فوز حمزة - بيرة بالليمون.. قصة قصيرة

لمْ أنتبه للنادلة وهي تضعُ أمامي قائمةَ المشروبات .. كنتُ منهمكة بالتحدث مع زوجي .. سَأكونُ صريحة .. لمْ أكنْ أتحدثْ .. بل أتشاجر .. لقد وعدني أنه سيتغدى معي هذا النهار .. لكنْ ومثل كلِ مرة أخَلَفَ وعَدهُ بحجةِ العمل .. لم أتمالكَ نفسي وبدأت بالصراخ دون أن أعير أية أهمية للناس الموجودين في المقهى .. قلتَ له بصوتٍ شعرتُ إنه ليسَ صوتي .. تقضي معظمَ نهاركَ في العمل وفي الليلِ تُمسكُ الهاتف .. تُحدّقُ فيه كأنّهِ عشيقتكَ .. وكعادتهِ وقبلَ أن يدعني أُنهي حديثي .. أغلق الهاتف في وجهي بعد أن رددَ كلمته الأزلية .. غبية .. لمْ ينقذهُ مني سِوى مجىء النادلة .. نَظرتُ إليها .. كانتْ طويلة ونحيفة أكثر مما يجبُ لنادلة .. أبتسمتْ لي أبتسامة بلهاء .. تنتظر مني أختيار المشروب .. قّلتُ لها بصوتٍ مخنوق .. بيرة بالليمون .. فجأة .. بدا عليها الأستغراب قليلاً .. حسناً .. قالتها وهي تستدير .. لم أتمكنْ مِن أخبارها بأنني أفضلها باردة جداً لأنني أنهمكتُ بقراءة الرسالة التي وصلتني منه :

لنْ أعودَ مبكراً هذهِ الليلة .. عندي عَمَلَ ..
حَاولتْ كتمان غيظي ..لم أفْلحْ ..كتبتُ لهُ ..
وأنا لنْ أكونَ في المنزل ..
أنتظرتْ أنْ يَقرأَ الرسالة .. لكنْ الماسنجر كتبَ عندي .. نشطٌ منذُ دقيقتين ..
لمْ يُنقذني منَ الغضبِ الذي تملكني سِوى قدوم النادلة وهي تَحملُ قنينة البيرة .. وضعتها أمامي وتهيّأتْ للذهاب .. وجَدتُ الفرصةَ سانحة أمامي للتنفيسِ عن مشاعري السلبية في هذه اللحظة ..
توقفي !! هذهِ ليستْ بالليمون هذه بالأناناس !!
حَمَلتْ القنينة وذهبت معتذرة وعلى وجهها أمارات التذمر ..
الصمتُ الذي كَانَ يخيمُ على المقهى رغم أكتظاظه بالزبائن جعلني أسمعُ صوتَ أنفاسي .. منظرُ الناس كَاَنَ غريباً جداً .. الجميعُ صامتون والأغربُ من ذلك .. مبتسمون .. تلفّتُ بحذرٍ .. جميع الطاولات مشغولة .. بعضها يجلسُ عليها شخصان .. رجل واِمرأة والبعضُ الآخر ثلاثة أشخاص .. الجميعُ صامتون ويهزونَ برؤوسِهم بين الحينِ والآخر ..
تفضلي .. بيرة بالليمون ..
شعورٌ غريبٌ سيّطرّ عليّ .. هذهِ المرة أفتعلتُ حدثاً لأكلمَ النادلة ..
هذهِ ليستْ باردة ..
أمسكتْ بالقنينة دونَ أن ترفعها من الطاولة ..
بل إنها باردة جداً سيدتي ..
ذهبتْ دونَ أنْ تنتظرَ جواباً وكأنها قد حَزرتْ ما في داخلي ..
تحولَ شعوري الغريب إلى خوف وقلق .. ظننتُ أنني أرى حلماً لولا الرسالة التي وصلتني من زوجي .. لم تغظني الكفُ الكبيرة التي أرسلها لأنني بها تأكدت أنني لستُ في حلم .. ثم أنني لم أره في أحلامي منذ أن تزوجته ..
منظرُ النادلة وهي تتحدثُ بصوتٍ منخفضٍ مع نادلةٍ أخرى وهما تنظران إليّ جعلني أتيقنُ أنّ هناك شيئاً سيئاً سَيحدثُ لي .. أشرتُ إليها بسبابتي أدعوها للمجيء ..
تبادلتْ مع زميلتها ضحكة قصيرة قبل أنْ تقولَ لي :
نعم مدام !!
-أسندتُ ظهري إلى الكرسي ووضعتُ ساقاً فوق ساق وأنا أقوْلُ لها :
أينَ القدح ؟!
وكأنها تذكرتْ .. أسرعتْ وأحضرتْ قدحاً زجاجياً لامعاً بشكلٍ يدعو للتأمل .. تركتهُ فارغاً وبدأتُ بشربِ البيرة من القنينة .. لا أدري لِمَ فعلتُ ذلك .. ربما نكاية بالنادلة ..
رؤيتي لفتاة ترفعُ أصبعها في وجهِ الرجل الذي يجلسُ بجانبها أمدّني بالأمانِ وشيءٍ من القوة .. نعم .. أنا لستْ في حلم .. أنا متأكدة .. لكن لِمَ الجميع صامتون .. حتى الكراسي والطاولات بل اللوحات المعلقة على الجدران كانت هي أيضاً صامتة .. والأغرب من كلِ ذلك .. لا أحد يحملُ هاتفاً .. لا .. أنا في حلم .. بل كابوس مريع .. ماذا أفعل ؟!
إشعار صوتي من الهاتف يُخبرني بوصولِ رسالة أعادني إلى ما كنتُ عليهِ .. هذا الغبي مرة أخرى .. لكن هذه المرة الرسالة مرفقة بلوحة لامرأة تشدُ شعرها وقد كتبَ تحتها .. سَأحّاولُ أن أجدَ وقتاً لتبادلِ الحديث .. الآن أنا مشغول .. أحبّكِ ..
كلماتهُ زادتني غضباً وحزناً .. ربما لأنه يعرفُ أنّ تلكَ الكلمة هي سّرَّ ضُعفي .. تملكتني رغبةٌ في كسرِ الهاتف لكني تراجعتُ مثل كلِ مرة ..
طلبتُ من النادلة أن تأتيني بفاتورة الحساب .. لم أعدْ أحتمل الناس هنا .. وكأنهم علموا بِحالي .. إحداهنَّ رمتْ برأسِها على صدرِ الرجل الذي أحتضنها بذراعيهِ الطويلتين وأخر يُقبلُ اِمراة ليستْ جميلة وثالثة أمسكتْ بكفِ حبيبها بعد أن كَانَ يُشيرُ إليها بِحدة .. أما العجوز فقد ألتصقت بالرجل المسّن الذي يجلسُ قربها بطريقة أثارتْ غيرتي وحزني .. وضعتُ النقودَ على الطاولة بدونَ أنْ أنتظرَ أسترجاع الباقي وخرجت .. ضجيجُ السيارات وصوتُ المارة وهاتفي الذي يرّنُ سببوا لي قلقاً كبيراً .. شعرتُ كأنني كنتُ في عالمٍ آخر ..
التفت صوب المكان الذي كنتُ فيهِ .. وجدتُ النادلة تبتسمُ لي بخبث ولافتة مكتوب عليها ..
مقهى للصم والبكم ………

فوز حمزة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى