وداد معروف - الغرف المعتمة.. قصة قصيرة

- تأمّلتها... كسرات رقيقة على جانبي العينين... بعض التجاعيد الدقيقة بدأت تحاصر الفمّ... قناتان عميقتان أسفل الخدّين...
- مسحت على لمتها المنسدلة وهى تخاطبها: " تبًّا لكِ أيُّتها المرآة... وددت لو حطّمتك... أهذه أنا؟!!!
- لم يتبقَّ لي من جمال آسر إلا ذلك الّلون الخمريّ؟!
- كدّرت بشاشته تلك التجاعيد اللعين " سبحت عيناها في مرآتها... أبحرت بعمق ثلاثة وعشرين عامًا لحظة أن دخلت هذا البيت فتاة مشرقة ضاحكة سكرى من فرط أنوثتها... سنوات عاشتني ولم أعشها, كيف مرّت بي؟!!! ما أضافت لي سوى هذه الكسرات وتلك الخطوط... - بضحكة ساخرة وهي تهزّ رأسها: " بأي إنجاز سأحتفل غدًا؟!
لم أحقق في حياتي أيّ إنجاز سوى إنجاب ابنتي.
- دُرت في دروبه... واستغرقتني حاراته وعطفاته فلم أعي لنفسي وأعمل عليها لأرتقي بها، ونسيت حتى ما تعلمته في الجامعة, وكأني فقدت الذّاكرة كلّ هذه المدّة... ولمّا استرددتها وجدت في مرآتي كهلّة امرأة لا أعرفها...عابسة ... تقطيبة جبينها غائرة جدًّا!!! كأنّ بينها وبين الضّحك خصام طويل... سنوات ما أدري كيف مرّت؟ لا بل كيف سُرقت؟!!!
- خفيف اليد هذا الّلص؛ لم أشعر بيده أبدًا وهي تعمل إلا وأنا أتحسّس وجهي الآن... وهل كان لي خيار أن أحيا كما أريد؟!
- كانت لي أحلام عريضة ذُبحت كلّها على عتبة هذا البيت... عرفت هنا نوع من الحزن المركّب... رُبمّا وحدي التي اكتشفته.
- أن تحرم من الحزن لنفسك.. أن تحبس دموعك في عينك فلا تواسيها وترحمها فتزرفها... بل تدعها حتى تجمد على مرآة عينيك؛ لأنّه لا يجب أن يراك و أنت متلبس بالحزن عليها, فلا اهتمام إلا به وبمشاعره... ولا حزن إلا حزنه...
- حينما تزوجته لم يكن هكذا... كان لديه شيء من الحنان والحبّ... شيء من الأنس بالنّاس... ثم ما لبث إلا قليلاً وتغيرت حاله...
- انكمش على ذاته و انسحب من الحياة بإرادته... اكتشفت أخيرًا أنّ هذا المكتئب الذي أضاع أحلى سنوات العمر في عتمة الحجرات...حبيس داره... لا أصدقاء ولا أقارب إلا المقربين جدًّا من أهلي وأهله... لا يغادر إلا لعمله ثم يعود لنفس العتمة... هو من سرق عمري, لا أذكر أنّي طالعت وجهه إلا وجدته غارقًا في تفكيره الحزين... ظننته في البداية هدوءًا , لكن تأكّد لي أنّه عدم اكتراث...
- كآبة خيّمت على منزلنا ولم تنقشع إلى الآن كثيرًا... ما تمنّيت أن أرزق بفرحة لكنّها لم تولد لي أبدًا.... حاولت كثيرًا أن أخرجه من تلك العتمة؛ لكنّي دائمًا أعود من محاولاتي هذه يائسة من الأمل... كم راودني ذلك الحلم طويلاً؟! أن أخرج معه متأبطة ذراعه مزهوة بسيري بجانبه وقصصت عليه حلمي هذا ما فتح شفتيه بكلمة ... من لحظة خروجي معه أوّل مرّة وأنا ألهث خلفه حتى تقطّعت أنفاسي... تبدّدت كلّ أحلامي، وتنازلت عن أشياء كثيرة كانت تسعدني , لكن بقيت عادة وحيدة واظبت عليها وإن تغيّر أسلوبي في ممارستها... هو احتفالي كلّ عام بيوم مولدي... ولكن بطقوسه هو فلا ضجيج ولا أصدقاء... نلتف حول التورتة... نطفىء الشموع... و نوزّع الأطباق وأحاديث هامسة بيني وبين أمي وأخوتي حتى مللت رتابته هو الآخر ولم يعد يسعدني... لذلك لن أحتفل غدًا بهذه المناسبة... وسألغي طلبي لتورتة عيد الميلاد... - والآن سأتصل بزوجي وابنتي لأعلمهما برغبتي في عدم الاحتفال هذا العام... لكن كيف سأبرّر لهما هذا؟!!!
- ضغطت أزرار التليفون... رماديًّا خرج صوته: وعليكم السّلام...
بتردّد... لن أقيم هذا العام حفل عيد الميلاد...
لكِ ما تريدين.
- قالت وغيمة الدّمع تنهل من عينيها: لم تسألني لماذا؟!
- وهو من الضّيق في غاية : لماذا؟
- كيف لمسروق أن يحتفل بموعد سرقته كلّ عام؟
- لم أفهم... أنتِ حرّة... تحتفلين، أو لا تحتفلين... هي مناسبتك لا تشغليني بألغازك...
- بنبرة متقهقرة: أتّصل حتى تحتفظ لي بثمن الهدية؛ فأنا أريد ثمنها لأمر آخر...
- سلّمت وأغلقت.... عادت للمرآة تمرّر أصبعها على الكسرات في وجهها وهى تقول: "وهل هناك من يصلح هذا الوجه المتهدم، ويعيد لهذا الجلد اليابس ماء الحياة فيربو ويورق؟!!!
- أشرقت في ذهنها فكرة... وما المانع من الذهاب لجرّاح التّجميل ليعيد سنوات العمر التي سرقت؟!!!

وداد معروف / مصر

تعليقات

قصة مغرقة في الإنسانية، قشكرا على هذا الغوص الجميل داخل بطلة النص السيدة التي على أعتاب الكهولة، وشكرا على تلك الرهافة في تناول أحاسيسها ومشاعرها.
 
أعلى