أمل الكردفاني- هاهاها- قصة قصيرة

-إنا لست جثة، وكوني عشت داخل مقبرة فلا يعني ذلك أنني ميت، وسواء عنى ذلك أم لم يعنه فلا فرق. لكنها -ولكي اكون دقيقاً- من أوسع المقابر التي جربت العيش فيها. إنها مقابر وضعت لها اسماء متعددة عبر العصور، حتى ضاع اسمها الحقيقي. يمكنني أن أسمها ما شئت، كما يسمها من يدفنون أقاربهم فيها ما شاء لهم من تسميات. يكتب البعض وصاياهم ويرسمون خارطة الوصول إلى المقبرة، لأنهم لا يعلمون لها إسماً.. المقبرة شاسعة اكثر مما يمكنني تخيله، لقد سرت فيها طولاً وعرضاً دون أن أصل إلى منتهاها. تتوزع فيها كثبان القبور وشواهدها، وعليها تواريخ مختلفة، بعضها قديم وبعضها حديث والكثير منها بلا تاريخ من قِدمها. لديها بوابة من الطين المدهون باللون الزيتي مع أخضر خفيف..لون غريب، وحينما عبرت هذي البوابة أول مرة ذهلت من اتساعها ومن صمتها. كانت كصحراء مقفرة، لا تتحرك الشمس من فوقها فتصهر الحجارة والشواهد صهراً من شدة حرارتها. كانت تلك بالفعل المقابر التي كنت أحلم بها طيلة حياتي، المقابر التي تعطك المعنى الجوهري للموت.. تحايثه، وتذوب فيه ويذوب فيها. لذلك اسرعت بحفر حفرة واسعة في أقصى مدى منها يمكن الوصول إليه. كانت حفرة لأعيش فيها وليست مقبرة لي، وإن كانت قد تكون كذلك يوماً ما. فلا أحد يفكر في الموت بجدية. ولو فكر فسيمرض أو سيعتبر مريضاً عند الآخرين. حفرت حفرتي ورصفت عليها دفاتري، وجعلت لها سلما ترابياً، وسقفتها بالقش. وجلست داخلها بلا إزعاج بتاتاً لأكتب شعراً....شعراً عبقرياً..عن الحب والخضرة والماء والوجه الحسن..عن القبلات والفراشات والحمام والعصافير والسحب البيضاء، عن الناس، عن حميميتهم، زحامهم، حبهم، إنجازاتهم وعبقرياتهم، عن الشعوب والسلام والأمن والطمأنينة، عن الهناءة والوداعة والبراءة، باختصار كتبت عن كل شيء تعنيه الحياة ولا يعنيني في شيء.. طوال حياتي لم أسمع صوتاً من داخل القبور، ولم تظهر لي جنية بلسان مشقوق ولا شيطاناً بقرنين، ولا عقارب سوداء تُخرج الصديد من ذيلها، ولا ثعابين بأعين براقة، لا شيء أبداً.. لم ينهض ميت واحد من تحت الأرض..ولم تتزحزح الشمس عن وسط السماء ولم تخف حرارتها قليلاً، ولم يكن هناك ليلٌ ولا شتاء ولا خريف ولا ربيع..لم أسمع زقزقة عصافير ولا حتى عرير الصراصير الليلية..لم تعصف بسقفي الهزيل ولو نسمة عابرة، ولم تسقط قطرة مطر واحدة.. كانت بيئة مثالية لكتابة الشعر...نعم يا سيدتي...إنك تجلسين أمامي وأنتِ ترتدين فستاناً قصيراً مزركشاً بالزهور البنفسجية، ورائحة العطور الغالية تخرج من جسدك البض، ولا شك أنك أكلت أحسن الأطعمة وسكنتِ أفخم القصور، وهكذا فأنتِ لن تستطيعي وصف الحياة كما وصفتها أنا في شعري، لأنك كنت داخلها..في قلبها.. أما أنا فوصفتها كما لو كانت حباً يائساً، حبيبة لا يُرتجى وصالها، لذلك أصبحتُ أكبر شاعر في العالم...والآن تتهافت عليَّ كل القنوات الفضائية، وتخر الأموال ؛من كل مساحة أقف تحتها؛ على رأسي..أُدعى للولائم في قصور الأعيان، لديَّ كلبان ألمانيان، وطاووس يسرح في حديقتي ويمرح.. والجميلات يتبادلن البقاء معي كل ليلة، لذلك لن أستطيع بعد اليوم نظم شعرٍ عن الحياة.. بل عن الموت..لأنني في الواقع بت أخشاه أكثر من كل شيء آخر..
- اشكرك سيدي على إتاحة الفرصة لقناتنا الفضائية لكي تظهر فيها.. إنني سعيدة حقاً.. وأشكرك فوق هذا على الإطراء على فستاني رغم أنه ليس جميلاً..
- بل هو جميل يا سيدتي ومهما أنفقتِ عليه من مال فلن تندمي عليه..والأهم منه أنكِ أنتِ من تمنحين بجمالك لمسة جمالية أساسية للفستان..إنني لا أعرف من اختاره لك...لكنه على كل حال إنسان فنان...
- أنا من اختاره وليس شخصاً آخر..
- حقاً؟... إنكِ غيرتِ كل مفاهيمي القديمة..فلم أكن أبداً متأكداً من أن الجميلات يتمتعن بالذكاء في نفس الوقت..
- ههه أشكرك...لقد أخجلتني..
- لم أقل سوى الحقيقة يا سيدتي..وإنني بعد انتهاء البرنامج لأدعوك إلى العشاء في أفخم المطاعم التي تناسب هذا الجمال الفاتن.
- أشكرك.. حسناً سادتي المشاهدين..أرجو أن تكونوا قد استمتعم مع شاعرنا العظيم الذي نال شهرة عالمية لم ينلها شاعر في العالم من قبل واستئذنكم لإنهاء حلقة الليلة حتى لا أخسر دعوة شاعرنا للعشاء..إلى اللقاء...
- والآن فلنذهب..
- هيا بنا.. سيارتك جميلة جداً..
- أهداها لي إمبراطور دولة كبيرة...إن كل ما أملكه ليس سوى هدايا من الملوك والأباطرة والزعماء والراسماليين..
- ياااه...لقد انتقلت فجأة من حياة المقابر إلى الفردوس.. لذلك انت متواضع بهذا الشكل..
- مقابر؟!!!
- آااا..نعم..
- أي مقابر؟
- ألم تقل ذلك في اللقاء؟
- كان ذلك مجرد نثر يا جميلة الجميلات... نعم اضحكي..قهقهي ..بل فلنقهقه سوياً بأعلى صوت لنا....هاهاهاهاها..
- يا لك من دجال هاهاهاهاها..
- هاهاهاها
- هاهاهاها..
ها...
(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى