لست أبتغي بكتابة سيرة أبي أن أظهره على غير صورته أو أجعل منه رجلا فوق الناس مما يدلس به الساردون لحيوات أهليهم؛ إنما هي صفحات أرسم بها ملامح زمن مضى، وصفحة قل أن يجدها الأحفاد الذين تناسلوا من عقبه؛ يحمدون ما يجدونه من سيرته وقد يطوي بعضهم تلك الأوراق غير آبه بما فيها من عالم مضى.
دارت الأيام بي معه وصاحبته بقية عمره الذي امتد حتى جاوز الثمانين؛ ربما تكون شهادة الابن في أبيه مجروحة ولا يؤخذ بها في أحكام الفقه لكنها في باب القرابة والحب أو الكره أبين طريق وأصدق تعبير عن العاطفة؛ رحمة الله تعالي عليه كان ينسى الإساءة التى ربما نالته ولا يتذكر منها غير تهاويم؛ لا أذكر مرة أنه عاب أحدا أو انطوى على ضغينة تمور في قلبه؛ وهبه الله مقدرة على الذكر والتسبيح؛ يقوم الليل- إلا قليل نوم -يسبح ويتهجد، كنت أتعشق صوت يتردد في أذني وهو يدعو بقوله "واكتبنا من الشاهدين!
أي دلالة لهذا الدعاء استوحاها أبي فظل يرددها؟
لم يكن صاحب عادة في طعام يؤثره؛ يأكل ما تيسر لنا وما طبخته يد أمي الحنون نلتف حول الطبلية ونتبادل لقيمات هي أقرب إلى الحمد منها إلى اليسار؛ نتبلعها ولا نريم سخطا أو نتلوى ضجرا؛ لم نكن غير أبناء كفرنا الذين يأكلون ومن ثم يحمدون ربهم على ما رزقهم من خير الأرض ومن بهيمة الأنعام؛ تلك التى ما اقتنينا واحدة لنا خاصة؛ فكانت كلها شراكة بالنصف؛ يبيع صغيرها ونطعم لبنها وندهن بسمنها طعامنا؛ وحين نأتي من مدارسنا نتقارض أرغفة الخبز مغموسة باللبن الرائب.
كان يزرع اثنين وعشرين قيراطا في حوض العشرين تطل مباشرة على طريق دسوق - قلين، وحين أرادت هيئة الطرق تعلية ورصف ذلك الطريق ما كان منها إلا أن جرفت قطعة من تلك الأرض تقارب ربعها فكانت بركة تتعبه في الري فيقوم رحمة الله تعالى عليه بعمل حاجز كل زرعة، يتهبه ويضنيه؛ سيما وهي بلا صرف فإذا جاء الشتاء صارت خزانا يشبه ما درسته في الجغرافيا بحيرة السد العالي!
وأذكر مرة أن الماء انهمر من السماء؛ وكان أبي قد سافر إلى السعودية يعمل ويرتزق؛ صار القمح يموج بماء المطر؛ فهدى الله أمي أن تجمعنا ونأخذ الحلل والأواني لننزح عنه الماء؛ عجبا كيف لصغار وأمهم ينقذون حصاد بطونهم التي سيضربها الجوع!
حين علم بذلك بلغ به السعي أن أرسل مالا عاجلا لنشتري دقيقا ولا نفعل ذلك مرة أخرى!
يحكي رحمة الله؛ أنه كان خفيرا عند الأمير محمد السديري؛ يقف على بابه يفتحه ويغلقه ويروي بعض زرع في أرض صخرية لا تطعم جائعا؛ ارتفع الماء إلى الخزان ليلا؛ دون أن يدري فانهال بعضه؛ فإذا بذلك السعودي وقد بلغ به الترف أن ناداه مستعليا وآمرا به أن يرحل غير مأسوف عليه؛ فرد عليه بأن " التكية المصرية ما تزال قائمة بمكة جوار الحرم" في إشارة إلى فضل أهل مصر وبذلهم الخير إلى بيت الله الحرام ومجاوريه ثم عقب بقوله : هل نسيتم هللة يا مصري!
هذه بعض ملامح شخصيته التى عرف بها في غير تكلف أو انطواء بل شجاعة كلفته مغادرة مصدر رزقه؛ نحيزة عرف بها؛ حتى إذا أعوز صغاره المال حمل معوله وضرب في بلاد الله يسعى ويكد.
عرف الفتى منه تلك الحدة فكان يتحاشى غضبته وينزوي بعيدا حين يحتد، وإذا ما طغق يهدأ سيما حين يتوجه إلى ربه مصليا فينسى ثورته وتهدأ سريرته.
يشدو بمواله الحزين حين يفرغ من تعبه وسعيه؛ تراه يتكيء على مسند حشوه قطن، شهد الفتى بوادر التغير في الكفر من دخول مياه الشرب وقد كانت البلدية تنصب حنفيات في جوانبه؛ حنفية فراج والشيخ ربيع؛ وكانت النسوة ما تفتيء الواحدة تدير عراكا يتطور إلى شد الشعر وتلاسن بينهن؛ أبت نفسه إلا أن يساهم مع جيرانه في إدخال المياه النقية إلى بيته الطيني كان هذا والعجب يتملك ذوي الغنى ممن تباطؤا في هذا؛ مما أشعل بيوتهم نار غيرة فأسرعوا له مقلدين.
حكى أن الهجانة وقد جاءوا الكفر يقهرونه بعدما قتل العمدة؛ وكانت العصبية تشتعل وينفث فيها الشيطان بكيره وسمه، لم تفلح دعوات الصلح و شفاعة الرحم أن تخمد تلك الفتنة؛ سيما والجهل يبلغ بهم حد النزق، والعجب أن المتناحرين أصهار وخلان؛ لا يحب الفتى أن يمر قلمه بتلك الهوجاء إلا معتبرا.
أذن لصلاة العصر وتلك شارة الرواح من الحقول إلى البيوت؛ تسرح الأبقار وتنطلق الحمير محملة بما تنوء به وتثغو الأغنام راقصة؛ مشهد تغير وآض الفقر في الحقول مما جنته ماكينة صماء وآلات لا تعرف غير الصخب.
على أية حال أمسك به الهجانة؛ وهم قوم ذوو طول وسمرة وجه يركبون الإبل فيظهرون السطوة والشدة بما يمسكون في أياديهم من سياط يرهبون به هؤلاء الذين أظهروا التمرد وغالبوا المملكة المصرية في رجلها-العمدة- على تركيب اليهود؛ وذلك مجرى مائي يروي دوار آل سلامة وهو بيت العمودية الأخير؛ يقطعه قطار الدلتا؛ فالكفر كان ذا حظ وافر من ذلك الثراء.
والجد الكبير جادو يقف يشاهد ولده وهو مقاد لتقام له حفلة تجريس؛ يرقصونه وتوضع الرمال في طاقيته فيكون مرح وسخرية!
وقد كان ابن عمه إسماعيل مصطفى خفيرا نظاميا يتبعه وكبير الهجانة وكان يدعى الشيشيني من أمامه.
فمال ابن جادو متباطيء على ابن عمه وهمس في أذنه سأقفز التركيب وإياك أن تتبعني؛ وما انتبه كبير الهجانة حتى وجده فارا إلى بيته وإذا بالجد الكبير جادو يهلل فرحا؛ فطفق الشيشيني ضاحكا وقد أدهشته الحيلة.
دارت الأيام بي معه وصاحبته بقية عمره الذي امتد حتى جاوز الثمانين؛ ربما تكون شهادة الابن في أبيه مجروحة ولا يؤخذ بها في أحكام الفقه لكنها في باب القرابة والحب أو الكره أبين طريق وأصدق تعبير عن العاطفة؛ رحمة الله تعالي عليه كان ينسى الإساءة التى ربما نالته ولا يتذكر منها غير تهاويم؛ لا أذكر مرة أنه عاب أحدا أو انطوى على ضغينة تمور في قلبه؛ وهبه الله مقدرة على الذكر والتسبيح؛ يقوم الليل- إلا قليل نوم -يسبح ويتهجد، كنت أتعشق صوت يتردد في أذني وهو يدعو بقوله "واكتبنا من الشاهدين!
أي دلالة لهذا الدعاء استوحاها أبي فظل يرددها؟
لم يكن صاحب عادة في طعام يؤثره؛ يأكل ما تيسر لنا وما طبخته يد أمي الحنون نلتف حول الطبلية ونتبادل لقيمات هي أقرب إلى الحمد منها إلى اليسار؛ نتبلعها ولا نريم سخطا أو نتلوى ضجرا؛ لم نكن غير أبناء كفرنا الذين يأكلون ومن ثم يحمدون ربهم على ما رزقهم من خير الأرض ومن بهيمة الأنعام؛ تلك التى ما اقتنينا واحدة لنا خاصة؛ فكانت كلها شراكة بالنصف؛ يبيع صغيرها ونطعم لبنها وندهن بسمنها طعامنا؛ وحين نأتي من مدارسنا نتقارض أرغفة الخبز مغموسة باللبن الرائب.
كان يزرع اثنين وعشرين قيراطا في حوض العشرين تطل مباشرة على طريق دسوق - قلين، وحين أرادت هيئة الطرق تعلية ورصف ذلك الطريق ما كان منها إلا أن جرفت قطعة من تلك الأرض تقارب ربعها فكانت بركة تتعبه في الري فيقوم رحمة الله تعالى عليه بعمل حاجز كل زرعة، يتهبه ويضنيه؛ سيما وهي بلا صرف فإذا جاء الشتاء صارت خزانا يشبه ما درسته في الجغرافيا بحيرة السد العالي!
وأذكر مرة أن الماء انهمر من السماء؛ وكان أبي قد سافر إلى السعودية يعمل ويرتزق؛ صار القمح يموج بماء المطر؛ فهدى الله أمي أن تجمعنا ونأخذ الحلل والأواني لننزح عنه الماء؛ عجبا كيف لصغار وأمهم ينقذون حصاد بطونهم التي سيضربها الجوع!
حين علم بذلك بلغ به السعي أن أرسل مالا عاجلا لنشتري دقيقا ولا نفعل ذلك مرة أخرى!
يحكي رحمة الله؛ أنه كان خفيرا عند الأمير محمد السديري؛ يقف على بابه يفتحه ويغلقه ويروي بعض زرع في أرض صخرية لا تطعم جائعا؛ ارتفع الماء إلى الخزان ليلا؛ دون أن يدري فانهال بعضه؛ فإذا بذلك السعودي وقد بلغ به الترف أن ناداه مستعليا وآمرا به أن يرحل غير مأسوف عليه؛ فرد عليه بأن " التكية المصرية ما تزال قائمة بمكة جوار الحرم" في إشارة إلى فضل أهل مصر وبذلهم الخير إلى بيت الله الحرام ومجاوريه ثم عقب بقوله : هل نسيتم هللة يا مصري!
هذه بعض ملامح شخصيته التى عرف بها في غير تكلف أو انطواء بل شجاعة كلفته مغادرة مصدر رزقه؛ نحيزة عرف بها؛ حتى إذا أعوز صغاره المال حمل معوله وضرب في بلاد الله يسعى ويكد.
عرف الفتى منه تلك الحدة فكان يتحاشى غضبته وينزوي بعيدا حين يحتد، وإذا ما طغق يهدأ سيما حين يتوجه إلى ربه مصليا فينسى ثورته وتهدأ سريرته.
يشدو بمواله الحزين حين يفرغ من تعبه وسعيه؛ تراه يتكيء على مسند حشوه قطن، شهد الفتى بوادر التغير في الكفر من دخول مياه الشرب وقد كانت البلدية تنصب حنفيات في جوانبه؛ حنفية فراج والشيخ ربيع؛ وكانت النسوة ما تفتيء الواحدة تدير عراكا يتطور إلى شد الشعر وتلاسن بينهن؛ أبت نفسه إلا أن يساهم مع جيرانه في إدخال المياه النقية إلى بيته الطيني كان هذا والعجب يتملك ذوي الغنى ممن تباطؤا في هذا؛ مما أشعل بيوتهم نار غيرة فأسرعوا له مقلدين.
حكى أن الهجانة وقد جاءوا الكفر يقهرونه بعدما قتل العمدة؛ وكانت العصبية تشتعل وينفث فيها الشيطان بكيره وسمه، لم تفلح دعوات الصلح و شفاعة الرحم أن تخمد تلك الفتنة؛ سيما والجهل يبلغ بهم حد النزق، والعجب أن المتناحرين أصهار وخلان؛ لا يحب الفتى أن يمر قلمه بتلك الهوجاء إلا معتبرا.
أذن لصلاة العصر وتلك شارة الرواح من الحقول إلى البيوت؛ تسرح الأبقار وتنطلق الحمير محملة بما تنوء به وتثغو الأغنام راقصة؛ مشهد تغير وآض الفقر في الحقول مما جنته ماكينة صماء وآلات لا تعرف غير الصخب.
على أية حال أمسك به الهجانة؛ وهم قوم ذوو طول وسمرة وجه يركبون الإبل فيظهرون السطوة والشدة بما يمسكون في أياديهم من سياط يرهبون به هؤلاء الذين أظهروا التمرد وغالبوا المملكة المصرية في رجلها-العمدة- على تركيب اليهود؛ وذلك مجرى مائي يروي دوار آل سلامة وهو بيت العمودية الأخير؛ يقطعه قطار الدلتا؛ فالكفر كان ذا حظ وافر من ذلك الثراء.
والجد الكبير جادو يقف يشاهد ولده وهو مقاد لتقام له حفلة تجريس؛ يرقصونه وتوضع الرمال في طاقيته فيكون مرح وسخرية!
وقد كان ابن عمه إسماعيل مصطفى خفيرا نظاميا يتبعه وكبير الهجانة وكان يدعى الشيشيني من أمامه.
فمال ابن جادو متباطيء على ابن عمه وهمس في أذنه سأقفز التركيب وإياك أن تتبعني؛ وما انتبه كبير الهجانة حتى وجده فارا إلى بيته وإذا بالجد الكبير جادو يهلل فرحا؛ فطفق الشيشيني ضاحكا وقد أدهشته الحيلة.