إدريس علي بابكر - أتراح الظروف.. قصة قصيرة

ليالي المنطقة الطرفية البائسة التي لا تعرف لها ادخار أماني لأحلام مؤجلة، تضج شوارعها المعرجة بعواء الكلاب و مواء القطط و نهيق الحمير المتعبة و غناء الحياري و جوخ بول السكارى على الحيطان الائلة للسقوط، في بيوتها الواهنة كخيوط العنكبوت تسمع نواح الأطفال الجوعي و المرضى و همهمات الأمهات الثكالي ، في داخل غرفة ضيقة مثل زنزانة سجين أنا و ابن قريتي القادم على التو في زيارة مفاجئة نتسامر و نسترجع ذكريات الأهل و الخلان، ابن قريتي بارع جدآ في الحكي بلهجته البدوية يضيف للأحداث تشوق و بعدآ جماليآ بالطرفة فنضحك من الأعماق، يتمتم في الكلمات حينآ بعد حين يتوقف عند نطق الحرف الواحد أكثر من ثواني يوشك أن تنقطع أنفاسه بلغة ركيكة مثل بحيرة متقطعة، ما عرفت منه أن القرية مازالت كما هي لم يتغير فيها شيء جديد، غير أخبار الموتى و الأحداث الاجتماعية العابرة، معظم كبار السن ماتوا بالسل أو بالكبد الوبائي و أطفال عبروا الحياة كالفراشات المحترقة بالحصبة و الحميات، و مازلن النساء ينساقن وراء أوهامهن يرتادن إلى كرامات الشيوخ الملجأ الوحيد لعلاج الأمراض المزمنة و المستعصية، سألته عن بقرة و ثور أهداهما لي جدي المرحوم و امنته على ابن عمي، يا ترى كم صار العدد بعد هذه السنوات من غيابي!، أطلق ضحكة ساخرة بفمه الكبير حتى تتطاير رزاز البصاق في وجهي قائلاً : ( ياخي انت عارف أخوك ده بلباص (مراوغ) قال بقرتك طلعت عاقرة و عجزت و تورك ني ما فحل).
أدركت أن ابن عمي خان الأمانة و تصرف بانانية مفرطة. اربكة حساباتي مما أيقظ حسرة في نفسي و حطم حلمي الذي كنت أحسبه للزواج، لم نشعر بالملل من الأحاديث المثيرة و المتفرقة سرقنا الوقت حتى وجدنا أنفسنا عند مطلع الفجر، تزامن ارتفاع صوت المؤذن عاليآ مع صيحات الديكة، عدي الليل على جناح السرعة لم تفسده الغازات النتنة التى كانت تخرج من مؤخرة صديقي النائم بلا استئذان، قابعآ في نوم عميق من شدة إرهاق العمل الشاق، في الغرفة الضيقة سريران متهالكان تنازلت لضيفي من سريري و استلقيت على الأرض، أثناء ما كنا نهئ أنفسنا إلى النوم، سمعنا صوت استغاثة أمرأة تصرخ عاليآ (واي قتلني... واي قتلني..) . ، حملنا عصاتان غليظتان و هرولنا إلى جهة الصوت المجهول، وجدنا الشجار في منزل تندية التي تعمل عاملة في المشاريع الزراعية مع زوجها رحمة العتالي (حمال) ، ما عرف عنهما زوجان وفيان برغم ضنك العيش ، حياتهما الزوجية مثل حياة كل الأزواج لا تخلو من النكد، سبقونا بعض الجيران لمكان الحادث شجار ملتهب بين الزوجين لم يطفئه صراخ الأطفال و لا توسل الجيران، تندية تعرضت إلى نزيف في انفها و بعض الخدوش في الوجه، ترطن و تسب بألفاظ جارحة نفهمها بالعربية و الأخرى بالرطانة لا نفهمها و لكن نحس بخطورتها البالغة تصرخ بجنون و تطلب الطلاق، انسد أفق الحل بضبابية المشهد المتأزم أمطرت كلمات قاسية جرفت عشرة الأيام الندية، الزوج رحمة تفوح منه رائحة الخمر هائج بغضب عارم يطقطق في أسنانه يلوي شفاه و يتفوه بكلمات بذيئة تطعن في شرفها، أقسم بالله سوف يقطع رقبتها و يسحقها مع التراب كل ما في الأمر تأخرت تندية من العمل فحرقته نار الغيرة و لم يقبل منها الإعتذار، بعد ساعة و نصف من الفوضى و الجدال علقت الفضائح على حبل السر، ثم بعدها هدأت الأنفاس قليلآ و انكسر طوق العناد بعد تطيب الخاطر من الجيران، نام كليهما على حدا في غرفة منفصلة و عادوا الجميع إلى بيوتهم بتؤجس، سادهم شك أن تنفجر الأوضاع وراهم مرة أخرى أسوأ من المربع الأول.
لم يغمض لي جفن في تلك الليلة بعد ونسات إبن قريتي و الأحداث المثيرة بين تندية و زوجها، مما اجبرني أن لا ارافق صديقي إلى العمل عند كمائن الطوب، كنت احتسي الشاي مع ضيفي و أستمع إلى أخبار الصباح من الراديو الذي يبث معاناة المواطنين على الشريط النيلي كعادة كل خريف، قلت بعدها اخلد إلى الراحة التامة من تعب السهر، برهة فجأني دخول جاري حسين المكنيكي بعد التحايا الصباحية أمرني أن نذهب إلى منزل رحمة و نصالحه مع زوجته حتى لا يقع بينهما الطلاق و يتعرضوا ألابناء الصغار إلى التشرد، نهضنا و اتجهنا صوب المنزل عندما اقتربنا على عتبة الباب سمعنا همسات و كلمات غزل و ضحكات متبادلة من الأعماق بين الزوجين، العلاقة سمن على عسل كأن لم يحصل بينهما حريق أمس، عرجنا بخطواتنا إلى الخلف تعلونا حاجب الدهشة من تناقض المشاعر، كما قال لي جاري علمتنا التجارب إن الأنثى تسامح في الحب إلا عند حالة الخيانة. بعد رجوعي إلى غرفتي خلدت إلى النوم مع ضيفي، عندما اقتراب موعد رفاقي في الكمائن أن نلتقي في المساء عند بائعة الخمور البلدية، أخبرت ضيفي بذلك ظننته لا يعاقر الخمر لكنه استقبل الخبر بحفاوة و شوق شديد، قال لي منذ وطئت أقدامه المدينة كاد رأسه ينفجر من شدة الخرم ثم اردف بتمتمته المعهودة قائلاً : والله شفتك بتصلي بخشوع فاكر القبة فيها فكي!!
اجتمع الرفاق في زمن الميعاد و التفوا حول عزيزتهم يقارعون الكؤوس بلذة و يستمتعون بالتهام اللحوم المشوية، فجاءة داهمتنا عربة الشرطة و طار المزاج من رؤوس الجميع كالحمام و هبط الخوف في القلوب الراجفة، كل شخص يقول يا نفسي يبحث عن منفذ للهروب حتى لو من ثقب إبراة، لحظتها لم أتذكر ضيفي تسلقت الجدار الخلفي و هربت إلى داخل الحي بشوارعها المتعرجة حافي القدمين، لكن ضيفي الوديع وقع اسيرآ في قبضة الشرطة.
في اليوم الثاني دلفت إلى المحكمة لكي أدفع له الغرامة بعد جلده، تصادفت مع تندية تبكي زوجها على أثر كل سوط من الجلاد، دفعنا الغرامة سويآ زوجة حنينة تستحق الاحترام برغم الشقاء و التعب تعرف معنى التضحية، بعد خروجنا من المحكمة ضيفي يخبرني بأنه أول مرة في حياته يدخل الحراسة و يصدر قرار ضده بالحكم ، هنالك في القري السكارى لا تطاردهم أشباح الشرطة يحتسونها جهراً في وضح النهار لكنهم يخشون من هيبة العمدة ، في الشارع العام إلتقينا مع احد أقاربه من المتشددين الدينيين بوجه العبؤس و لحيته الكثة ، بعد السلام يوعظه بصرامة حتى اسقط نظراته خجلآ، اعتقدت أنه عرف بخبر محاكمته و يلومه كيف يقيم مع صائع و صعلوك مثلي لفظتني القرية بسبب تمردي على الأعراف، و لكن بعد الحديث المر يبدو هنالك سر غامض وراء فعل ارتكبه إبن قريتي في القرية ثم هرب إلى أطراف المدينة .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى