حيدر عاشور - صلاةُ الأمان.. قِصّةٌ قصيرة

لم تكنْ طفلة شقيّة، ولا تُشبِهُ الأطفالَ في هوسِ التخريبِ واصطناعِ المُشاغباتِ والحيَلِ على كِبارِ السنِّ. بل علّمَها فقدانُها المُبكِّرُ لوالدِها الانطواءَ على نفسِها، فهيَ لم ترَ من هذه الدُنيا غيرَ وجهِها البريء المُمتلئ بالحِرمان، ولم تعرفْ في الحياةِ غيرَ الوحدةِ والدموع.
كانتْ تشعرُ أنّها مرفوضةٌ حتّى من أقربِ الناس إليها.. أُمُّها كانتْ تُشعِرُها دومًا بأنّها عقبةٌ في طريقِها.. ولطالما بحثتْ بتفكيرِها المحدودِ عن سببِ نفورِ أُمِّها منها وكراهيتِها لها...
طوالَ حياتِها لم تحظَ لحظةً واحدةً بحنانِ الأُمّ! ولم تشعُرْ بحُبِّها وعطفِها. كُلُّ ما كانتْ تراه وجهًا متجهمًا، وأوامرَ صارمةً، وعبئًا ثقيلًا على الأُمِّ الشابةِ التي كانتْ تُجهّزُ نفسَها لزيجةٍ جديدةٍ.
هذا الكُرهُ كانَ تراكُماتٍ لزوجٍ ماتَ بسيطًا فقيرًا مؤمنًا بقضاءِ اللهِ (تعالى) وقدره، وقد تكونُ هذه الأمُّ الجامدةُ في مشاعرِها وغرورِها هيَ من ساعدتِ الموتَ أنْ يُسرعَ لزهقِ روحه؛ فالحياةُ الآنَ تشتملُ على حوادثِ القتلِ من أجلِ السعادةِ عادةً! وما سمعتْه من أُمٍّ ألقتْ أطفالَها الصغارَ في النهرِ ولم يرفّ لها جفنٌ، وآخر أحرقَ أطفالَه وزوجتَه وهم نيامٌ! وأخرى ذبحتْ كُلَّ أفرادِ عائلتِها من أجلِ حبيبٍ فاسقٍ! وابن يذبحُ أباه من أجلِ ورثٍ مُبكّر!
أيُّ حياةٍ هذه تلك المُمتلئة بالغدرِ والخيانةِ!
مرّتْ في خيالِها هذه الأحداثُ؛ فخافتْ على نفسِها وانطوتْ أكثر في حُجرةٍ صغيرةٍ أعلى الدار، ولكنّ الأمَّ لم تتركْها على حالِها فقد أخرجتْها من المدرسةْ وجعلتْها أشبهَ بالخادمةِ في البيتِ مع الضربِ المُبرِّح.
وما إنْ دخلتْ سِنَّ الرابعةَ عشرَة أو الخامسةَ عشرَة من عُمُرِها، حتى قامتْ بتزويرِ جنسيتِها لتزيدَ ما عاشتْه ابنتها من سنيّ عمرها إلى إحدى وعشرين سنةً، وزوّجتْها لكهلٍ كبيرٍ له أولادٌ أكبرُ منها، فكانتْ زيجتُها فرصةً لأُمِّها كي تُزيحَ العبءَ عن نفسِها..
لم تُفكِّرِ الأُمُّ للحظةٍ واحدةٍ في مصير ابنتها، وفيما ستواجِهُه في حياتها، بل كانَ تفكيرُها منحصرًا بنفسِها بأنانيةٍ مُفرطة.
دخلتِ الصغيرةُ بيتَ زوجِها وهي طفلةٌ (خام) خائفةٌ من أُمِّها التي قد تقتلُها في أيةِ لحظةٍ، مرعوبةً وجِلَةً تتلفتُ يمينًا ويسارًا بحثًا عن بادرةٍ تشعرُ من خلالِها بالأمنِ والاستقرار، ولكن عبثًا كانتْ تبحث!
حياةٌ جديدةٌ، وخوفٌ جديدٌ، وقسوةٌ وعذابٌ تجرعتْهما من زوجِها الكهلِ دونَ أنْ يرحمَ سنَّها الصغيرَ وقِلةَ خبرتِها في الحياة.. دونَ أنْ يفهمَ وضعَها السابقَ وخوفَها من الغرقِ والحرقِ والذبحِ على يدِ أُمِّها..
حبسَها في البيتِ، ومنعَها من رؤيةِ الغُرباءِ والأقرباءِ وحتّى أولاده، كان حينَ يخرجُ يُغلِقُ بابَ البيتِ وراءَه ويوصِدُ النوافذَ ويُلقي عليها التعليمات: لا تفتحي، لا تتكلّمي، لا، لا...
كُلُّ حياتِها الزوجيّةِ سلسلةٌ من الأوامرِ والنواهي.
كانَ يشكُّ بها في كُلِّ شيءٍ، ويضربُها ولا يتركُها إلا وهيَ مُثخنةٌ بالجروحِ والآلام، وأصبحَ الضربُ فيما بعد هو وسيلته الوحيدة للتفاهِمِ معها، فكانتْ تخشاه، وترتجفُ خوفًا حينَ يحضر، وتعلّمتِ الصمتَ ولكنّه ضاقَ بصمتِها وانطوائها، وكأنّه أشبعَ رغبتَه منها، أو كأنّها نزوةٌ عابرةٌ في حياته.. فأقدمَ على إهمالِها وجعلِها كأيّ قطعةِ أثاثٍ في البيت..
خافتْ أنْ يُطلَّقَها، وترجعَ إلى أُمِّها.. فعملتْ على أنْ تكونَ زوجةً وخادمةً مطيعةً، تعرفُ حدودَ اللهِ (تعالى) في طاعتِه وإطاعةِ زوجِها، فاستغلَّ زوجُها تلكَ الطيبةَ..
هي تُصلّي، وأغلبُ أيامِها صائمةٌ، وهو يرجعُ إلى البيتِ؛ ليُكمِلَ سهرةَ نشوةٍ مُحرّمة، يملأُ البيتَ بالروائحِ الكريهةِ وبالدُخانِ الخانق. كُلُّ ذلك رضيتْ به: لئلا ترجعَ إلى عذابِ الأُمّ.
تتمنّى أنْ يشعرَ بها زوجُها يومًا، وأنْ يكونَ يومًا رؤوفًا بها ويُسعدُها، ويُنسيها سنواتِ العذابِ والقسوةِ التي عانتْها في بيتِ أُمِّها وبيته، ولكن لم تتحقّقِ الأمنيةُ، بل زادَ في الطينِ بِلةً؛ إذ قامَ بإدخالِ أصدقائهِ إلى البيتِ ليتسكّعَ معهم وكانوا يبقون إلى ساعاتٍ مُتأخرةٍ من الليل.
حاولَ أحدُ أصدقائه الاعتداءَ عليها، ولكنّها كانتْ تُحصِّنُ نفسَها بغلقِ الأبوابِ جيدًا، ولا تفتحها مهما علا الصُراخُ؛ فهي لا تشعرُ بالأمانِ، وإيمانُها باللهِ (تعالى) زادَ يقينَها أنْ لا تخدمَ شاربي الخمرِ ولو كانَ الموتُ مصيرَها..
كانتْ تكتمُ الآمَها وتصبرُ على قضاءِ الله (تعالى) فيها، وهي ترجو أنْ يهديَه الله (سبحانه). وبسببِ كثرةِ الهمومِ وكبتِ المشاعرِ بدأ قلبُها يؤلمُها بشدّةٍ وهي في عزِّ شبابِها، وكأنَّ هذا الوجعَ بلاءٌ جديدٌ يمتحنُها اللهُ (تعالى) به. فصبرتْ عليه راجيةً الثواب في الآخرة، ولكنّ زوجَها لم يصبرْ وازدادَ في طُغيانِه وغِلظتِه وقسوتِه؛ لأنّها لم تعُدْ كالسابقِ تُجهِّزُ له كُلَّ ما يحتاج إليه بالسُرعةِ المطلوبة، ولم تستطعْ أنْ تلبّيَ كُلَّ رغباتِه في الصحوِ وعندَ الثُمالةِ، فكانَ يتأفّفُ منها ويرجو اليومَ الذي تموتُ فيه بعدَ أنْ عرفَ أنّها تُعاني من مرضِ القلب، ليتخلّصَ منها ومن عِبئها..
كانتْ تسمعُه يدعو عليها وهي تدعو اللهَ (تعالى) أنْ يهديَه الصراطَ المستقيم، كُلُّ ذلك ولم تنطقْ بكلمةٍ واحدة؛ فقد كانتْ تعرفُ أنّ كلمةً منها ستكونُ نتيجتُها الضربَ والإهانةَ وهي لم تعُدْ في حالةٍ صحيةٍ تسمحُ لها بتحمِّلِ الإهانات.
صبرتْ راضيةً بهذا الهمِّ والحِرمانِ، وهذا الوجعِ المؤلم، ولكنَّ لكُلِّ شيءٍ حدودًا وطاقةً معقولةً، فهي قد نضجتْ على الهمومِ وكبَّرتْ عقلَها وسطَ هذا الحِرمانِ الشنيع، وقويَ قلبُها بمعرفةِ الله (تعالى) والتقرُّبِ إليه في الليالي كثيرًا، فلم تعدْ تبتغي غير رضاه عليها كي تُقابلَه بهذه الأوجاع، عسى أنْ يُخفِّفَ عنها هولَ الآخرةِ ويأخذَ حقَّها من كُلِّ الذين أشبعوا جسدَها ضربًا ونفسَها إهاناتٍ...
حضّرتْ طعامَه وكُلَّ ما يحتاجُ إليه؛ قد أزفَ وقتُ حضورِه فالساعةُ قاربتِ العاشرةَ مساءً.. انزوتْ في غُرفتِها وأوصدتِ الباب، وصلّتْ صلاةَ النجاةِ من هذا اليوم المُمتلئ بالهموم؛ فقد أوصاها أنْ تهيأ كميةً من الطعامِ، لأنّ لديه صديقًا عزيزًا سيحضرُ هذه الليلة، وعليها أنْ لا تخرجَ من الغُرفةِ مهما سمعت.
زادَ كلامُه في فضولِها فلم تنمْ، وبقيَتْ تُرهِفُ السمعَ؛ فإنّ ما تسمعُه هذه الليلةَ هو صوتٌ يُثيرُ الاستغرابَ، يُقهقِهُ باستهتار، فلم تتمالكْ نفسَها ففتحتِ البابَ ببُطءٍ شديدٍ، ونزلتْ لترى من صاحبُ هذا الصوتِ النسائي الغريب، وتفاجأتْ بأنّها امرأةٌ يبدو عليها أنّها من بناتِ الليلِ، ولكن تعرفُها حقَّ المعرفة.. إنّها أُمُّها!
بكتْ ولكنّها انتظرتْ قد تكونُ على خطأ؛ فلا يجوز لهذه الأمِّ أنْ تعملَ هذا العملَ القبيح، ولا يجوزُ لزوجِها أنْ يفعلَ فعلتَه المُحرّمةَ مع أُمِّها.. بكت ونحبت وسألتِ الله (تعالى) أنْ يُسامحَه..
ولكنّها أخذتْ قرارًا؛ فهي طوالَ حياتِها خائفةٌ وتتردّدُ من كُلِّ شيءٍ، وخسارتُها الوحيدةُ هو فقدانُ والدِها على يدِ هذه المُجرمةِ أمِّها.. فتجرّأتْ وانفجرَ في داخلِها بركانُ الغضبِ الذي كانتْ تختزنُه في أعماقِها لسنواتٍ طويلةٍ..
وقفتْ فوقَ رأسيهما وهي تشعرُ بقوّةٍ رهيبةٍ تسري في جسدِها، وهما في هيامِ النشوةِ المُحرّمة، ونزلتْ عليهما بكُلِّ ما آتاها اللهُ (تعالى) من قوةٍ.. وبقرتْ بطنيهما بسكينٍ حادّةٍ لا تعرفُ كيف حصلتْ عليها؟.. ولا كيفَ أمسكتْ بها؟ ولا من أينَ جاءتْها الجُرأةُ لتضربَ وتطعنَ وظلّتْ تضربُهما وتطعنُهما حتى فارقا الحياة..
فتشكّلتْ عندَها صدمةٌ نفسيةٌ، وخرجتْ إلى الشارعِ لا تعرفُ ماذا تفعل؟! وكُلُّ من تُصادِفُه تقولُ له: قتلتُ أُمّي المُجرمة وزوجي الزاني.
ومن ثم ترفعُ رأسَها للسماءِ وتقول:
- يا الله، قد سقطتُ في امتحانِ الصبر..
وظلّت تُكرِّرُ هذه الكلماتِ حتّى حُكِمَ عليها بمُستشفى المجانين، والمُدهِشُ في الأمرِ قالتْ للمجانين:
- أولُ مرّةٍ أشعرُ بالسعادةِ مُنذُ أنْ ماتَ أبي؛ فلم أعُدْ بحاجةٍ إلى صلاةِ الأمان.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى