محمود عرفات - الوصية.. قصة قصيرة

حسم أمره وكتب وصيته وأودعها بيده في خزانته. لا يعرف من الذي سرب مُحتواها. سمع أولاده يتهامسون، وزوجته تسمعهم وتبتسم، ثم تنهاهم عن الثرثرة. لا يذكر أنه تحدث مع أصدقاء النادي في هذا الأمر. ربما دارت حوارات حول أهمية الوصية وضرورة الوفاء بها. من حقه أن يكتب وصيته، وعلى الورثة تنفيذها ما دامت لا تخالف الشرع. صمم أن يفتح الموضوع المغلق بأقفال الحرج. لمس كتفها وأشار إلى غرفة نومهما. أغلق باب الحجرة عليهما، واستلقى على السرير وأشار إليها لتجلس. هزت رأسها مستفهمة عن سر إغلاق الباب. ودار حوار لم يتوقعا أن ينتهي بهذا الشكل.

سألها عن سر همساتهم وضحكاتهم المبتورة، واشتراكها مع الأولاد في الضحك والودودة. لم تشأ أن تناور فأفصحت: الوصية. سألها غاضبًا: كيف عرفتِ؟ ردت: الأخبار في بلدنا تطير كالعصافير وتحط على النوافذ وتتسلل من الأبواب.. اسأل أصحابك في النادي. علا صوته: وهل تحضرين معنا جلسات النادي؟ همست لينتبه لعلو صوته: تعلم أننا، زوجات الأصدقاء، نتقابل كل أسبوعين مرة. ونتحدث في الموضوعات التي تتكلمون فيها.. ونعجن الكلام بطريقتنا الحريمي. فتح فمه مندهشًا فعاجلته: بصراحة.. نعرف عنكم بأكثر مما تعرفون عنا. أفكاركم وتفضيلاتكم السياسية والغذائية والغنائية والرياضية.. ونعرف خناقاتكم مع بعضكم.. أرجوك لا تغضب. فأنا أعرف عنك من الجلسات الحريمي بأكثر مما عرفته بنفسي طول زواجنا. همس كمن يحدث نفسه: ظننت أن الرغي الحريمي لا يتجاوز حدود الموضة وأدوات التجميل وبهارات النميمة والغيرة. أشارت بالسبابة: تظنون أنكم تحكمون العالم.. وأنتم المحكومون بنعومة.. تعيشون في وهم القوة. هز رأسه عجبًا وحاول أن يعرف الزوجة التي أشاعت خبر الوصية لكنها أبت. فتمتم مدافعًا عن نفسه: أنا طلبت أن تكون قراءة القرآن في أول ثلاثة أيام.. ثم.. ومع ذلك تتهامسون وتضحكون كأنني تجاوزت الحد.. يؤلمني أنني لم أصنع ثروة، ولم أملك شققًا وسيارات. قاطعته: تعلم كم نحبك ونحترمك ونفخر بك. ربنا يبارك في عمرك.. وجودك في وسطنا يكفينا. خفتت لهجته وهو ينطق ببطء: طلبت الستر من الله.. لا شيء يوجب الاختلاف بعد رحيلي. من هنا جاء طلبي الغريب. وضعت يدها على فمه وهمست: لا غريب ولا حاجة. كلنا نحبك يا حاج. رد ساهمًا: وأنا أحبكم.. وأريد أن تمضي حياتكم بعدي بسلاسة وبغير دموع. لن أبعد كثيرًا. أثق في أنني سأراكم وأعرف أخباركم. أثارتها سيرة الدموع فهتفت في لوعة: دموعنا تخصنا وحدنا. لا شأن لك بها. ثم انهمرت دموعها رغمًا عنها. ارتبكت وهي تداريها. نظر مدهوشًا. وقال كأنه يسوق معادلة رياضية: أمر الله ومحتوم.. لا دخل لنا فيه. استهدِي بالله. ردت: عارفة.. لكن الفراق صعب. فاجأها بأن جذبها برقة فانجذبت وهي تمسح دموعها. كانت جالسة فانطرحت على جنبها في مواجهته. قالت في نعومة آسرة:

= مالك يا رجل. كأنك صغرت عشر سنين.

_ وأنتِ صغرتِ ثلاثين.

احتواها في حضنه. فتحول ارتباكها إلى فرح صغير أخذ يكبر وهو يعتصرها بين ذراعيه. بعد لحظات نظرت في وجهه ومسحت حبات عرق نبتت على جبهته، وأخذت رأسه في صدرها وهتفت في استسلام:

= وماله يا اخويا.. نذيع أغاني عبد الوهاب في الرابع.

محمود عرفات

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى