نهار حسب الله - ابتسامة مُتعبة

كانت الجدران قديمة.. أتعبها الزمن ووزع تشققاته عليها، لتبدو كأنها تجاعيد ارتسمت على وجه عجوز.. وأرضية مَكسوة بالاسفلت المُحفر.. ومكتب خشبي فقير وكرسيان الأول حديدي متحرك لكن تلفه جعله يبدو مشلولاً، عاجزاً عن الحركة، والثاني خشبي قديم مهمل..
بهذه الأجواء أمضى (ربيع ناصر) أيام عمره في الخدمة الوظيفية بدائرة التقاعد العامة.
شمعة الأيام تحترق بسرعة كعود كبريت، ولا تُخلف وراءها إلا ذكريات بنكهة الدخان.. فمنذ زمن بعيد، لم ينسَ ربيع حروف أمه الأخيرة التي نطقت بها وهي تودعه وتودع الحياة كلها:
– أنا راحلة يا ربيع.. لا تجعل وجهك عابساً في وجوه الناس، فهم يحتاجون إلى من يبتسم إليهم ويخفف عنهم.. تذكر ملامحي جيداً وابتسمْ في أصعب اللحظات حتى أكون معك، ابتسمْ للألم حتى يهجع وأضحك للخوف حتى يرحل، ووظف طاقاتك كلها كأدوات لصناعة البسمة على وجوه الآخرين وتأكد بأني سأكون سعيدة بنضالك لإسعاد المحيطين بك.
ربما كان ربيع وفياً يكره النسيان.. وقد يكرهه حتى لو كان نعمة، لأن تلك الوصية ظلت عالقة في ذهنه على مرور الأيام.. وهو الأمر الذي غير سلوك حياته بالكامل، وصار همه وشاغله الوحيد رؤية البهجة والفرح على وجوه من حوله.
صحيح ان عمله في دائرة التقاعد العامة عمل جاد لا يحتمل الهزل، ولا سيما انه يشتغل بقسم التدقيق في الدائرة، كونه مختصاً في دراسة القانون، إلا انه كان يتصرف على نحو مختلف، بعيداً عن الرتابة والحدية والتعامل الروتيني الجاف.
كان يحرص في أغلب الأحيان على كسب ود جميع المراجعين للدائرة بطريقة حميمية سلسة، ولم يكن يترك أحداً إلا بعد رؤيته راضياً مبتسماً.
على الرغم من تشديد مسؤوله المباشر على التعامل معه بحدود العمل وتحاشي الدخول في أي نقاش مع أي مراجع وعدم ترك المجال للشكوى والثرثرة وطرح الأسئلة التي لا إجابة عنها، إلا أن ربيع خالف الأوامر منذ لحظة استقباله المراجع الأول، عندما دخل إليه رجل ستيني مبتور الساق يستند إلى عكاز خشبي، كان العرق ينضح من مسامات جسده كلها لدرجة أنه كان يعاني من أداء النطق من شدة الارهاق..
لمحه ربيع بطارف عينه ونهض من مكتبه مستعجلاً استقباله مصافحاً، ليتنبه لذراعه المزرقة بسبب اسنادها بالعكاز لوقت طويل.. حاول إسناده للجلوس على الكرسي الخشبي بعد أن عمل على تنظيفه بسرعة.
بادر الرجل الستيني بالسؤال:
– من فضلك.. هل ما زالت معاملات المعوقين قيد التدقيق؟
ظل (ربيع) باهت الوجه لانه لا يمتلك أي معلومة عن معاملات المعوقين المحالين على التقاعد.. إلا انه تدارك الأمر قائلاً:
– اسمح لي بدعوتك على قدح ماء مثلج لتروي عطشك وتسترد أنفاسك وتستريح، ومن ثم نعالج موضوع المعاملة المتأخرة..
ابتسم الرجل ابتسامة حرّكت تجاعيد وجهه المتكسر محاولاً التعبير عن الشكر والامتنان، والاستغراب في الوقت ذاته من تعامل الموظف.
نهض ربيع من كرسيه لجلب قدح الماء، إلا انه غيّر مساره وقرر الدخول إلى المدير وسأله عن معاملة الرجل.. غير انه استغرب إجابة المدير:
– معاملات المعوقين كلها موجودة في المخزن.. لأن شعبة التدقيق أجلت تدقيقها إلى العام المقبل بسبب تراكم معاملات العسكريين المحالين على التقاعد!.
رد ربيع بتلقائية:
– عذراً سيادة المدير.. أنا على استعداد لانجاز المعاملات كلها..
– حسناً.. بامكانك التفتيش عنها غداً صباحاً في المخزن..
غادر ربيع غرفة مديره عائداً لضيفه وهو يحمل الشعور بالانتصار لأنه حقق رغبته في معالجة مشكلة المُراجع الأول.. وقدم له قدح الماء مع نظرة سارة وهي إمكانية حل أزمة معاملته المتأخرة..
– ما عليك إلا شرب الماء والاسترخاء، مشكلتك ليست مستعصية الحل.. غداً صباحاً سينتهي التدقيق، وتتسلم مستحقاتك المادية كلها قبل نهاية هذا الشهر.. برجاء زيارة مكتبي بعد الساعة العاشرة من صباح الغد لتتسلم المعالمة بعد تدقيقها.
ابتهج العجوز، وصافحه بحرارة وخرج من الغرفة وهو يتمتم بأدعية وكلمات الامتنان حتى تلاشى عن الأنظار، وكأنه انصهر مع حشود المراجعين.
تجاعيد وجه الرجل الستيني وإبتسامته وعيونه الدامعة وأدعيته لم تغب عن مخيلة ربيع، وإنما ظل يفكر فيما إذا يتمكن مستقبلاً من رسم الابتسامات على وجوه جديدة قد تصادف عمله..
ووجد انه من الممكن أن يمنح كل مراجع القليل من الوقت للافصاح عن قصة عمره الحزينة، ومن خلالها سيتمكن من التفاعل مع الحكاية من الناحية الانسانية، ومن ثم العمل على حل المشكلة قدر المستطاع، وبهذا يؤهل المراجع للابتسامة والتفاؤل.
لكن حل أزمات المعوقين المحالين على التقاعد لم تكن بسيطةً كما كان يتصور؛ لأن معاملاتهم كانت مكدسة في مخزن الدائرة على نحو عشوائي يأكلها التلف… إلا انه كان مصراً على ترتيب ونقل المعاملات كلها إلى مكتبه المتواضع بوصفها ستحقق آمال عدد كبير من الناس..
حجم المعاملات استغل نصف مساحة غرفة ربيع، حتى صار من الصعب دخول أكثر من شخص واحد إليها..
بدأ بتنظيم وتدقيق الملفات المتأخرة، يقلب ويتفحص الأوراق بتمعن واهتمام كبيرين ويدون ملاحظاته عليها، كان يتعامل معها الى انها أشلاء، وأطراف مفقودة، وتشوهات وإعاقات، غيرت مسار حياة أناس لم يكونوا ذات يوم جزءاً من قرارات الحروب، غير انهم أرغموا على أن يكونوا جزءاً من ذاكرتها المدمرة.
بدأ المتضررون يصطفون طوابير طويلة متزاحمة أمام باب غرفته، وكأنه باب الجنة.
وعلى الرغم من انشغاله التام بانجاز عمله على نحو دقيق، إلا ان آذانه كانت ترصد وتسجل ثرثرة المراجعيين وفوضى ضجيجهم الذي عم الدائرة.
كان كل واحد منهم يروي قصته بشجن غريب لمن حوله، وبين تلك الأصوات المتعبة التي وصل أصحابها إلى خريف العمر، رصد ربيع صوتاً أنثوياً شاباً، أرغمه على التوقف عن العمل ورفع رأسه لتفقد مصدر الصوت، ليجد شابة عشرينية حسنة الشكل ذات عينين سوداوين لامعتين متلألئين بالدموع، كانت تسأل عن شعبة التدقيق.
ومن دون أي مقدمات.. ناداها.. متسائلاً عن إمكانية خدمتها؟
– يا آنسة.. هذا الطابور مخصص للمعوقين المحالين على التقاعد.. كيف أتمكن من خدمتك؟
– أنا هنا لهذا الغرض.. منذ ستة أشهر وأنا أراجع هذه الدائرة على نحو أسبوعي لإنجاز معاملة والدي الذي فقد أطرافه من جراء أعمال العنف حتى صار شكله لا يختلف كثيراً عن أي دمية صغيرة عبث بها طفل لا يجيد اللعب مع الدمى، وهو الآن عاجز عن القيام بأي شيء في الحياة، لقد تحول في ليلة وضحاها من أبي الى ابني.. من فضلك أين وصل تدقيق المعاملة.. نحن لا نستحق هذا الاذلال كله، نحن بأمس الحاجة الى الراتب التقاعدي لأننا لا نمتلك أي سبيل للعيش.
– آسف بشأن ما حصل لوالدكِ.. أعدكِ باتمام المطلوب في أقرب وقت، ما عليكِ سوى كتابة اسمه الكامل، ومراجعة الدائرة بعد يومين من الآن، وستكون المعاملة جاهزة..
لم يكن كلام ربيع مؤثراً، إلا ان دموع الشابة العشرينية انهمرت بقوة الأمطار الاستوائية التي يصعب السيطرة عليها.. وكتبت الاسم على عجل، وغادرت المكان دونما النطق بكلمة واحدة، تتبعها نظرات ربيع وتعاطف الحاضرين.
زحمة المراجعين لم تمنح ربيع الوقت الكافي للتأمل في مأساة الفتاة، إلا ان طيفها ظل يرافقه ويدور في ذهنه، لدرجة إنه بقي بعد انتهاء الدوام الرسمي للبحث عن معاملة والدها الذي صار دمية جامدة لولا أنفاسه.
وبعد عناء البحث الشاق وجد الملف وعمل على تدقيقه بعناية، واهتم بالموضوع وكأنه مسألة شخصية.. لم يتذوق طعم الراحة حتى صباح اليوم التالي، بعدما دخل للمدير وطلب منه التوقيع على الملفات التي أنجز تدقيقها..
وبدأ يوزع المعاملات البقية من دون أي تأخير أو تكاسل.. وهو يتطلع بفرح غامر الى وجوه الناس وهي تخرج من غرفته تحمل طابع البهجة..
بقي ينتظر مراجعة الشابة العشرينية لتسليمها معاملتها بعد أن صارت جاهزة، حتى ساعات الدوام الأخيرة، وظل يتطلع لقدومها، وينتظر يوماً بعد آخر غير انها لم تأتِ إلا بعد ثلاثة أسابيع..
استقبلها بابتسامة عريضة، كونه أنجز وعده تجاهها وأتم المطلوب.. التقاها وقد شحبت ملامحها وغابت تعابير الدنيا عن وجهها، تقدمت إليه بخطى ثقيلة ورداء أسود مطالبة إياه بالغاء المعاملة لأن والدها قد رحل إلى السماء.
بعد أن تلقى ربيع صدمة موت الرجل المعوق واحترق بدموع الشابة العشرينية.. أدمى أصبع الندم، وكأنه كان سبباً في موت والدها..
تدهورت حالته النفسية، وبدأت أحاسيس اليأس والاحباط والكآبة تسكن روحه لتحيله على شخص آخر.. شخص مختلف تماماً، وهو الأمر الذي أسهم بتغيير ملامح وجهه المبتهج حتى صار لا يجيد وضع الابتسامة على وجهه، وان كانت لغرض مجاملة من حوله.. مما جعله يعيش حالات من القلق والتوتر والتشاؤم، ليرغم بعد ذلك على تقديم طلب إجازة قصيرة لاستعادة وضعه الطبيعي.
قرر الانزواء في بيته والابتعاد عن عالمه الاجتماعي المشبع بالمفارقات التعيسة.. وبقي مشدود البال، مشتت الفكر لعدة أيام إلى أن راجع وصية أمه التي أعادته إلى الحياة مرة أخرى..
وهو الأمر الذي دعاه للعودة الى وظيفته مستغنياً عن بقية أيام الاجازة، وعاد يحمل مسؤولية إسعاد المُتعبين من حوله على الرغم من شعوره بالتعاسة.. وبدأ يتفانى من أجل حل العقد المتراكمة في دواخل مراجعيه وكأنه طبيب نفسي يعي كل مفاصل عمله.
لم يكن ربيع يتثاقل من شكاوى وهموم مراجعيه، على الرغم من مزاج بعضهم الممتاز بطابع السلبية والعجرفة أحياناً.
كان يُقدر مأساة كل واحد منهم ويعمل على التعاطف مع مشكلاتهم وهو الأمر الذي جعله محبوباً من دون غيره من الموظفين لدرجة ان مراجعيه كانوا يسألون عنه بالاسم ويفتشون عن شخصه من دون زملائه.
لم يكن ربيع موظفاً تقليدياً ينهي ساعات عمله ويغلق أبواب تفكيره حتى صباح يوم وظيفي جديد، وإنما كان دائم الانشغال بالملفات التي تملأ مكتبه، كان يفكر في امكانية انجاز تدقيقها في أقرب وقت..
استعجلته الأيام حتى بات على شرفة التقاعد الوظيفي لبلوغه السن القانوني، كانت التجاعيد قد رسمتْ على وجهه وأثقلت ملامحه، غير انه كان مصراً على الحفاظ على ابتسامته بوجه مراجعيه المعوقين الذين تتجدد قصصهم بسيناريوهات مختلفة، وحكايات يصعب أرشفتها لأنها تمثل حدث الماضي والحاضر المحمل بالعنف والتشوهات والاعاقات..
بقيت حياته الوظيفية ثابتة على النهج ذاته.. لكنه اكتشف بعد إحالته على التقاعد انه بعد تجربته الحياتية الطويلة، انه لم يجد ما يدعو للابتسامة والتفاؤل في هذا العالم، وان كل ابتساماته في وجوه المعوقين ما هي إلا تخفيف مؤقت عن معاناته الأزلية، ومحاولات غير مجدية لتحريك تجاعيد الوجوه المجعدة..

نهار حسب الله

* عن
الصباح الجديد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى