د. خالد محمد عبدالغني - عزت عبدالعظيم الطويل "مقام الشيخ والمريد"

إن مرت الرؤيا عليك في ثيابِ عاشقٍ ، يهيم في الشعاب والجبال ، فادعُ له بالعشقِ يستزد فإنه ما جاس في كؤوسها، إلا بقايا أدمعِ المريد ( ).
لقد مدحني هذا العالم الجليل بما لا أستحقه ولكنها شيمته الراقية هي ما دفعته ليكتب في أحدث مؤلفاته "اختلالات الصحة النفسية رؤية نفسية اسلامية "2021 يقول " أما الفارس الذي أعتز وأفتخر به فهو الدكتور خالد الذي أحب أن أطلق عليه درويش العلم الجالس القائم في محرابه ، والشاعر الرقيق في خياله ووجدانه" ( ).
كنت أستغرب عندما قرأت في عام 1993( ) أن جمال حمدان كتب على باب بيته "ممنوع دخول الجغرافيين " بعد أن خذلته لجنة الترقية العلمية لدرجة الأستاذية وفضلت عليه أحد الذين رشحوا لمنصب سياسي فيما بعد، فقرر الإستقالة من الجامعة وظل يقدم ابداعاته للمجتمع عن طريق حارس البيت طوال السنوات التي مكث فيها في بيته لا يغادره ولا يلتقي بأحد، ولكن ما حدث معي دفعني أيضاً لمثل هذا السلوك ولم أعد أستغرب ما كتبه جمال حمدان – بالمناسبة هو من قرية ناي القريبة من قريتي بلقس وهو قامة فكرية وثقافية – فخلال سنوات طويلة رفض رئيس تحرير مجلة علمية نشر بحوث لي بعد أخذ موافقة "مقبول للنشر" بحجة أني لست عضو هيئة تدريس بإحدى الجامعات، وفي الجمعيات النفسية تتباين المعاملة حسب عملك بالجامعة أم لا، وفي المؤتمرات العلمية المتخصصة تفحص أعمال أعضاء هيئة التدريس والباحثين العرب بطريقة مخالفة للطريقة التي تعامل بها بحوث غير العاملين بالجامعة، وكلما تقدمت للعمل بالجامعات العربية يتم الإعتذار – في اللحظات الأخيرة - دائماً لأني ليس عندي خبرة التدريس بالجامعة، وتقدمت لإعلانات الوظائف الجامعية على مدار أربعة عشر عاماً في كل الجامعات المصرية تقريباً وتكون النتيجة إما إلغاء الإعلان أو نقل أحد أعضاء هيئة التدريس من جامعة أخرى، أو يقع الإختيار على آخرين، وذات مرة – لم يتكرر هذا الموقف بعد ذلك أبداً- جمعني لقاء بأستاذ كبير وصديق وبدون إتفاق أو مقدمات قال الصديق موجهاً كلامه للأستاذ الكبير لماذا لا تعين – كاتب هذه السطور- في أي كلية فقال الأستاذ لا أقدر على ذلك، فقال صديقي كَلِم أحد تلاميذك أو أصدقائك - وذكر عدداً من الأسماء اللامعة - في هذا الموضوع - واستطرد قائلاً - فخسارة أن يبقى خارج الجامعة ولديه الطاقة والقدرة على العمل، فرد الأستاذ – يريد أن ينهي الحوار - ربنا يسهل. وبعدها عاتبت صديقي قائلاً له :إني لا أحب ذلك الطلب فحتى أستاذي الذي أشرف علي لم أطلب منه ذلك ولن أفعل. ثم تشكل ائتلاف الحاصلين على الماجستير والدكتوراه لنيل وظيفة مناسبة بالجامعة وشاركت في مظاهرتين من أجل ذلك الغرض لسبب واحد فقط وهو خشيتي أن أجني ثماراً لم أشارك في غرس شجرتها إذا أفلح هذا الإئتلاف في تحقيق غايته ولكن الواقع والحكومات المتعاقبة أثبتت ألا شيئ تغير، وأن رأي في الأحداث كان صواباً، وبعده بشهور جمعني لقاء باستاذي أد عادل خضر ودار الحوار حول الإئتلاف وسعيه وكان مما فهمته من كلامه، أن الدولة لم تطالبنا بالحصول على هذه الدرجات العلمية – طبعاً هو محق في هذا الكلام - ومن ثم فلا يحق المطالبة بالتعيين خاصة وأن كل قسم به عدد من المعيدين أو المدرسين المساعدين ممن سيملأون الوظائف الخالية فيما بعد، وبعد هذه الفقرة في الحوار قال: "لقد نزلنا إعلان منذ أقل من عام لتعيين (س) في وظيفة مدرس بالقسم .
وعندما تذهب لدخول أي مكتبة جامعية للإطلاع على البحوث الحديثة في المجال تمنع من الدخول بحجة أنك لست عضو هيئة تدريس وأنك لم تعد مسجلاً لدرجة علمية حالياً.
وعندما تقدمت لجائزة شومان للعلماء العرب الشبان وطلبت من أستاذ شهير في علم النفس - تولي فيما بعد منصب وزير الثقافة – أن يرشحني للجائزة إعتذر بلطف قائلاً إن شرط التقدم لها أن تكون عضو هيئة تدريس. كما حدث في مرتين أن طلب أحد أعضاء مجلس الشعب مبلغ 70 ألف جنيه لتسهيل فرصة عمل بإحدى الجامعات الخاصة ، وطلب محامي شهير مبلغ 50 ألف جنيه لتسهيل فرصة عمل بإحدى جامعات الصعيد. ومن شروط التقدم للجنة العلمية الدائمة للترقية لدرجة استاذ مساعد وأستاذ أن يدفع المتقدم من غير أعضاء هيئة التدريس بالجامعة مبلغ وقدره 10 آلاف جنيه، وأن يكون المتقدم مرشحاً – وعاملاً - من أية جامعة خاصة أو مركز للبحوث، وأن تكون أبحاثه ما بين 4- 10 بحوث ، ولما كنت من العاملين بالتربية والتعليم فلن يكون من حقي التقدم لفحص نتاجي العلمي الذي عكفت عليه كل السنوات الماضية، وفي نفس الوقت لا يدفع عضو هيئة التدريس أية رسوم مالية مقابل التحكيم . ومؤخراً أعلنت محافظتا بورسعيد والقاهرة عن وظائف لحملة الماجستير والدكتوراه بالجهاز الإداري للمحافظة على الدرجة الثالثة وأن يكون المتقدم دون سن الأربعين. وحيثما ذهبت تلاحقني الأسئلة لماذا لا تعمل بالجامعة؟، وكيف تصبر على عملك بالتربية والتعليم ؟.
كل هذه الأحداث دفعتني لفعل ما قام به جمال حمدان من عزلة ورغبة في الابتعاد عن الوسط الذي أحببته وأعطيته كل شيئ فلم أعد أتابع الإعلانات منذ 2007، واتجهت للكتابة في النقد الأدبي الذي رحب بي وبمقالاتي سواء في دورياته أو صحفه أو مؤتمراته، كما نشرت كتابين أحدهما منفرد ( ) والآخر مشارك ( ).
والحال كما سبق عاد الإتصال بالأستاذ الدكتور عزت عبدالعظيم الطويل إلى سيرته الأولى، وسبحان الله كأن روحاً جديداً سرت في أوصالي وأملاً عزيزاً تراءى أمام عيني وألفة غريبة دبت بيني وبين نفسي، فهو نموذج تأخذ منه ما تشاء لما تشاء، إن أردت صبراً جميلاً فأنت ملاقيه، وإن أردت خبرة وتجارب حياتية فحدث ولا حرج، وإن رغبت في حب الآخرين وإن أساءوا لك سمعت منه ما لا يحصى من الشخصيات ومواقفهم معه، وإن كنت تريد أن ترى رجلاً يتجسد الإيمان بالقدر في حركته وسكونه، وفي سعيه وهدأته ، وفي نومه وصحوه لكان هو، حيث يجري الخير في ركابه حيثما حلَّ ومع كل من تعامل معه وبخاصة ضعفاء الناس ومحتاجيهم، وإن أردت أن ترى مبدعاً ومثقفاً تتجلى فيه الذات المبدعة التي لا تكل ولا تمل ولا تتوقف عن الإبداع لأنه يجري في شرايينه مع الدم آية الإبداع لوجدته فيه ودليلي في ذلك أحدث مؤلفاته " الأنوثة وروعة الحب ( )".
وفي هذا الجو من الإحباط والقنوط يكتب عني العلامة عزت الطويل أستاذ علم النفس الإجتماعي بآداب بنها ، وعضو الجمعية العالمية الإسلامية للصحة النفسية وعضو المجمع العلمي لبحوث القرءان والسنة يقول :" كانت المرة الأولى في حياتي المهنية أن أقابل طالباً في نهاية الثمانينيات - في أكتوبر 1988 - من القرن الماضي، يتميز بريفيته العميقة الضاربة بجذورها في أغوار أرضنا الطيبة ذات التربة الحانية، وطميها النيلي الوفير، شاب سريع الفهم والإدراك يميل للمناقشة والحوار، يتوق شوقاً لمعرفة الأسباب والنتائج لقضايا ومشكلات مجتمعنا المعاصر. لا تقتصر قراءاته وثقافته على إقتناء الكتاب الجامعي في تخصصه، وإنما تراه يقتني المراجع التاريخية والمطبوعات الأدبية، والكتب الدينية، ويحلو لي أن أطلق عليه وبحق "تلميذنا النابه النجيب". هرع صاحبنا إلى معشوقته "المعرفة" ينهل من رضابها صباح مساء كالظمآن الذي كلما رشف منها رشفة ازداد عطشاً وحرقة، ووقف على أعتاب "علم النفس" يطرق بشدة وحماس على بابه طبقاً لمقولة المسيح عليه السلام "اطرقوا الأبواب يفتح لكم". سار الدكتور خالد محمد عبدالغني في سراديب علم النفس حتى وصل إلى النور والهواء، نور العلم وهواء أعماق النفس اللذين يتضوع مسكهما في كل مكان حلَّ به صاحبنا، والإشعاع الذي تلوح أفاقه حيث توجه تلميذنا. وها هو مشروعه الطلعة "النقد التحليلي النفسي الإكلينيكي للأدب" يكشف عن عشقه لعلم النفس والأدب معا والذي شهدتُ بواكيره وإرهاصاته منذ ذلك الزمن البعيد في تكوينه العلمي والنفسي الفريد. وهذا الكتاب يعني بالمنهج الإكلينيكي عن طريق دراسة الحالة الفردية سواء كانت هي المبدع أو البطل داخل العمل الأدبي، ومحاولة إثبات العلاقة بين ذات المبدع والقضايا الاجتماعية التي يتناولها في إبداعه بحيث يتداخل ما هو ذاتي خاص بالمبدع مع ما هو موضوعي مستقل عنه ومتعلق بالآخر وهو المجتمع في آن".
فوجدت في مقابلاته وتشجيعه لي الأنس وهدأة الروح الحائر بل وما هو أكثر وجدته أيضاً في جلسات من الود والرحمة والمتعة المعرفية وتداعي الذكريات وعبق أحداثها وشخوصها، بل وجدت أن آلام الظهر التي أعانيها منذ عامين كانت تقل وطأتها بعد كل لقاء، حتى كان ذلك اللقاء الذي قدمني فيه لطلاب السنة التمهيدية للماجستير بقسم علم النفس بآداب بنها مادحاً إياي، وسمح لي بالكلام فقررت أن أتكلم عشر دقائق واقفاً في حضرته وقائلاً لزملائي من شباب الباحثين " لا تكونوا في غفلة كما كنت منذ عشرين سنة واعرفوا لهذا العالم الجليل قدره واكتسبوا منه كل ما تستطيعوه كالجائع الذي لن يأكل مرة ثانية، فإن أمثاله قلة في الحياة ولو عاد بي الزمان لكان لي معه سيرة غير التي حدثت ولكنها أقدار الله ".
كما وجدت زيادة في همتي، وقوة في عزمي فقررت العودة لبحوث كنت قد توقفت عن مراجعتها أو استكمالها فأنهيتها وسلمتها لدوريات علمية كيما تأخذ حظها من التقويم والنشر، وبدأت في سلسلة من البحوث أجمع دراساتها وأدواتها ومراجعها وكلي رجاء أن أنهيها في زمن قريب وما ذلك على الله بعزيز، وكان مني وسط هذه الروح أن جمعت بعض تلك البحوث للنشر في كتاب وطلبت منه أن يراجعه ويكتب مقدمة له وفعلاً وفى وهو الوفي دوماً بوعده وحظي الكتاب بمقدمة رائقة جاء في صدرها " كانت المرة الأولى في حياتي المهنية – كأستاذ جامعي – أن أقابل طالباً بقسم علم النفس في كلية آداب بنها في أوائل التسعينيات من القرن الماضي، وكان يتميز بريفيته العميقة الضاربة بجذورها في أغوار أرضنا الطيبة ذات التربة الطينية الحانية، وطميها النيلي الوفير، هو شاب سريع الفهم والإدراك يميل للمناقشة والحوار، يتوق شوقاً لمعرفة الأسباب والنتائج لقضايا مجتمعنا المعاصر. لا تقتصر قراءاته وثقافته على إقتناء الكتاب الجامعي في تخصصه، وإنما تراه يقتني المراجع التاريخية والمطبوعات الأدبية، والكتب الدينية، ويحلو لي أن أطلق عليه وبحق "فلاحنا المصري الفصيح" و "تلميذنا النابه النجيب".
وكنت كلما اعتكفت بعيدا عن هموم الحياة التي لا تنقضي، ومشاغلها التي لا يمكن أن تنتهي، ومرت أمام عيني سنوات اليفاعة وبداية الشباب الذي تجاوزته وتجاوزت ما كان به من أحلام تتصل بالبحث العلمي في علم النفس وما كان من الممكن أن أضيفه إليه لو كان الله تعالى كتب لي العمل بقاعات الدرس لطلاب ذلك الفرع من العلم أقصد علم النفس. أقول كلما تذكرت تلك المسيرة التي بدأت في عام 1988وحتى كتابة هذه السطور يطل الأستاذ الدكتور عزت عبد العظيم الطويل كطيف جميل يظلل تلك الذكريات بابتسامات رهيفة، وكف حانية تحتويها بهدوء الأبوة، وأول تلك الذكريات أني كنت أحصل على تقدير مرتفع في المواد الدراسية التي شرفت بدراستها على أياديه وهنا يبرز سؤال مهم مفاده هل هذا التقدير المرتفع هو ما حببني فيه أم حبي له هو ما دفعني لذلك الإنجاز الدراسي المرتفع في تلك المواد؟ وهل كان التأثير للرسول أم للرسالة ؟ وهل هي طبيعة المواد أم صفات الأستاذ؟ وأيا كانت الإجابة على هذا السؤال المعقد فإن الحقيقة التي بقيت طوال هذه السنوات هي أني أحببته وكنت دائم السؤال عنه والإنشغال به حتى كان اللقاء في صيف 2012 بكلية التمريض جامعة بنها حيث يدرس سيادته لطلابها إحدى مواد علم النفس.
وفي أحد أيام الفرقة الثانية بقسم علم النفس بكلية الآداب بجامعة بنها سألته لماذا لم تنتمِ سيادتكم لأحد الأحزاب أو الجماعات الإسلامية أو الإشتراكية أيام الشباب خاصة وأنكم درستم بالقاهرة في الخمسينيات من القرن العشرين؟ وكانت الإجابة أن المثقف ورجل العلم أو من ينوي أن يتجه نحوهما من الجدير به أن يبقى مستقلا في حركته وثقافته لا يبتغي غير وجه الوطن أو وجه الدين أما المنتمي فهو في الغالب ما يشغله هو الحزب أو الجماعة. وهذا الدرس ظل عالقا في وجداني وعقلي وبرغم كل المحاولات الجادة لتلك الجماعات الإسلامية يومذاك أو الأحزاب فيما بعد لضمي إلى صفوفهم فإني حافظت على استقلالي سواء في العمل العام أو السياسي أو الثقافي فلم أنتمِ إلا للوطن وللإسلام.
وفي الفرقة الثالثة تأخرت عن موعد المحاضرة وعند استئذاني لدخول القاعة سألني مستنكراً عن سبب التأخير فقلت كنت في مسابقة لحفظ بعض سور القرآن الكريم، فقال "أوعى تكون كنت هنا أو هناك كباقي الطلاب " وبعد المحاضرة سمح لي بصحبته إلى مكتبه وشرحت له الحقيقة فقبل بهدوء ونبهني إلى ضرورة قراءة بعض الكتب الفكرية والعلمية والثقافية فقلت له لقد قرأت أغلبها فرأيت البشر والسرور على قسماته ومنها "ماذا خسر العالم بإنحطاط المسلمين"لأبي الحسن الندوي.
وفي الفرقة الرابعة كلفني بعمل بحث عن ظاهرة نفسية إجتماعية فكان أن اخترت موضوع " السبوع " ونظرة أهل الريف له ، وبعد أن تسلمه أثنى عليه ثناء كان من ضمن ما دفعني للأمام فيما بعد.
وبعد أربع سنوات من هذا الموقف - تلزمني المستدعيات بعرض ذكرياتي حول هذه الأطروحة وملابسات مناقشتها - ، تحدد موعد سيمينار لعرض خطة بحثي لدرجة الماجستير باشراف أد.عادل كمال خضر وكان الأمر معلقاً بسبب أد. السيد أبو شعيشع. رئيس القسم آنذاك ويومها وقف أد.الطويل مسانداً لي وقال:" لا يعرف الشوق إلا من يكابده هذا موضوع جميل وعرضك له رائع ولغتك قوية لا يباريك فيها إلا من يجيد اللغة ومنحني أحد مؤلفاته للإستفادة منه". وتمضي السنوات ليكون يوم مناقشة الرسالة ( ). وكان حضوره مما شرفني فقد كانت أول مناقشة لأحد خريجي القسم ويومها أهداني مؤلفه الضخم / السفر "معالم علم النفس المعاصر"( ). وهمس في أذني أثناء المداولة قائلاً " لقد طلب مني أد. السيد أبو شعيشع البحث عن مقياس اضطرابات النوم من إعداد أد.أحمد عبد الخالق لأنه يظن أنك سرقت منه مقياسك الذي أعددته، وأخبرته بعدم صحة ظنونه"، كما بلغني أنه كلف تلاميذه بالبحث في المراجع التي رجعتُ إليها ليكونوا عوناً له في المناقشة مما جعل المناقشة تتأخر عدة شهور حتى ينتهي من القراءة والتنقيب - تكونت لجنة المناقشة من أد.قدري حفني رئيساً وأد.السيد أبو شعيشع عضواً وأد.عادل كمال خضر مشرفاً-. وخلال جلسة المداولة التي استمرت أكثر من ساعة تسرب إلى نفس أبي الخوف والقلق من نتيجة المداولة فما كان من أد. عزت الطويل إلا أن أخذ أبي من يده وهدَّأَََ من روعه وبثه بعض الطمأنينة والأمن، فعاد أبي والبسمة على وجهه والأمل في عينيه ( ). ويمضي الوقت سريعاً ونقترب من سيمينار استغرق ثلاث ساعات متصلة لمناقشة خطة رسالتي لدرجة الدكتوراه ( ) بإشراف أد.عادل كمال خضر ويتكرر نفس المشهد السابق في سيمينار الماجستير حيث اعتراضه، ويومها قلت في بداية عرض خطتي "إني أتقدم بجزيل الشكر لـ أد.السيد أبو شعيشع لأنه ذلك السياج الذي يجعل العشب من خلفه أكثر إخضراراً" وبعدها سمعت تصفيقا وقهقة عالية من أد. الطويل فقد أدرك مغزى هذا المثل الإنجليزي وما به من نقد لاذع وأن ليس للمدح فيه من سبيل، وهذا الإعجاب شجعني وزاد من رباطة جأشي في مواجهة السادة الحضور وكانوا كثر.
ولما صدر كتابي " نجيب محفوظ وسردياته العجائبية، وأرسلت نسخة منه على عنوان القسم باسم أد عزت عبد العظيم الطويل وكتبت في الإهداء " أعلم أن البشر والسرور سيعلوان وجهكم ويدخلان قلبكم كما كانا سيفعلان مع أبي – لو كان حياً – عند قراءة هذا العمل". وما هي إلا أيام ويأتيني صوته – عبر الهاتف محملاً بدفء سنوات بلغت ربع قرن من الود - مهنئاً.
وبعد ذلك كان اللقاء وقد وضعت سنوات البعد أوزارها وكلفني بنشر كتابه القيم " الأنوثة وروعة الحب". وكتابتي لكلمة الناشر على الغلاف الخلفي الذي جاء فيها " يهدف هذا الكتاب إلى توجيه الشباب للسلوك السليم والقويم فيما يتصل بالجنس والنمو الجنسي والصحة النفسية من منظور علم النفس والإسلام، وكذلك تحليل أشكال الإنحراف الجنسي وفنون الجنس وآداب المعاشرة الجنسية بين الزوجين، والأسس الإجتماعية للزواج، ومظاهر الجمال والأنوثة لدى المراة. ويؤكد الكتاب على أن الأنوثة تتجلى في روعة الحب بين العاشقين. والكتاب إضافة مهمة لمكتبة الدراسات النفسية في موضوعه ومعالجته العلمية ولغته التي تجمع بين رصانة الأسلوب وبلاغة العبارة ورقة الكلمات فهي لغة علمية أدبية راقية مهذبة، فلم أعرف – في حدود علمي - كتاباً عاش مع مؤلفه كل هذه السنوات الطويلة، وإنها لواحدة من الأعاجيب أن يستغرق كتاب حياة كاتبه العلمية منذ سنوات الدراسة الجامعية حيث الشباب الغض والحيوية الدافقة والإقبال على الحياة، إلى ما بعد الأستاذية التي لم تغير من صفات أستاذنا الذي عرفناه لمدة ربع قرن حيث حيويته ومودته وإيجابيته في الحياة وصبره على ما فيها من مكاره ورضا نفسه وطيب معشره ودماثة خلقه. ومؤلفنا هو الأستاذ الدكتور عزت عبد العظيم الطويل أحد رواد الجيل الثاني من علماء النفس، وتمتاز ابداعاته العلمية ببعض الليونة التي تهون من جفاف الأرقام والإحصائيات، وبعض الرقة التي تهذب من قسوة المصطلحات، ليكون وبحق عالم متأدب متدين، ولِمَ لا ؟
فقد جمع بين الثقافة العربية والإسلامية والغربية وكل نتاجه العلمي ينضح بامتلاكه للغة العربية والأجنبية، ولذا أصبح أحد رواد اتجاه التأصيل الإسلامي لعلم النفس، وما هذا الكتاب إلا إمتداد له وخطوة في هذا الجهد المبارك الذي يكلله أستاذنا بصفة ما أندرها في ايامنا هذه وهي أن كفه – دائماً- على أكتاف تلاميذه لدليل صدق على أن الأستاذية الحقة تكمن في حرصه على أن يقف تلاميذه بجواره لا خلفه ".
وكتبت عرضاً للكتاب ببعض الصحف والمجلات أضفت إلى ما سبق كتابته قضية نقد نظرية التحليل النفسي وقلتُ " ويبقى أن نشير إلى أن المؤلف – أد عزت عبد العظيم الطويل - يتبنى الموقف الناقد لفرويد بسبب يهوديته وعلاقته بالصهيونية وتنظيمه شبه السري لحركة التحليل النفسي الدولية ولعل المؤلف في موقفه هذا يتفق مع موقف إريك فروم في كتابه عن فرويد ( )، وموقف أد. قدري حفني الذي يحمل عنوان " فرويد بين العلم والصهيونية ( )"، وهذه القضية نعلم أن هناك جهداً حديثاً - يناقض الموقف القديم - نشره في السنوات الأخيرة حول نفس القضية ولكن لم يأخذ حقه من الإنتشار الكافي بعنوان "فرويد وعلاقته بالصراع العربي الاسرائيلي ( )"، كما أن أد.حسين عبد القادر قد علق قليلاً على ما كتبه أد. قدري حفني، هذا ولا تزال القضية شائكة ولا يزال التحليل النفسي مدرسة لها أنصارها ولها أيضا منتقدوها.
وفي اللقاءت الحديثة به يؤثرني بسؤاله حول فرص عملي بالجامعة وأرى علامات الأسى بادية على وجهه فلا يسعني إلا أن أقول له " أستاذنا .. لا ترهق نفسك بهذا الأمر فما العمل بالجامعة بالذي يغريني الآن فقد ضاعت سنوات الشباب، وقلَّ الناصرون ، وخابت الفرص ، ولا سبيل إلى ذلك العمل إلا بمعجزة من الله" فيرد : صبر جميل والله المستعان.
ومن مفاتيح شخصية الأستاذ الدكتور عزت عبد العظيم الطويل الإيمان بالقدر حلوه ومره حتى وصل لدرجة اليقين بالله كعمالقة التصوف الذين لهم في نفسي مكانة مرموقة ولم لا ؟ أليس هو الذي ذكر في كتابه "معالم علم النفس المعاصر ( )" ينسب لأحد المتصوفين المتأخرين وهو ابن قفل "إذا أردت أن تصبح ولياً إعتنق بعض خصال الأطفال فإن لديهم خمس خصال إذا وجدت في الكبار فسوف تجعل منهم أولياء :
1. إنهم لا يبالون برزقهم ولا يشكون من الخالق إذا مرضوا.
2. ويتقاسمون قوتهم مع الغير.
3. وعندما يتشاجرون فهم لا يحملون الحقد.
4. وأنهم تواقون إلى المصالحة.
5. وعندما يخافون تنهمر الدموع من عيونهم .
ويده الممدودة بالعطاء لكل من يقترب منه سواء على المستوى العلمي أو الإجتماعي، وحب الحياة الذي يقدم من خلاله نموذجا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم " إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فلا يقوم حتى يغرسها".
والوفاء تلك القيمة التي باتت نادرة في أيامنا سواء للوالدين أو للأساتذة أو لأولي الفضل ولك أن تقرأ ما كتبه عن رحيل الأحباب الثلاثة ليقع في وجدانك وقلبك مدى الوفاء والتأثر حين يطالعك لفظ " صاحبنا ( ) " لتشعر وكأنه يتحدث عنك وكأن صاحبنا هو كل واحد فينا.
والمرونة المعرفية وسعة الأفق والثقافة الموسوعية وذلك سيلاحظه المتابع للنتاج العلمي والثقافي الذي يجمع ما بين الكتب المؤسسة لعلم النفس والدراسات الميدانية والترجمة من الإنجليزية إلى العربية والتأليف باللغة الإنجليزية والكتب الثقافية العامة، والحوارات التليفزيونية والندوات العامة. كل هذا وأكثر سنراه ونلمسه في صحبة هذا الكتاب وفي سيرة صاحبه، وفي كل ما كتب قلمه من نتاج غزير أرجو أن تتاح له فرصة إعادة النشر مسلسلاً حتى يستفيد منه القاصي والداني في ربوع الوطن العربي.
والذاكرة الحافظة الواعية لكل دقائق الأمور فتراه حين يحدثك يحدد لك المواقيت باليوم والساعة وإن شئت بالثواني، ويقص عليك تفاصيل اللقاء كأنه أمس وفي الحقيقة تجده مرَّ عليه عشرون عاماً أو أكثر، وأتصور أن تلك الصفة لهي من آثار حفظه للقرآن الكريم في طفولته، وحين تفتح الحوار حول الكُتَّاب – جمع كاتب – ومؤلفاتهم تنهمر عليك أسماؤهم من ذاكرته ولا أنسى حديثه الرائق عن أساتذته مصطفى زيور ولويس مليكة وسامي علي، وزميله الناقد الكبير فاروق عبد القادر وعلاقته بالأدب والفن.
والدقة في المواعيد، فلا يمكن أن يتأخر عن موعد حدده سلفاً، والتنظيم المسبق لأنشطة اليوم فذات يوم أخرج ورقة من حقيبته وقال: " إقرأ " فقرأت " الاستيقاظ وصلاة الفجر والخروج لمحطة الإسكندرية وركوب القطار والذهاب للكلية ودخول المحاضرة وسؤال الطالب فلان والطالبة فلانة في موضوع كذا وكذا ولقاء فلان في كافتيريا المحطة والوضوء ثم صلاة الظهر والعصر جمع تقديم ..الخ . وهكذا نتأكد أن النجاح لا يكون إلا مع الدقة والإنضباط والنظام والإخلاص والتوكل على الله والعطاء الذي لا يعرف حدوداً، فمن يرد أن يرى التجسيد الحقيقي لكل هذا فها هو أمامكم الأستاذ الدكتور عزت عبد العظيم الطويل ولم لا ؟ أليس علم النفس الإيجابي – ذلك الفرع الجديد في علمنا يحدثنا عن تلك القوى الموجودة في الشخصية ودورها في الشعور بالسعادة الحقيقية ( ) ؟.




1613656301658.png



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى