وهكذا..
سيد ملك السودان، والحق يقال، لم يكن مرتاحا لما يحدث أمامه، وهو الوحيد من بين أولاد محمود الذي لم يشارك في فرز أنواع الخيوط، فيكتفي بجلسته فوق قهوة أبو دومة، أو يقف بجوار حسني البقال على ناصية الحارة، وإذا أمسك والده بطفل خطف خيطا؛ يسرع لإنقاذه من بين يدي والده، ولو كان الأمر بيده لأعطى كل أولاد الحارة ما يريدون من خيوط، لكن الرجل لا يمكن أبدا أن يوافق، فهو يبيع الخيوط بمبلغ يعينه على الإنفاق على هذه الأسرة.
يقف سيد مع أصدقائه فوق الجبل الذي يعلو الحارة، يحكي لهم عن مغامراته في قسم الزبالة الذي يمتلكه والده: أحبته فتاة جميلة جدا، إذا ما شربت يمكن أن ترى الماء وهو نازل في رقبتها من شدة بياضها، والدها محام مشهور وله مكتب في المنشية، البنت مغرمة به، وهو متعال عليها ويصدها، ولم يبل ريقها بكلمة، حتى جاءته إلى الحارة، وينظر سيد عمن يؤكد قوله:
- محدش شاف بنت حلوة دخلت بيتنا؟
فيجيبه أحدهم جادا:
- أيوه شفت.
- هي دي.
أو إذا وجد شقيقه الصغير فهمي. يصيح فيه:
- مش كده يا ولد؟
ويجيب فهمي مضطرا:
- أيوه جاته بنت جميله قوي وكلنا شفناها.
ويكمل سيد قصته مع الفتاة المولعة به والمجنونة بحبه، هو لم يستجب لها بل قال:
- مقدرش أسيب أبويه وخواتي وأعيش معاكي، هما صحيح دايما يتعاركوا معايا، إنما برضه خواتي.
وبكت البنت، وركعت على ركبتيها وأمسكت يده متوسلة، ولما لم تجد منه فائدة أرسلت والدها المحامي المشهور ليتوسل اليه، فالبنت مرضت وحالتها أصبحت عبرة، وستموت كمدا من صده لها، فقال سيد لوالدها:
- أنا والدي أحسن منك. هو زبال، صحيح، لكنه أحسن منك.
وينقطع الحديث عن الفتاة لقدوم وافد جديد، أو لحدوث حادث مفاجئ يجعلهم ينصرفون عن هذه الحكاية، ولولا هذا لما انتهى سيد من ذلك الحديث أبدا، فهو لديه قدرة عجيبة على اختلاق الأحداث.
وحكى يوما عن والده عندما تقابل مع الملك فاروق- أجل فاروق ملك مصر والسودان- كان محمود يسوق عربته- عربة الزبالة- وفاروق يقود سيارته بنفسه، اختلفا على من يسير قبل الآخر، ومحمود والده عنيد، وإذا ما صمم على شيء فهو لا بد فاعله ويبحث سيد عن فهمي أخيه الأصغر، مستعينا به:
- مش كده يا ولد؟
ويجيب فهمي مؤكدا:
- أيوه. أبويه دماغه ناشفة.
المهم أن محمود والده أصر على أن يسير قبل الملك فاروق. وقال له:
- لو كنت أنت ملك، فانا مثلك ملك، فلدي قسم زباله، ولدي أربعة أولاد.
وأعجب الملك فاروق بشجاعته، فعرض عليه أن يكون ملكا على السودان، لكن والده اعتذر وفضل أن يكون زبالا كما هو، ومن يومها أطلقوا على سيد: ملك السودان.
العمل في قسم الزبالة لا يحتاج إلا لمحمود وولد واحد من أولاده الأربعة، بل أن الولد فهمي الصغير ينفع ويسد الحاجة، لكن الباقين أين سيذهبون، وليس لديهم عمل سوى الزبالة، لذا كانوا يتشاجرون ويختلفون.
وتشاجر سيد - ذات مرة - مع أخويه، وكان ينتظر من والده أن ينحاز إلى صفه، خاصة انه كان على حق لكن الرجل خذله وانحاز لأخويه، فقرر سيد الانتحار. اجل. أعلنها صريحة أمام كل أهل الحارة. انه سينتحر ليريح نفسه ويريحهم منه وفكر مسرعا في الأداة التي سينتحر بها، فلم يجد سوى القفز من الشرفة، وصعد فعلا إلى شقتهم ( وهي في الحقيقة جزء من الشقة: حجرتان واحدة يسكنها محمود مع كل أبنائه، والأخرى يسكنها مرسي - الابن الأكبر - مع زوجته التي جاء بها من الصعيد وهناك دورة مياه مشتركة مع ثلاث أسر تشغل كل أسرة حجرة منها). المهم أن سيد دخل الشرفة. وصاح بأعلى صوته:
- سأنتحر يا خلق الله، وسأشهدكم على ما يفعلونه معي.
وأسرعت أمه باكية منتحبة:
- اعقل يا سيد.
وخرجت النسوة من الشرفات. وأطلت الرؤوس من النوافذ تتابع ما يحدث، وأسرع رواد قهوة أبو دومة القريبة، وقفوا أمام الشرفة وصاحوا:
- اعقل يا سيد حاتموت كافر.
- اعمل إيه ما هم كفروني.
وأسرعت أخته المتزوجة في بيت قريب، شدته من ملابسه لتدخله، لكنه دفعها إلى خارج الشرفة، وأعلن إنه لن يرجع عما أراد، ولابد أن ينتحر. وصاحت امرأة من الشرفة المقابلة:
- اخزي الشيطان يا سيد يا ابني وادخل جوه.
- لا يا حاجه دول ناس ما يتعاشروش.
لكنه فوجئ بالغسيل أمامه، كان قد جف وهفهف مع تحركات الهواء في الحارة، وانشغلت أمه بشجاره مع أخويه، ونسيت أن ( تلم ) الغسيل، فكيف يمكنه القفز من الشرفة والغسيل منشور أمامه، بعضه يصل إلى نصف الجدار، أخذ سيد يلم الغسيل وهو يصيح:
- حلم الغسيل وبعدين ارمى نفسي.
وأمسك بالمشابك ورماها داخل الشرفة، وأخذت أمه منه الملابس ورمتها في الداخل، قطعة وراء قطعة، بعد أن لم الغسيل، واجهته مشكلة أخرى، هي حبال الغسيل المشدودة والممتدة من أول الشرفة إلى أخرها، فهي ستعوقه عن القفز، ففتح باب الشرفة مندفعا داخل الشقة فصرخت أمه:
- كده يا سيد. عايز ترمي نفسك وتموت.
دخل المطبخ- وهو جزء من الصالة الواسعة والكبيرة- أخذته أمه عنوة من باقي سكان الشقة ووضعت فيه مائدة قديمة تشعل فوقها وابورها، وتضع حللها، ثم تدخلها كل آخر ليل خشية أن يسرقها أحد. أمسك سيد بالسكين الكبير واندفع ثانية إلى الحجرة، فصرخت أمه، ظننته سيذبح به أخويه. وترك والده شيشته وصاح:
- سيب السكينة يا ولد.
لم يقدر عليه أحد، فدخل الشرفة وأخذ يقطع الحبال في أناة، وعلى أقل من مهله، حتى فترت همة المتابعين له؛ فعادوا إلى جلستهم في قهوة أبو دومة.
وبعد أن انتهى من قطع الحبال، رماها إلى الحارة وبقي وحده في الشرفة، أمه في الخارج مع أخته ووالده، يتحدثون في أمور أخرى غير حكاية محاولة انتحاره هذه، وأخوته بعدوا عنه حتى لا يتشاجر معهم وهو لا يجد من يهدىء روعه، ( هكذا هو منذ أن ولد، ليس له أحباب، الكل تركه وشانه ).
فصاح باكيا:
- عايزيني أموت كافر يا ظلمه؟!
وعاد إلى الشقة مقررا أن عملية الانتحار قد تأجلت إلى موعد آخر..
كان أطول من والده - محمود - ومن أخوته الثلاثة الآخرين، وهو الوحيد بينهم الذي جاء اسود اللون مثل أمه (يقولون انه شديد الشبه بجده - والد أمه - الذي لم يأت من الصعيد، ومات هناك، وان ذلك الجد كان مملوكا في سوهاج، لذا إذا تشاجرت امرأة مع أم سيد، تعيرها بأبيها العبد الأسود ).
يعمل محمود - والد سيد ملك السودان - زبالا في حي سبورتنج، وسيد يعمل معه مثل سائر أخوته لكنه دائم الاختلاف مع أخويه، مرسي ومرزوق، أما الآخر - فهمي - فهو في سن لا تسمح له بمزاحمتهم والاختلاف معهم.
قسم الزبالة الذى يمتلكه محمود في سبورتنج صغير جدا، عدة شوارع تبدأ من كورنيش البحر حتى الترام، وهم كثر، بينما هناك زبالون بجواره، رقعة الزبالة التي يمتلكونها ويستفيدون من دخلها كبيرة جدا، وأسرتهم صغيرة، رجل وابنه، أو ابنان فقط. وقد اضطر محمود أن يبحث لنفسه عن مورد رزق آخر، فما يأتي به قسم الزبالة لا يكفي، خاصة أن الولد الكبير مرسي قد أنجب ومصاريفه زادت، وتوصل محمود إلى الحصول على مخلفات مصنع غزل قريب من قسم الزبالة التابع له. يملأ عربته ذات الجدران الخشبية العالية بخيوط كثيرة من كل لون ونوع، ويأتي بها إلى الحارة، يفك حماره ويخلع باب العربة المعلق بمفصلتين، ثم يقلب العربة في الحارة، وينحني بقامته الرفيعة، وتنحني حماته - وهي امرأة عجوز تشاركه عمله، وينحني الأولاد جميعا، يفرزون الخيوط كل نوع على حدة، ثم يبيعون الأنواع إلى تجار الخيوط في شارع إيزيس.
أولاد الحارة يعشقون الطائرات والدبابير الورقية التي تحتاج إلى خيوط لكي تطير في الجو وتحلق، فيسرع الأطفال إلى الأكوام المتراصة أمامهم، يخطفون قطعة خيط ويجرون بها، فيجري محمود خلفهم، ولا يتركهم حتى لو دخلوا بيوتهم، فيقف أمام البيت ويصيح ويلعن، لذا كان حضور عربة الخيوط معناه أن محمود سيتشاجر طوال الوقت، فأهل الأولاد سيدافعون عن أولادهم وسيردون شتمه لهم، وهكذا..
سيد ملك السودان، والحق يقال، لم يكن مرتاحا لما يحدث أمامه، وهو الوحيد من بين أولاد محمود الذي لم يشارك في فرز أنواع الخيوط، فيكتفي بجلسته فوق قهوة أبو دومة، أو يقف بجوار حسني البقال على ناصية الحارة، وإذا أمسك والده بطفل خطف خيطا؛ يسرع لإنقاذه من بين يدي والده، ولو كان الأمر بيده لأعطى كل أولاد الحارة ما يريدون من خيوط، لكن الرجل لا يمكن أبدا أن يوافق، فهو يبيع الخيوط بمبلغ يعينه على الإنفاق على هذه الأسرة.
يقف سيد مع أصدقائه فوق الجبل الذي يعلو الحارة، يحكي لهم عن مغامراته في قسم الزبالة الذي يمتلكه والده: أحبته فتاة جميلة جدا، إذا ما شربت يمكن أن ترى الماء وهو نازل في رقبتها من شدة بياضها، والدها محام مشهور وله مكتب في المنشية، البنت مغرمة به، وهو متعال عليها ويصدها، ولم يبل ريقها بكلمة، حتى جاءته إلى الحارة، وينظر سيد عمن يؤكد قوله:
- محدش شاف بنت حلوة دخلت بيتنا؟
فيجيبه أحدهم جادا:
- أيوه شفت.
- هي دي.
أو إذا وجد شقيقه الصغير فهمي. يصيح فيه:
- مش كده يا ولد؟
ويجيب فهمي مضطرا:
- أيوه جاته بنت جميله قوي وكلنا شفناها.
ويكمل سيد قصته مع الفتاة المولعة به والمجنونة بحبه، هو لم يستجب لها بل قال:
- مقدرش أسيب أبويه وخواتي وأعيش معاكي، هما صحيح دايما يتعاركوا معايا، إنما برضه خواتي.
وبكت البنت، وركعت على ركبتيها وأمسكت يده متوسلة، ولما لم تجد منه فائدة أرسلت والدها المحامي المشهور ليتوسل اليه، فالبنت مرضت وحالتها أصبحت عبرة، وستموت كمدا من صده لها، فقال سيد لوالدها:
- أنا والدي أحسن منك. هو زبال، صحيح، لكنه أحسن منك.
وينقطع الحديث عن الفتاة لقدوم وافد جديد، أو لحدوث حادث مفاجئ يجعلهم ينصرفون عن هذه الحكاية، ولولا هذا لما انتهى سيد من ذلك الحديث أبدا، فهو لديه قدرة عجيبة على اختلاق الأحداث.
وحكى يوما عن والده عندما تقابل مع الملك فاروق- أجل فاروق ملك مصر والسودان- كان محمود يسوق عربته- عربة الزبالة- وفاروق يقود سيارته بنفسه، اختلفا على من يسير قبل الآخر، ومحمود والده عنيد، وإذا ما صمم على شيء فهو لا بد فاعله ويبحث سيد عن فهمي أخيه الأصغر، مستعينا به:
- مش كده يا ولد؟
ويجيب فهمي مؤكدا:
- أيوه. أبويه دماغه ناشفة.
المهم أن محمود والده أصر على أن يسير قبل الملك فاروق. وقال له:
- لو كنت أنت ملك، فانا مثلك ملك، فلدي قسم زباله، ولدي أربعة أولاد.
وأعجب الملك فاروق بشجاعته، فعرض عليه أن يكون ملكا على السودان، لكن والده اعتذر وفضل أن يكون زبالا كما هو، ومن يومها أطلقوا على سيد: ملك السودان.
العمل في قسم الزبالة لا يحتاج إلا لمحمود وولد واحد من أولاده الأربعة، بل أن الولد فهمي الصغير ينفع ويسد الحاجة، لكن الباقين أين سيذهبون، وليس لديهم عمل سوى الزبالة، لذا كانوا يتشاجرون ويختلفون.
وتشاجر سيد - ذات مرة - مع أخويه، وكان ينتظر من والده أن ينحاز إلى صفه، خاصة انه كان على حق لكن الرجل خذله وانحاز لأخويه، فقرر سيد الانتحار. اجل. أعلنها صريحة أمام كل أهل الحارة. انه سينتحر ليريح نفسه ويريحهم منه وفكر مسرعا في الأداة التي سينتحر بها، فلم يجد سوى القفز من الشرفة، وصعد فعلا إلى شقتهم ( وهي في الحقيقة جزء من الشقة: حجرتان واحدة يسكنها محمود مع كل أبنائه، والأخرى يسكنها مرسي - الابن الأكبر - مع زوجته التي جاء بها من الصعيد وهناك دورة مياه مشتركة مع ثلاث أسر تشغل كل أسرة حجرة منها). المهم أن سيد دخل الشرفة. وصاح بأعلى صوته:
- سأنتحر يا خلق الله، وسأشهدكم على ما يفعلونه معي.
وأسرعت أمه باكية منتحبة:
- اعقل يا سيد.
وخرجت النسوة من الشرفات. وأطلت الرؤوس من النوافذ تتابع ما يحدث، وأسرع رواد قهوة أبو دومة القريبة، وقفوا أمام الشرفة وصاحوا:
- اعقل يا سيد حاتموت كافر.
- اعمل إيه ما هم كفروني.
وأسرعت أخته المتزوجة في بيت قريب، شدته من ملابسه لتدخله، لكنه دفعها إلى خارج الشرفة، وأعلن إنه لن يرجع عما أراد، ولابد أن ينتحر. وصاحت امرأة من الشرفة المقابلة:
- اخزي الشيطان يا سيد يا ابني وادخل جوه.
- لا يا حاجه دول ناس ما يتعاشروش.
لكنه فوجئ بالغسيل أمامه، كان قد جف وهفهف مع تحركات الهواء في الحارة، وانشغلت أمه بشجاره مع أخويه، ونسيت أن ( تلم ) الغسيل، فكيف يمكنه القفز من الشرفة والغسيل منشور أمامه، بعضه يصل إلى نصف الجدار، أخذ سيد يلم الغسيل وهو يصيح:
- حلم الغسيل وبعدين ارمى نفسي.
وأمسك بالمشابك ورماها داخل الشرفة، وأخذت أمه منه الملابس ورمتها في الداخل، قطعة وراء قطعة، بعد أن لم الغسيل، واجهته مشكلة أخرى، هي حبال الغسيل المشدودة والممتدة من أول الشرفة إلى أخرها، فهي ستعوقه عن القفز، ففتح باب الشرفة مندفعا داخل الشقة فصرخت أمه:
- كده يا سيد. عايز ترمي نفسك وتموت.
دخل المطبخ- وهو جزء من الصالة الواسعة والكبيرة- أخذته أمه عنوة من باقي سكان الشقة ووضعت فيه مائدة قديمة تشعل فوقها وابورها، وتضع حللها، ثم تدخلها كل آخر ليل خشية أن يسرقها أحد. أمسك سيد بالسكين الكبير واندفع ثانية إلى الحجرة، فصرخت أمه، ظننته سيذبح به أخويه. وترك والده شيشته وصاح:
- سيب السكينة يا ولد.
لم يقدر عليه أحد، فدخل الشرفة وأخذ يقطع الحبال في أناة، وعلى أقل من مهله، حتى فترت همة المتابعين له؛ فعادوا إلى جلستهم في قهوة أبو دومة.
وبعد أن انتهى من قطع الحبال، رماها إلى الحارة وبقي وحده في الشرفة، أمه في الخارج مع أخته ووالده، يتحدثون في أمور أخرى غير حكاية محاولة انتحاره هذه، وأخوته بعدوا عنه حتى لا يتشاجر معهم وهو لا يجد من يهدىء روعه، ( هكذا هو منذ أن ولد، ليس له أحباب، الكل تركه وشانه ).
فصاح باكيا:
- عايزيني أموت كافر يا ظلمه؟!
وعاد إلى الشقة مقررا أن عملية الانتحار قد تأجلت إلى موعد آخر..