خالد العجماوي - قراءة انطباعية في قصة (خريفٌ متعجّل) للكاتبة صديقة صديق علي

حين نقرأ لكاتبة مثل صديقة، فلا بد أن نقرأ على مهل، فهي من أولئك الكتاب الذين يرصّعون نصوصهم بأفكار تغوص في أعماقنا الإنسانية، كما أنها تزن حروفها بموازين من معاناة وألم. وأرى أن مشروعها الأدبي قد اتخذ من مأساة الشام خاصة في أيامنا هذه منطلقا تشع منه أنات روحها المعذبة تجاه ضمير الإنسان في أرجاء المعمورة كلها. وإن من يقرأ لصديقة ليكاد يسمع أنين روح حالمة وسط ويلات الحروب. وهي إذ تكشف في كتاباتها عن مآس حياتية لضحايا جراء تلك الصراعات، فإنها تتلمس عند قارئها ضميره الذي يكاد يختنق إزاء الاحتياجات المادية العادية.
وفي قصتها خريف متعجل، تنتقي صديقة مشهدا لرجل ينزح من أرض أكلتها الحرب بعد أن كانت تعج بالخير والحياة، إلى أرض قفراء صلدة لم تصلها الحرب زهدا فيها وإعراضا عنها. وهو رجل يجاوز الخمسين من عمره، يحاول أن ينشيء مأوى لأسرته الصغيرة في تلك الأرض القفراء، مستخدما أدوات بسيطة، فيقوم بتسقيف الغرفة حتى تصلح سكنا لزوجته وبنته، ولكننا نجد الخريف وقد ذهب بسقفه الطيني الهش، فيسقط جراء وابل من المطر وهبوب الريح.
والقصة إذ تبدو مأساة واقعية، إلا أن الكاتبة قد ظللتها برتوش من حكايات مضت، فجعلت في طياتها طعما كذاك الذي نجده في قصصنا الإنسانية القديمة. وهي في مفرداتها تزن المعاني التي توحي بما أرادت أن تقول دون تصريح.
تستهل الكاتبة نصها على لسان الرجل، تقول: " يدايَ اللتان اعتادتا على نثرِ حبّةِ القمحِ الذهبيّةِ وعلى أقلامِ الطّباشير، لم تأْلفا هنا أشواكَ الأعشابِ البريّة" وهي بذلك تشير إلى وطنه الذي تركه يئن جراء الحرب، وقد كان مرتعا للزروع والعلم في آن معا. كما نرى الرجل ينكب على البناء والتشييد وسط تلك المقابر القفراء، في إشارة إلى صراع الإنسان ضد معاول التخريب والتدمير، وقد اختارت الكاتبة ألفاظها بعناية، مثل الطين، والتين والزيتون، وأغصان الرياحين.
كما أننا نرى عجوزا يصاحب ذلك الرجل المسكين؛ إذ يساعده في تأثيث مأواه البسيط، غير أنه يسخر من جهوده في بنائه مرددا : "لا جدوى!"، "أو تظنُّ أن ما يقيكَ حرَّ آب سيقيكَ بردَ الشتاء؟ " فوكأن سنين عمره قد جعلته يستشرف ما سيكون من الأيام القادمة، غير أن الكاتبة في نظري قد جعلته في قصتها لسانا للأقدار، فوكأن الدنيا لم تكتف بما أوجدته في حياته من خطوب إثر دمار الحروب، فسلطت عليه غضبة الطبيعة القاسية بأمطارها ورياحها، كي تقتلع منه أمله في وجود مأوى آمن لأسرته الصغيرة. وهنا نستكشف أيضا عنوان القصة التي اختارته الكاتبة (خريف متعجل) فنراه في حقيقته صرخة يائسة من خطوب هذه الدنيا القاسية، والتي جعلت خريفها يتعجل في تدمير مأوى ذلك الرجل النازح الضعيف. وهذه الحالة النابضة باليأس إنما تميز كتابات ما بعد الحداثة، والتي صدرت ما بعد الحرب العالمية الثانية، بما خلفته من فلسفات لا ترى في الحياة مآلا سوى العبث، كما نجد عند كامو وسارتر، كما تذكرنا بسيزيف ولعنته الأبدية، حيث حكمت عليه الآلهة أن يظل آملا في أن يدفع الصخرة إلى القمة دون جدوى!
ثمة تفاصيل إنسانية جميلة كذلك، أرادتها الكاتبة في قصتها المؤلمة، حيث جعلتنا نرى الأمل في حوار الرجل مع زوجته من خلال الهاتف النقال، وكيف كان يحلم بعودتها وابنته. وكيف أنهم كانوا يحلمون بالبحر، إشارة إلى الرغبة في أن يتحرروا من ويلات حياتهم الكئيبة. ويالسخرية الأقدار المرسومة؛ إذ نجد حواره المفعم بالأمل هذا يكون عن طريق هاتف الرجل العجوز، والذي كان في الحقيقة مثبطا لآماله وأمانيه!
وتختار الكاتبة نهاية تعج بالإيحاء، جعلتها كالقذيفة في السطر الأخير. إذ تقول على لسان ذلك الرجل العجوز:"لا حولَ ولا قوةَ إلّا بالله ها... يا ابن الفرات، أين اختفيت ..أينك وهذا الطوفان؟" ولست أدري، هل كان في الحقيقة ينادي على الرجل الخمسيني المسكين ذاك، أم أن الكاتبة أرادت أن تستحضر قصة الطوفان، وذلك اليأس الذي عم الأرض بالغرق والموت، قبل أن تعود إلى الحياة والإزهار؟ هل كان العجوز ينادي على الرجل بقوله ابن الفرات؟ أم أنها كانت ترمي إلى نوح، وما كان لديه من سفينة تنجي المساكين من أهوال هذه الحياة؟ّ! لست أدري حقيقة، غير أني لا بد أقف احتراما لهذا النص الباذخ الفياض، والذي يقرع في نفوسنا إنسانيتها، علها تستفيق من غفلتها المادية تلك، وأن تسمو فوق صراعاتها الأزلية التي لا تنتهي، فتدرك في ذاتها عمق جمالها، وسمو مآلها وروعتها!


*******


النص:

**خريفٌ متعجل.

يدايَ اللتان اعتادتا على نثرِ حبّةِ القمحِ الذهبيّةِ وعلى أقلامِ الطّباشير، لم تأْلفا هنا أشواكَ الأعشابِ البريّة.
-توتُ العليقِ ..القبُار ..قثّاء الحِمار
تكفّل العجوزُ بتعريفِي بها، وأنا منهمكٌ باقتلاعِها المُضْني من أرضِ غرفةٍ تسقُفُها السماءُ، قال لي أن مالكَها قدِ استصلحَ الأرضَ؛ ليقيمَ عليها بيتًا كبيرًا على أطرافِ المدينةِ فبنى هذه الجدرانَ كمحرسٍ للبنّائين ومستودعٍ للمعدّاتِ، لكنّ الحربَ أوقفتٰ حُلمَهُ واختفى مع اندلاعِها، تاركًا للأعشابِ البريَّةِ مرتعًا لاستطالاتِها على الجدرانِ وغدَتِ الغرفةُ العاريةُ مأوىً للقططِ والكلابِ الشّاردة.
كانت البراميلُ الكبيرةُ الصدئةُ مُلهمتي، فرحٰتُ أقصُّها وأسوي سطحَها؛ لتشكّلَ سقفًا استظلُّ به. وقام الطينُ كما كنتُ أستخدمُه في زريبةِ الخِرافِ في قريتي بنفسِ المهمّةِ، فأربطـ بين كلّ قطعتينِ بشريطٍ طينيٍّ جبلتُهُ من تراب الغرفة.
البيوتُ المتراميةُ حول الغرفةِ كانت تشرعُ نوافذَها على مسرحٍ عمليٍّ، لم يعترضْ أحدٌ ولم يساعدْني أحدٌ ما عدا العجوز الذي أمدني بما يلزمُني من رفشٍ وفأسٍ وطعامٍ بارد، لكنّه كان يهزأُ بي، وكاد يثبِّطُ من عزيمتي بتكرارِه: لا جدوى.. لا جدوى .
كنت أتجاهلُ نصائحَه المتعلّقةَ بغرفتي المبتكرةِ.وتابعت عملي بجدٍ وحماسٍ.. سوَّيتُ أرضَ الغرفةِ ورحتُ أرصفُها بأعوادِ التينِ والزيتونِ، أرصفُها بجانبِ بعضِها البعض، ثم أسكبُ الطينَ بينها أمسّدُها بكفيّ؛ لتصبحَ ملساءَ وأتركُها لتجفّ.
رحتُ أبحثُ عن عملٍ يناسبُ سنيني الخمسين، أبيعُ الخبزَ على الأرصفة، أحملُ القمامةَ، أكنُسُ سوقَ الخضارِ أنقّي منه ما يصلحُ للطعام. وبمالٍ قليلٍ حوّلت الباقي من قُصاصاتِ صفيحِ البراميلِ إلى درفٍ بمفاصلِها تغلقُ النوافذَ وتفتحتها، دعمتها بقطع بلاستيكية كنت قد التقطتها من السوق. دلّني العجوزُ على مركزِ معوناتٍ قريبٍ يوزِّعُ للوافدين بطّانياتٓ وفُرُشًا اسفنجيةٌ.. طبّاخَ غاز، طناجرَ، أباريقَ شاي، كؤوسّا، زيوتًا وسكّرًا وأرزًا، بعد انتظارٍ وازدحامٍ مذلٍّ فزتُ بما أريدُ وأصبحتٔ غرفتي تزهو بأثاثِها الضروريّ وبالفيءِ المنعشِ وتضجُّ بالحنينِ. صار عندي مأوىً أهربُ إليه من شمسٍ حارقةٓ، ومن رطوبةٍ خانقةٍ لم أعتدْ عليها بعدُ، أستلقِي على الفراشِ أراقبُ السقفَ أفكّرُ كيف سأُخفي كلَّ هذا الصدإ، فأهبُّ لحيطانِ المقبرةِ أقطعُ أغصانَ الرياحينِ أغطي بواسطتِها كلَّ هذا القبحِ، كانتِ المعضلةُ التي تواجهتي كلَّ يومٍ هي تطّفلُ العجوزِ الثرثارِ الذي بدا غير راضٍ بكلِّ ما أقومُ به، وأقحمُ أنفَه بشؤونِي، لكن طيبتَهُ جعلتني أحتملُ وجودَه الدائمَ معي، كنتُ أخجل ُ من انكشافِ عَوَزِي أمامه، وكان كثيرًا ما يدعوني لبيتِه ويشرحُ لي وحدتَه، ولكنّني لا أقوى على قبولِ دعوتِه، وأنا محمّلٌ بكلِّ هذه الأوساخِ وهذا القهر.
ما يشغلُني فقط كيف سأجلبُ أسرتي إلى هنا، وهل تتحقّقُ معجزةُ الهروبِ مرتين.
- كيف الوضعُ عندكم؟
..ادفعي كلَّ ما معنا ودعيهم يسمحون لكما بالخروجِ
رحتُ أهوِّنُ عليها وأدعوها لبيتٍ مجانيٍّ:
..لا لا لم أستأجرُ..هنا البيوتُ باهظةُ الإيجار لا ..لا ليس مركزَ إيواءٍ، هو بيتِ مجانيٌّ لا ينقصُهُ سواكِم، فقد زوّدتُه من ماءِ المقبرةِ بالماءِ ومددتُ سلكًا كهربائيًّا إليه مكّنني من إنارته..
.. نعم استحِمُّ بطِستٍ واسعٓ وأغسلُ ثيابي
...البحر؟ نعم هو قريبِ جدًّا أخيرًا سترينه.
رددت الهاتف النقّالَ للعجوز الذي كان يتابعُ حديثي باهتمامٍ ببسمةٓ ظافرةٍ تقول: نجحنا أخيرًا بالاتّصالِ، قلتُ له أغالبُ غُصّةً:
كنّا بعد كلِّ موسمٍ نخطّطُ لسياحةٍ نقضيها على البحرِ ونؤجِّلُها إلى موْسمٍ آخر.
كدتُ أطيرُ من الفرحِ..أخبرني العجوزُ وهو يلوِّحُ بهاتفه الذكيِّ من بعيدٍ أن زوجتي وابنتي في طريقهما إلينا، رحتُ أجولُ بنظري أتفقّدُ مملكتي الجديدة، أتفقّدُ ما ينقصُها.. زوجتي وابنتي لن يغفرا لي إهمالي للمرآة.
أتأبطُ المرآةَ حيناً وأرفعُها أمامي أحياناً، أختلسُ النظرَ إلى وجهي، دهشتُ لما حلّ به ،كم هرمتُ! عليّ أن أحلِقَ ذقني قبل وصولهما، ستستغرقُ رحلتُهما يومين على الأكثر مازال لديّ متسعِ من الوقت.
سقط من حُسباني شيئٌ جوهريٌّ صادمٌ كشفه الخريفُ المتعجّلُ الذي سبقهم إليّ، الأمطارُ المفاجئةُ، كانت غزيرةً جدًّا أذابتِ الطينَ الهشّ. السقفُ لم يصمدٰ لساعاتٓ أمام معركةٍ شرسةٍ أحالتِ الغرفةَ إلى بركةِ ماءٍ صاخبة، وشرّعتِ النوافذَ للريح.
بين قبورِ رخاميَّة ، أغبطتٰ من فيها، أمضيتُ ليلي البهيمَ فاضت فيه دموعي مدرارًا، وكأنها تخوضُ سباقًا مع ماءِ المطر، أتذكَّرُ لومَ العجوزِ :"أو تظنُّ أن ما يقيكَ حرَّ آب سيقيكَ بردَ الشتاء؟ " مع شروق الشمس هدأتِ الطبيعةُ بأخذِ استراحةٍ من تعبِ الأمس، أشفقتُ على العجوزِ وهو يدورُ بعكّازه مع الوحولِ حول غرفتي التي تقيّأتُ أثاثها البسيط، سمعته بصوته المرتجفِ بردًا يستغفرُ الله، وإذ كان ينسى دائمًا اسمي راح يناديني بحرقةٓ:
لا حولَ ولا قوةَ إلّا بالله ها... يا ابن الفرات، أين اختفيت ..أينك وهذا الطوفان



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى