مصطفى البلكى - العالم الآخر..

صوت نعاس أمي كان أشد وطأة وأسرع من صوت جدتي, كانت تنام قبلي, فتمنحني فرصة أن أتأملها, أدركت فيما بعد أن نصف ملامحها انتقلت ليحل محلها ملامح أبي, والنصف الآخر متعب جدًا, وهذا النصف بالذات اعتقلني كثيرًا.
حينما كنت أخاف وسط الليل, كنت أمد يدي لألمس وجهها, كانت تتنهد وتفتح عينيها, تنظر إليّ وتقول كلمتها الوحيدة :
ـ نم.
أصمت ولا أجيب, أضع علامة خوف كبيرة, وأغرق مع الوحدة في ليل طويل, وأظل أحرس وجه أمي حتى لا يغتاله حلم ثقيل, كنت أغيب كثيرًا فأكتشف تفاصيل الحياة التي لم تكن واضحة, أغيب وأحضر المفردات, كل شيء كان يعيد ترتيب نفسه, وفي الصباح أتبعها وهي تدخل غرفتها, لترتمي على سرير تصر على ترتيبه, وعندما تنتهي, تبكي حتى تفقد عيناها البريق الذي كان يميزهما, كنت بعد لم أعرف أن المرأة التي غاب عنها زوجها ستكون حزينة وتكون في حلم دائم به, تستعيد همس صوته, وعزف أنامله على جسد يمنحه نغمته التي تحييه.
والدي كان يأتي من شرق البلدة حيث سكنه, ليحتل جسد أمي ليلاً, يوقظها, فتمضي كامرأة نائمة في هودج الذكرى, لتشق طرقات البلدة وهي تحمل فوق رأسها ماء غسله.
في الصباح, أمي لم تكن حريصة على كنس الدار, ولا رش الماء أمام عتبته, وذات مرة وجدتني أمسك بالعرجون, جن جنونها, وطاردتني في أنحاء الدار, وعندما تعبت جلست منهكة, غير آبهة بي وأنا أدنو منها, الآن أتذكرها وهي تخبرني أن بقاء البيت على حاله هو بمثابة فعل تحافظ به على طيف والدي الذي زارها!
كانت تجلس في أركان معينة في البيت, وتتوه, كنت أسكت وأجلس بالقرب منها ولا أوقظها حتى لا ينكسر خاطرها, ولأظل في حياد بين ما وجد بداخلها وبين ما سوف يكون لو أيقظتها, كنت أفتح الباب لأشد الضجيج لداخل البيت.
حينما لا أجدها كنت أبحث عنها في أنحاء الدار, أختلس النظر في الغرف الخاوية, وفي الحوش الذي تسكنه النخلات, وجدتها مرات كثيرة غافية ورأسها تسنده إلى جذع نخلة, وذات مرة, رأيت دموعها وهي تنساب, فتعطلت بداخلي لغة الكلام, وبعد صمت مددت يدي ولمست قمة كتفها: أمي
وقت أن رفعتْ وجهها أدركتُ أنها الوحيدة الناجية, ركلتُ بزهو كل ما يدور بداخلي, فتبدد, وتلاشى ما كنت أود قوله, ركضت بعيدًا لخارج البيت, وفي الطاحونة القديمة, تساقط كل ما لمحته, ولأن الزجر وحده يقصر عمر اللحظة, لم أفعله, لأنها حينما نظرتْ إلىّ كان وجه والدي كاملاً يحتل ملامحها, رأتني وقالت لي:
ـ اصمت...


ـــــــــــــــــــــــــــــ
من مجموعة حكايات مبتورة...دار أطلس 2019



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى