باسم حبوب العذاري - خوف مركب

أتذكر جيداً ذلك اليوم الذي أخبرتها فيه أنني أخاف الاقتراب من البحر، لتبادرني بالسؤال:
- ولماذا تخشى الاقتراب؟
- حين أقترب منه يخيل اليَّ ان هناك من يحاول الإمساك بي، وأنا عاجز عن فعل شيء، وأشعر بأيد خفية تشدني إلى الأعماق، وعيون تترقبني بين تلك الأمواج العالية، وتحدثني بصمت: لا تخف، أقترب أكثر فليس هناك ما يدعوا للخشية، فأحاول الابتعاد، لكنني كلما ابتعدت أكثر اقترب أكثر من البعيد.
فتمسك صديقتي يدي بقوة قائلة:
- من أين تأتيك كل تلك الرؤى الموحشة، أبعد عن راسك كل تلك الهواجس.
- لا أعرف، لكنني أشعر بامتلاء رئتي بالماء، فاصرخ بصوت مخنوق، فتتكسر صدى صرخاتي داخلي، ربما لا أحد يسمعني، ثم اصحوا منهكاً على صرخات امي وهي تيقظني مرعوبة، ذلك الحلم المقيت في الموت غرقاً يطاردني دائماً.
تظلل عيناها هالة من الحزن وهي تهمس:
-هذا وجع قديم، يذكرني بسنوات ماضية راودني فيه حلم ثقيل لم يفارقني ابدا، فحين تجافي البسمة فضاءاتي وأشعر بالاختناق يعاودني ذلك الحلم.
- وما هو؟
- اجد نفسي جالسة وبين يدي سلة ملابس كبيرة مملؤة بشراشف بيضاء متسخة احاول افراغها، وكلما حاولت اكثر تبقى كما هي، فلا اجد سوى المزيد من الشراشف، وكأنها حبل لا نهاية له واقع في جب عميق...
شعرت بضيق كبير، لقد جلبت لصديقتي الوجع من غير أن اعلم، وايقظت لها هم قديم تنكأه الفضاءات المفعمة بالحزن، وليس علي الآن سوى اخراجها بسرعة من هذا المنخفض السوداوي الكبير، فأروي لها قصص كانت تضحكها دائما، ولكنها تظل تنظر لي بعينين شاردتين وذلك الخط الرمادي المتشح بالسواد يرسم على وجهها خطوط لا يمكنني ازالتها بسرعة، فبعض الابواب تكون في متناول اليد؛ قريبة وسهلة ولكن الخروج منها ليس بتلك الصورة التي تعتقدها، كمن يوقظ روح ميت برسم خطان متعاكسان في غروب مقبرة وحين تخرج تلك الروح لا تستطيع ارجاعها مهما حاولت، لأنك لم تدرك اي باب ولجت ومن دون معرفة بالية الخروج، هكذا وجدت نفسي معها، فتحت لها بوابات قاتمة وحين حاولت التراجع لم اعرف كيف اغلقها.
في نهار جديد عادت تسألني من جديد، فحاولت الهروب ولكنها اغلقت عليّ كل السبل، لم يكن امامي سوى اجابتها، رغم خوفي من الاقتراب من تلك الزوايا.
ضحكت بقوة محاولة ايهامي انها نسيت كل شيء، رغم ادراكها أن صدى قراءتها تلتمع في مخيلتي، وهذا ما جعلنا نتوافق طول الوقت، اقتربت أكثر ووشوشت في اذنيّ:
- لا تخف هواجسي تلك لن تعود بهذه السرعة.
تصنعت ابتسامة ولكنها كانت باردة جدا، مدت يدها مصافحة، كانت خليط عجيب؛ دفء وبرودة، وهذا ما جعلني انسى كل شيء، عاودت التساؤل:
_ هل البحر مخيف لتلك الدرجة.
_ ليس مخيف بل مرعب بصورة لا تصدق، رغم أنه هاجس يعبث في مخيلتي فقط؛ فلا اجد ميتة اشد رعبا من الموت غرقاً.
_ لابد من سبب لكل ذلك، فحلمك هذا لم يأتي من الفراغ، هناك شيئا ما خلقه وساعده على الاستمرار.
ارجعتني سنوات طويلة، كنت أتحاشى الخوض فيها أو اعادتها، وحين الحت رويت لها بوجع كبير:
_ حين كنت طفلاً غرقت في نهر صغير كان يمر في أرض جدي، لحسن حظي كان أخي قريبا وأخرجني بعد أن فقدت كل أمل بالنجاة، لا أعرف كيف قفزت وسط ذلك النهر من دون مقدمات، وانا لا اعرف السباحة، كان هناك شيئا ما في وسط النهر يدعوني اليه، وابصرت أشباح الصبية تتراقص حولي تحت الماء، وشيئا ما يمنعني من الحركة، فأسلمت نفسي لخيار الموت...
- لقد اوجعت قلبي، فما مررت به مخيف جدا، وماذا رأيت أيضا؟
- ما زلت أتذكر لجة الماء والخيالات الكثيرة المتأرجحة، وشيء أشبه بالصراخ المخنوق، المحير جدا أنني بقيت اتساءل هل ما يحدث حقيقة أو مجرد حلم مزعج فقط؟ هل يمكن أن أموت ولا أعود كالآخرين، وهل ستفقدني أمي قبل حلول المساء، وماذا ستقول لأبي حين يسألها عني؟
شعرت بيد رحبة تحيط بي وتنتشلني من ذكرياتي، هامسة بحنو كبير:
_ ابعد تلك الذكريات المزعجة من فضاءاتك ، وما عليك سوى الاستمرار بالتغاضي.
دخلت في متاهات التساؤل قبل أن أحدثها:
_ صديقتي عندما كنت صغيراً لم أكن اعلم أن من يموت غرقاً سيدخل الجنة بلا حساب.
واومأتُ بألم حين ابتسمت قائلة:
_ جيد أنك لم تعرف هذا في ذلك الوقت.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى