عبدالرزاق دحنون - هات بصلة

قبل عشرات الآلاف من السنين، حين كان العقل البشري ما يزال شاباً وحين كانت أعدادنا قليلة، كنا نروي الحكايات لبعضنا بعضاً. ويمكن القول إن هذه القصص والحكايات قد رويت وأُعيدت روايتها في منازل القصب والطين من مدينة أريحا في فلسطين إلى بلاد الأزتك في أمريكا، ومن ثمَّ هذَّبت هذه القصص شفاه أجيال عديدة من الأمهات قبل أن تُدوَّن على ألواح فخارية من الطين في حضارة وديان الأنهار العظيمة: الفرات ودجلة والنيل والغانج والأصفر والمسيسبي والأمازون.

والآن بعد عشرات الآلاف من السنين ما زال بعضنا يبتكر القصص الطويلة والقصيرة، ويرويها من المنابر في دور الثقافة أو يطرحها لتداول بين أيدي البشر من خلال كتب تحمل حكايات تتعدد طرق عرضها. وما زلنا نشعر بالإثارة أمام غزارة القصص المدهشة على الورق، وعلى خشبة المسرح، وعلى الشاشة الفضية والزرقاء، ومن أفواه الجدات، هي قصص الحب، والحرب، والبحر، والجنس، والنميمة، والدسائس، والمؤامرات، وقصص الحيوان، والنبات، وقصص البطل الخارق، وقصص البصل اليابس، ويخطر في بالي الآن كتاب "تقشير بصلة" للألماني "غونتر غراس"، وقصص حقيقية وأخرى كاذبة، فنحن، بوصفنا جنساً، مولعون بالقصِّ والقال والقيل و"الشوبرة" وهي كلمة وصلتْ إلينا من أهل أوغاريت على الساحل السوري، وتعني استعمال الأيدي في الحديث. وحتى حين يخلد الجسم للنوم، يظل العقل مستيقظاً طوال الليل، يروي قصصاً لنفسه.

هات يا رجل ما عندك، يعني قُل ما عندك. وهَات: فاعل من هَتَّ، وهَتَّ الكلام: سرده وأجاد سياق عباراته، وهات اسم فعل أمر للمفرد المذكّر بمعنى أعطني، وهاتي للمؤنث. أما البصل فمعروف، والمفرد منه بصلة. والبصل جنس نبات زراعي من فصيلة الزَّنْبقيَّات. زراعته عالميَّة وأنواعه كثيرة. ساقه قرص صغير تحت الأَرض تَخرج من أَسفله الجذور ومن أَعلاه أَوراق أنبوبيَّة. ويتكوَّن البصل بالتفاف قواعد الأَوراق بعضها فوق بعض ويَنقسم إلى أصناف من حيث اللَّون الأَحْمر والأَبْيض والأَصْفر. وهو حُلْو وحِرِّيف. يُؤكل مطبوخًا ونيئًا. له فوائد صحيَّة جمّة.

ويُقال بَصَّلَهُ من ثيابه: جرّده. ويُقال أيضاً لا تدخل بين البصلة وقشرتها: النهي عن إفساد ما بين الأصدقاء أو القريبين أو الصاحبين المتحابَّين. ويُقال شتَله شَتْل البصل: جعل رأسَه إلى الأرض ورجلَيْه إلى أعلى ثم نزل به كما يُشتل البصلُ. ونحن في حكايتنا هذه عن البصل نروي أحداثها كما قصَّها صاحبها على مسامعنا، ولن نشتلها رأساً على عقب كما نفعل بالبصل.

هات بصلة أخرى، نادى على المجند في الخدمة الإلزامية للمرة العاشرة، والذي يجلس قرب قصعة مليئة بالبصل اليابس في زاوية الغرفة، يشرب ما يزال من كأس الشاي الذي برد من نصف ساعة، ويُدخن سجائر التبغ المفروم يدوياً في غرفة صغيرة من البلوك الخام، سقفها من الخشب، يُغطيه مشمع من النايلون الشفاف، حتى لا يدلف ماء المطر على السكان في هذا الشتاء الماطر في مقر لواء الدفاعي الجوي على ساحل البحر الأبيض المتوسط. قال المجند الجالس قرب قصعة البصل: أما كفاك بصلاً هذا المساء، ماذا ستطبخ لنا على العشاء مع كل هذا البصل المفروم؟ حدق في وجوه زملائه التسعة ملياً، ثمَّ قال: هات بصلة.

كان اللواء في طور الإنشاء في موقع قريب من بلدة "بملكة" المسيحية من ريف طرطوس على الساحل السوري. وكان على المجندين في هذا اللواء العمل ليل نهار لاستكمال الأبنية الأساسية من إدارة ومخازم ومستودعات ومقرات الضباط ومهاجع المجندين. كان العمل شاقاً ومرهقاً للمجندين الذين يصل حالهم في المساء إلى جرجرة أقدامهم جرجرة المهدود من التعب إلى ما يشبه الغرفة التي بنوها على عجل دون طين. ومن لم يُحالفه الحظ بسرقة البلوك من مخصصات اللواء يسكن خيمة يزرب مطر الشتاء من جنباتها.

المهم في الأمر أن العذاب لا يفارقهم ليل نهار في هذا الشتاء المُطيَّن بالطين. عذاب من شتى الجهات، فهم لا يشبعون من طعام لأن الضباط الكبار في أغلب جيوش العالم من أيام رواية "الجندي الطيب شفيك" للكاتب التشيكي ياروسلاف هاشيك إلى يومنا هذا ما زالوا يأخذون مخصصات المجندين من التعينات ولا يصل إلى هؤلاء التعساء الفقراء إلا النذر اليسير من الطعام المطبوخ الخالي من كل أنواع الدسم. ثمَّ يلعنون في سرهم تلك الساعة التي اصطفوا فيها أما قائد اللواء الذي نادى على المجندين: من يفهم في مهنة البناء او ما يتعلق بها أن يصطف على اليسار. وفعلاً راح الكثير من المجندين يصطف إلى اليسار كي يهرب من عذاب التدريب العسكري المقيت. ومن نداء المدرب: "وراء در، أمام سر، التمرين التاسع خذ وضع، راوح في المكان، منبطحاً، واقفاً، مشية البطة". وكان المجند الذي يفرم البصل أحدهم وقد عُين رئيساً لمجموعة البنائين لأنه يفهم في البناء وأساسياته وشؤونه حيث تعلم مهنة العمارة أباً عن جد في مدينة إدلب في الشمال الغربي من سورية.

كانت الشمس قد غربت من أكثر من ساعة حين سمح الضابط المناوب لمجندي ورشة البناء بالانصراف، وبذلك انتهي يوم العمل. وصلوا يُجرجرون أقدامهم إلى المقطورة العسكرية التي تقف في ساحة اللواء ليغسوا أيديهم ووجوههم بماء بارد، ويتوجهوا سيراً على الأقدام على شكل طابور خلف بعضهم بعضاً بخطوات وئيدة إلى تلك الغرفة المصنوعة من البلوك الخام. تلك الخطوات البطيئة المتمهلة لا تستعجل الوصول إلى مستقر لها معتم بارد ترشح الرطوبة والكآبة من جنباته.

بعد أن تربع زملاء العمل في أماكنهم المعتادة ساد الصمت جو الغرفة. كسر هذا الصمت الصوت القادم من جهة اليسار حيث سرير قائد المجموعة: جوعانين يا شباب؟ حرَّك السؤال النفوس التي تستريح في أسرتها العسكرية من تعب اليوم، فنهضت ببطء وغيّرت من أوضاع تمددها الرتيب التي تعودت عليه من طول مقامها في هذا الحيز الضيق. كانت هذه النفوس تعلم علم اليقين أن لا شيء يؤكل في غرفة المجندين الفقيرة هذه غير البصل اليابس، ولكن أحدهم صاح مُجاملاً: "جوعانين".

هات بصلة، صاح قائد مجموعة البناء بعد أن وضع دفَّة الفرم وسن السكين بظهر صحن مكسور من الخزف الصيني المورد. حين سمع كلمة "جوعانين" فكًر بصمت: الخبز موجود والملح أيضاً، والسمن موجود مع أنه قليلة، والبصل وفير. هذا كل ما كان في الغرفة من مكونات الطعام. فكَّر كثيراً قبل أن يُنادي زميله: هات بصلة. وأضمر أمراً في نفسه. لا حل آخر: هات بصلة.

كادت قصعة الألمنيوم العسكرية التي يفرم فيها أن تطفح بالبصل المفروم وراحت رؤوس المجندين تعمل بصمت وتسأل في صمت أيضاً: ماذا سيطبخ لنا؟ فكان الجواب: هات بصلة. وساد الصمت من جديد. ولكن القصعة كانت قد امتلأت فعلاً بالبصل المفروم حتى حوافها. حينها وضع قائد المجموعة دفَّة الفرم جانباً، ثمَّ مسح السكين بطرف كمه، ووضعها في شق عمودي بين بلوكتين في الجدار القريب من سريره. وبحركة رشيقة قرَّب موقد الغاز إلى مكان جلوسه في الفسحة المتبقية من أرضية الغرفة والتي احتلت القسم الأكبر منها قوائم أسرَّة المجندين.

بملعقة كبيرة من الخشب "شحر" ما تبقى من سمن في قعر قطرميز من البلور ثمَّ وضع السمن في قصعة ألمنيوم فارغة وأشعل تحتها موقد الغاز وحين ذاب السمن بدأ يُلقِّم القصعة بقيضته حفناً من البصل المفروم، وكلما ذبلت كمية البصل في القصعة وضع حفنة جديدة حتى فرغت القصعة من بصلها المفروم.

بعد ربع ساعة من سماع صوت ارتطام معلقة الخشب بجدران القصعة الألمنيوم، ظلَّتْ عيون المجندين خلالها تُراقب هذا المشهد العجيب من هذا العشاء الشتوي الفقير. أخيراً مدَّ قائد المجوعة يده وأخرج علبة الملح فتحها وبدأ يزن بملعقة الخشب كمية الملح اللازمة ثمَّ بحركة رشيقة أعاد علبة الملح إلى مكانها تحت السرير.

بعد دقيقة من تمليح القصعة نضج هذا الحميس من البصل المفروم، شال قائد المجموعة القصعة عن نار الموقد ووضعها على دفة الفرم حتى لا يبرد الطبيخ بسرعة. فك كيس الخبز المربوط ووزع الأرغفة في دائرة حول القصعة، قسم ربع رغيف من الخبز وغمسه في القصعة وبدأ يأكل في صمت. بعد حين اقترب أحد المجندين من "سفرة العشاء" وجلس قرب قائد المجموعة، تناول رغيفاً وقسمه أرباعاً، ثمَّ راح يغمس لُقم الخبز في القصعة ويأكل. أصابت العدوى الجميع فنزلوا بالتتالي عن أسرتهم وتحلقوا حول القصعة يأكلون ما فيه النصيب وما قُسم لهم في قصعة واحدة.

حين أنهى مُحدثي قصته هذه عن حميس البصل تذكرت "الجندي الطيب شفيك" وما جرى له في الحرب العالمية الأولى، هذه الشخصية التشيكية الأصيلة التي خلَّدها ياروسلاف هاشيك في روايته تُعد نموذجاً حياً ما يزال عن مأساة هذا المُجند الذي يحاول العيش وتدبر أمره في بيئة مُعادية. فهل ينجح؟ لا ندري. ولكنني أسمعه يُنادي حتى اليوم: هات بصلة.

فوائد البصل في فيديو:

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى